صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

سيرة جهاد وشهادة القائد الحاج محمد بجيجي‏

الشهداء لا يموتون‏: سيرة جهاد وشهادة القائد الحاج محمد بجيجي‏

الشيخ أحمد إسماعيل


مبارك هو اليوم الذي ولد فيه أبو حسن محمد حسين بجيجي. وغالية هي تلك اللحظة التي فتح فيها عينيه على الدنيا حتى يخال المرء أن نظرته الأولى على هذه الحياة كانت إشراقة وعي لزيف الدنيا. حمله رحم طاهر بحكم أن المولود مميز وهو شعلة نبوغ وشتلة من شتلات العظماء. لم تعلم والدته الحاجة زينب أنها تنتظر طفلاً يتجاوز في وعيه سنوات الطفولة، ويكبر بعقله وبصيرته قبل أن ترسم لحيته على وجهه معالم  الشباب وعنفوانه.

*الطالب والمعلم‏
ولد الشهيد في بلدة مشغرة الأبية، في 1 - 8 - 1948م. درس في مدرسة بلدته الرسمية وتدرّج في صفوفها حاصداً نجاحات متتالية، وقد كان محط أنظار المعلمين والطلاب للمستوى الذي كان عليه،  والتعقل الذي كان ملمحاً من ملامحه الشخصية. انتقل إلى العاصمة بيروت ليكمل دراسته في دار المعلمين، وبعد أن أنهى دراسته عاد إلى  بلدته مشغرة ومدرسته الرسمية ليكون معلماً فيها. انطلق الشهيد في عمله الإسلامي ضمن النادي الإسلامي من خلال اللجنة الثقافية في مشغرة، وأخذ يعمل على إنشاء نواة العمل الإسلامي،  وكان دائم السعي لفعل ما يرضي اللّه تبارك وتعالى، فقد شارك في دورة عسكرية في عين التينة عام 1974. ولما انتقل إلى بيروت لمتابعة  دراسته في كلية الحقوق هذه المرة، تابع نشاطاته عبر اللجنة الثقافية الإسلامية في الشياح وأسس مع إخوة له آخرين مكتبة الشهيد مطهري.

*أستاذ متعدد المواهب‏
كم كانت فرحته عامرة حيث لم تكن الدنيا تسعه بما رحبت حين انتصرت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 فقد نظّم مسيرة تأييد لها  معلناً أمام أهل بلدته الولاء الكامل لهذه الثورة وقائدها الإمام الخميني. بقي الحماس عند الشهيد محمد متوقداً إلى أن جاء الاجتياح الإسرائيلي سنة 1982م فازداد نشاطه توقداً وقلبه توهجاً واشتعلت الحماسة  الحسينية في قلبه وروحه، حينها وقف في مسجد مشغرة مخاطباً أهلها بضرورة قتال الغدة السرطانية إسرائيل ودعا في كلمته إلى التصدي  والمواجهة مهما كانت الإمكانيات ضعيفة. ولما كان القرار من كل القوى الفاعلة في تلك الفترة الانسحاب غادر مع جملة المغادرين إلى بعلبك وكان سكنه في بلدة النبي شيت مع عائلته  المؤلفة من الزوجة وخمسة أولاد: حسن وأحمد وعناية وبتول وزينب. لم تكن المغادرة حباً في الدّعة والراحة، إنما كانت من أجل الاستعداد للمواجهة، يدل على ذلك التحاقه بأول دورة عسكرية مع الأخوة الحرس  الذين بثوا الروح المعنوية في نفوس المجاهدين، وقد كان الشهيد أبو حسن مورد إعجاب كل من شاهده في تلك الدورة، بل إنه اختير لإلقاء  الدروس العقائدية والسياسية في الدورات التالية، ولكم كان أسلوبه أخّاذاً وطريقته جذّابة، إنه بحق أستاذ متعدّد المواهب.. لم يكن يعير الدنيا  أهمية وروحه كانت منشدّة إلى العالم الآخر.

*في طريق الجهاد
عمل الشهيد على تشكيل نواة المقاومة الإسلامية في البقاع الغربي مع الشهيد الحاج نصّار نصّار والشهيد رضا الشاعر والشهيد علي حسين  مرعي وآخرين من الأحياء. شارك مع الشهيد نصار نصار بعملية استطلاع لكل مواقع المحتل في البقاع. نقل العديد من الأسلحة عبر الجبال مع بعض الأخوة المجاهدين إلى البقاع الغربي. شارك في عملية (لوسي السريرة) النوعية وفي عملية اقتحام موقع عين الخوخ التي استشهد فيها الشهيد علي العمار. كان له شرف المشاركة في العديد من الكمائن التي كانت تنصبها المقاومة الإسلامية في تلال الجبّور والديدبة في البقاع الغربي. ولأن الشهيد القائد كان يجسِّد بكل حياته التحدّي الكبير مع بقية إخوانه، فقد رجع إلى بلدة مشغرة جاعلاً منها منطلقاً للمواجهة، فكان للمجاهدين  الرمز الكبير، وللناس مرجعية اجتماعية وروحية، لقد شكل بحق شوكة في عيون المحتلين الذين قرروا بدورهم وضع حدّ لجهاده، فأرسلوا أحد  المحرّرين من معتقلاتهم لاغتياله لقاء عروضات مالية مغرية لكن لطف اللَّه حال بينه وبين الإغتيال فجاء المكلّف بالمهمة إلى الحاج محمد  معترفاً له بذنبه طالباً منه المسامحة فقابله بابتسامته المعهودة. تعرّض الشهيد للعديد من محاولات الاغتيال كان من جملتها أن وضعت له عبوة ناسفة قرب منزله وبحكم "إن اللَّه يدافع عن الذين آمنوا"  انفجرت العبوة بمن زرعها قرب بيته ونجا الحاج من عملية كانت بنظر المحتل بحكم الناجحة والناجزة.

*الروحية المتجددة دوماً
حقق اللَّه لأبي حسن أمنية غالية طالما انتظرها وتلهّف لها في دار الدنيا وهي اللقاء بالإمام الخميني قدس سره وهو بنفسه تحدّث عن هذا اللقاء  بعد عودته وأن دموع عينيه كانت تنهمر على وجنتيه عند رؤية الإمام وطالما حدّث الشهيد زوّاره عن مسحة النور الإلهية التي رآها في وجه  روح اللَّه الموسوي الخميني قدس سره. كانت يوميات الشهيد الحاج محمد لا تشبه يوميات أحد، لا ليله ولا نهاره، ليله هو ليل العابدين المصلّين الراكعين الحامدين الساجدين  المرابطين، ونهاره نهار المجاهدين أصحاب الهمم العالية ومشاريع الخير ومساعدة الناس وهو الذي كان يقول لزوجته الحاجة المجاهدة أجّلت  نومي وراحتي إلى الجنة. أنسه كان بذكر اللَّه، ألم يقل اللَّه سبحانه ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ؟ فكان للَّه ذاكراً حامداً متهجداً، وهو الذي أنس بالقرآن الكريم وعلّمه  لأطفاله حتى أصبحوا يحفظون الكثير الكثير من آياته والسور. كانت صلاة الليل عنده هي محطة الاستلهام وشحنة الروح المتجدّدة دوماً بعبق أريج أنفاس العابدين، والاستماع إلى مجالس العزاء الحسيني  كانت بدورها تحدث في قلبه ثورة على الظلم لا تهدأ ولا تعرف النوم طالما أن المقدسات عرضة للخطر.

*حركة لا تعرف الملل‏
كان يجد ضالته في عمله الدؤوب وجهاده الذي لا يعرف الملل، فهو ما بين منشغل بحاجات الناس حين كان يفتح أبواب منزله على مصراعيه،  وبين متابع دقيق لعمل المقاومين ومراقب غير عادي للأوضاع السياسية، ومواكب لأخبار الكيان الغاصب داخل فلسطين، وغارق في الكتب  الثقافية التي كان يجد فيها نفسه وخصوصاً كتب الشهيد الشيخ مرتضى مطهّري. من يحدّث الحاج أبا حسن عن الراحة كان يقول له: "من أراد أن يرتاح قليلاً فليذهب إلى الجبال، إلى الجبور والديدبة، هناك يشعر المؤمن  بالراحة فعلاً وهو قريب من المجاهدين، حيث الدعاء المميز والصلاة حتى الرصاص لأن رصاصات المجاهدين تنطلق في سبيل اللَّه وهي  تختار هدفها بدقة". هاجس واحد كان يحكمه، وهو الذي جعله يتمنّع عن استلام العديد من المواقع الأساسية في مسيرة الجهاد، هو همّ الاستشهاد  في سبيل اللَّه. كان الطامح إلى ما هو أعلى وأزكى وأطيب وأطهر متعالياً عن دنيانا نحن ومفاهيمنا التي هي أشبه بالدنيا التي ناقضت مفاهيمه  التي هي أشبه بالآخرة، وهو الذي سأل المولى عزَّ وجلَّ أن يرزقه توفيق الشهادة وأن يجمعه مع إخوانه الذين سبقوه إلى جنات الخلد.

*قصة العروج‏
يخبره أحد إخوانه أن اليهود قرب تلة الديدبة في خراج بلدة زلايا فيستبشر الحاج بالخير ويقول له: "إذا كانوا يهوداً حقاً فسأعطيك هدية إذا عدت  حياً" وينطلق مع المجاهدين إلى المواجهة البطولية التي قادها بنفسه ضد أولئك المتسللين، بعد أن توضأ وصلّى وهو يدعو اللَّه أن يرزقه  الشهادة واضعاً نصب عينيه أسر عددٍ منهم من أجل تحرير الحاج أبي يحيى العنقوني، وبدأت خطة الهجوم حيث تقدم المجاهدون على عدة  محاور لتطويق الغزاة فتدور اشتباكات عنيفة، ويتصدّى هو بثباته المعهود ويرمي على الصهاينة ثلاثة قنابل ويُفرغ مخازن رشاشه الثلاثة ويبدأ  بوضع المخزن الرابع ولما بدأ يطلق النار من جديد، وفي أجواء كانت المعركة فيها غاية في الشراسة وغزارة النيران كأنها وابل المطر، في  تلك الأجواء التي استعدّت فيها الجنان لفتح أبوابها لاستقبال المجاهدين الشهداء يُصاب أبو حسن في رأسه ويقضي شهيداً ملتحقاً بالأبرار  والصدّيقين والشهداء وتستمر المعركة إلى أن ينسحب العدو إلى الخلف بعد أن تكبّد العديد من القتلى والجرحى. أنيس المجاهدين يا أبا حسن كأني بك تنطق حياً وميتاً، فلقد كان صمتك يحكي ثورة وبسمتك تحكي ما أعدّ اللَّه للمجاهدين، حتى كأن بسمتك  تقول: أنا لم أمت فالأموات هم أولئك القابعون في زوايا شهواتهم ورغباتهم، أنا لم أمت، بل رحلت من عالم الفناء إلى عالم البقاء، أنا لم أمت  هذا ما قاله ربي وعبَّر عن أولئك الغافلين بقوله تعالى: "وأنتم لا تشعرون". فهل يمكن لمن أعطى وجاهد وصبر وقاتل أن يكون ميتاً ومن استسلم لخنوعه الذي تموت فيه إحساساته وإرادته كل يوم أن يكون حياً؟!

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع