نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

الأسس الفكريّة للتشيّع ما بين العقل والنص والوسطيّة

الشيخ محمد حسن زراقط*

 



* تمهيد:
تمثل العناوين المستخدمة في العنوان أعلاه محاور أساسية لجدل انقدحت شرارته الأولى في مرحلة مبكرة من مراحل نشوء الفكر الإسلامي ورافقته إبان تطوره وما زالت حتى عصرنا هذا. ويمد كل واحد من هذه المفاهيم جذوره في القرآن الكريم، فعن الوسطية يحدثنا القرآن قائلاً:
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴿143﴾(البقرة)، وعن العقل، فإنك أنّى سرّحت بصرك في كتاب الله تجد حديثاً عن العقل تلميحاً أو تصريحاً إشارة أو تلويحاً، ومن ذلك قوله تعالى في آيات كثيرة موجهاً خطابه إلى أصحاب العقول: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى﴿54﴾(طه) وكذلك قوله: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ، وما شابه ذلك من تعبيرات يصعب حصرها في مثل هذه المقالة.


وأما النص فقد يكفي للدلالة على أصله القرآني أمره سبحانه وتعالى بطاعة النبي صلى الله عليه وآله والانقياد له في آيات عدة من كتابه عز وجل ومن ذلك قوله سبحانه: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴿7﴾(الحشر) وكذلك قوله عز وجل: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُون حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴿65﴾(النساء)، وهذا باعتقادي غاية ما يمكن أن يعبر به عن وجوب الطاعة ولزومها في الإيمان. وعلى أي حال ورغم وضوح هذه العناوين مصدراً ومورداً، فقد كثر الجدل حولها في مقام التطبيق والعمل، وسعى الإمام الصادق عليه السلام بوصفه واحداً من أساطين مدرسة الإمامة ودعامة من دعائم المسيرة النبوية إلى تركيز هذه المفاهيم تصوراً وتطبيقاً. وسوف أحاول في هذه الصفحات إظهار بعضٍ مما حاول عليه السلام، ودراسة شيء مما يحيط بهذه المحاولات.

* الوسطية:
يتبين من خلال الرجوع إلى كتب اللغة أن كلمة وسط التي هي أصل لمصطلح الوسطية تدل على معانٍ عدة منها: "وسط الشيء: ما بين طرفيه... كقولك: جلست وسط الدار... واعلم أن الوسط قد يأتي صفة من جهة أن أوسط الشيء أفضله وخياره... ومنه الحديث خيار الأمور أوساطها... [ومنه] قوله تعالى وتقدّس: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴿143﴾(البقرة)؛ أي عدلاً..."(1)، وفي القرآن الكريم تكررت مشتقات هذه الكلمة خمس مرات ما يعنينا منها في مقالتنا هذه موردان:

الأول: ما أشرنا إليه أعلاه وهو قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴿143﴾(البقرة).
الثاني: قوله تعالى: ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ﴿28﴾(القلم).

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ما المراد من الوسط في هاتين الآيتين؟ ولذلك لا بد من الوقوف هنيهة للقول: إن كلمة "أوسط" في المورد الثاني تدل على معنى الأفضل والمعتدل، فهو أوسطهم أي أفضلهم وأوفرهم خيراً، وفي المورد الأول خلاف، ففهم منها بعض المفسرين المدح كما في المورد الثاني(2)، ولكن ربما لا يفهم منها المدح ولا الذم لأنها وردت في مسألة القبلة في الصلاة عندما أمر الله نبيَّه أن يتوجه إلى القبلة بعد أن كان يتوجه إلى بيت المقدس، فصارت قبلة المسلمين وسطاً، أي لا تشبه قبلة النصارى ولا قبلة اليهود. وفي الموردين ما يذكر بشكل أو بآخر بما ينقل عن الفلسفة اليونانية في نظرية أرسطو الأخلاقية؛ حيث يرى أن الفضيلة هي الحد الوسط بين الإفراط والتفريط، فالكرم هو الوسط بين رذيلتي البخل والإسراف، والشجاعة هي الوسط بين رذيلتي التهور والجبن وهكذا (3). وإذا قبلنا هذا المعنى على أنه اصطلاح خاص في هذا المجال، واعتبرنا أن المقصود من الوسطية هو الاعتدال والبعد عن التطرف على أن لا يخرج من ساحة الحق وضمن ضوابط الشرع وقواعده، فإننا نجد أن هذا المفهوم قد تجلى بأسمى أبعاده عند الإمام الصادق عليه السلام وقد مارسه كأفضل ما تكون الممارسة المسؤولة المتوقعة من أمثاله فقد راعى الوسطية في موارد عدة منها:

- موقفه من الآخر مذهبياً:
لقد كان عصر الإمام الصادق عليه السلام عصر الاضطراب السياسي والفكري وعصر الصراعات المذهبية التي عصفت بالأمة الإسلامية آنذاك. ومع كل الاصطفافات التي غص بها ذلك العصر فإننا نجد أن الإمام عليه السلام كان ملتقى مختلف المشارب والاتجاهات. ومن هنا سجل التاريخ الإسلامي أنه كان أستاذاً لكل من أصحاب المذاهب الإسلامية التي نشأت في ذلك العصر، إما بالواسطة أو بالمباشرة. ويكفي لإثبات ما ندعي في هذا المجال مقولة واحد من أصحاب المذاهب الأربعة في الفقه الإسلامي حيث كان يفتخر ويردد: "لولا السنتان لهلك النعمان". وأما على المستوى الاجتماعي الإنساني فإننا نجد أروع التوصيات الأخلاقية قد رويت عنه عندما سأله أحد أصحابه كيف نتعامل مع من لا يوافقنا في توجهنا من سائر المسلمين، تقول الرواية: "عن معاوية بن وهب قال: قلت له: كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا من الناس ممن ليسوا على أمرنا؟ فقال: تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون ما يصنعون، فوالله إنهم ليعودون مرضاهم، ويشهدون جنائزهم، ويقيمون لهم وعليهم الشهادة، ويؤدون الأمانة إليهم"(4). ولا أحسب أن هذه الرواية تحتاج إلى تعليق، سوى الدعوة إلى اتخاذها منهجاً للتعاطي مع الآخر المختلف بعيداً عن انتمائه ومحتده.

* بين الجبر والتفويض:
يعرف كل من خبر الفكر الإسلامي النزاع المرير الذي أصابه، وربما شغله بحسن نية أو سوء نية وأدى إلى انقسام المسلمين إلى طائفتين اتخذت كل منهما موقفاً نقيضاً للأخرى في مسألة علاقة الله بالكون والإنسان. فمال فريق إلى القول بأن الله هو الذي يخلق ويفعل ولا فاعل غيره في الكون، وفي تحليل السبب الداعي إلى هذا الموقف نظريات منها أن السلطة الحاكمة كانت تروج لفكرة سيطرة الله التامة على كل ما في الكون من كبير وصغير وخير وشر، بهدف تبرير انحرافها ونسبته إلى إرادة الله، وإن لم نقبل هذا التحليل وأحسنا الظن، أرجعنا سبب هذا الموقف إلى رغبة أصحاب نظرية الجبر بتنزيه الله عن الشريك في الخلق والسيطرة على ما في الكون.

وعلى الضفة الأخرى نشأ تيار عرف بتيار الاعتزال وسمي أصحابه بالمعتزلة حاولوا تنزيه الله عن نسبة الأفعال السيئة إليه فدعوا وروجوا إلى فكرة مختلفة تماماً، حاصلها أن الله خلق هذا الكون وفوض أمره إلى الإنسان أو غيره من الكائنات، وسميت هذه النظرية بنظرية التفويض. وبين الجبر والتفويض، تارة كان يفقد الله سلطته على الكون، وأخرى كانت تنسب إليه كل فظائع العباد وشرورهم. وفي الحالتين كان الخاسر الأكبر هو الفكر الديني. وفي هذا الخضم المتلاطم طرح الإمام الصادق عليه السلام بوصفه الممثل لمدرسة الإمامة في الفكر الإسلامي نظرية لا تنسب أفعال الناس بما فيها شرورهم إلى الله، ولا تقيد يده فتجعلها مغلولة إلى عنقه تعالى عن ذلك علواً كبيرا. فكانت نظرية عبر عنها بالقول المشهور: "لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين".

* بين النص والعقل:
في الفترة عينها التي عايشها الإمام الصادق عليه السلام، وعاش فيها أو عاشت به، كان المسلمون بين من يرى أن النص أي السنّة المنقولة عن النبي صلى الله عليه وآله لم تعد كافية لتغطي حاجات المسلمين على الصعيد الفقهي فبرزت الدعوة إلى اللجوء إلى مصدر آخر هو العقل تحت عنوان القياس وغيره من العناوين المشابهة، وفي المقابل تحجر آخرون فلم يسمحوا بالحياد عن النص المنقول مهما كانت الظروف والأسباب والنتائج. وأما الإمام الصادق، فكان تارة ينكر على هؤلاء وأخرى على أولئك فنجده ينبه أحد أصحابه أبان بن تغلب إلى تحليله العقلي في مقابل النص فيقول له: "مهلا يا أبان، هذا حكم رسول الله صلى الله عليه وآله، إن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف، يا أبان لقد أخذتني بالقياس، والسنّة إذا قيست محق الدين"(5). ومن الباب نفسه تحذيره لأبي حنيفة مؤسس المذهب الحنفي من الإفراط في الاعتماد على العقل في روايات عدة لا يسمح المجال بذكرها. وفي المقابل نجده يحرص على إعلاء قيمة العقل فيرفعه إلى أرفع منزلة حيث يروى عنه: "إن الثواب على قدر العقل"(6). "وعن إسحاق بن عمار قال: قلت له: جعلت فداك إن لي جاراً كثير الصلاة كثير الصدقة، كثير الحج لا بأس به. قال: فقال: كيف عقله؟... قلت: جعلت فداك ليس له عقل. قال: لا يرتفع بذلك منه"(7).


* المدير المسؤول في مجلّة الحياة الطيّبة.
1- انظر: ابن منظور؛ لسان العرب؛ مادة وسط.
2- انظر: الراغب الأصفهاني؛ المفردات في غريب القرآن؛ مادة وسط؛ ص: 522.
3- انظر: مجتبى مصباح؛ فلسفة الأخلاق؛ ترجمة محمد حسن زراقط؛ ط: 1؛ معهد الرسول الأكرم؛ 2002م؛ ص: 112.
4- الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي؛ وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة؛ تحقيق مؤسسة آل البيت لإحياء التراث؛ مج: 12؛ ص: 6.
5- المصدر نفسه؛ مج: 29؛ ص: 352.
6- الأصول من الكافي؛ باب: العقل والجهل؛ الحديث: 8.
7- المصدر نفسه؛ الحديث: 19.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع