نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

قواعد بناء أسرة سعيدة ومجاهدة

 السعادة الزوجية بين التبعية والشراكة

أميرة برغل(*)


* ما هي طبيعة العلاقة بين الزوجين في الأسرة السعيدة والمجاهدة؟ وعلى أي أساس يجب أن يتم التعامل فيما بينهما؟
كثيرة هي النقاشات التي تدور وتحتدم حول ما يجب أن تكون عليه العلاقة بين الزوجين، وتتوزع آراء الناس عادة بين ثلاثة من أنماط العلاقة. فقسم يعتقد بأن العلاقة بين الزوجين يجب أن تكون علاقة تبعيّة، وقسم يطالب بعلاقة الندّيّة، وقسم ينادي بالشراكة المسؤولة. والمقصود بعلاقة التبعيِّة، أن يكون أحد الطرفين تابعاً للآخر. فهناك رئيس وهناك مرؤوس، هناك من يأمر وهناك من يطيع؛ أي هناك جهة تفكر وتخطط وجهة تتلقى وتنفذ. ومبرر اعتماد هذا النمط في نظر المعتقدين به، قناعتهم بأن استقامة الأمور داخل أي مؤسسة، صغيرة كانت أم كبيرة، لا يمكن أن يتحقق إلاّ بوجود مرجعية واحدة آمرة: "فالمركب الذي فيه راسين بيغرق" كما يقول المثل الشعبي. والمقصود بعلاقة الندّيّة، والتي هي غالباً ردة فعل على علاقة التبعية، التساوي الكامل بين الطرفين في الحقوق والواجبات. فلا رئيس ولا مرؤوس، بل كلاهما مفكر وكلاهما آمر؛ أي ما يحق لأحدهما يحق للآخر بالتمام، وما يجب على أحد يجب على الآخر على حدٍ سواء.

ومبرر هذا النمط، عند المنادين به، أن كلاً من الرجل والمرأة إنسان حرٌ، مريدٌ ومستقل. وأن إلغاء أحد الطرفين لإرادة الآخر هو حرمان للمجتمع من نصف قدرات أفراده العقلية وبالتالي تعطيل للكثير من الطاقات الإبداعية فيه. فمن لا يقرر لا يفكر، ومن لا يفكر لا يبدع. أما المقصود من علاقة الشراكة المسؤولة فهو ترتيب يتقاسم فيه الزوجان المهام والصلاحيات بالشكل الذي يتناسب مع طبيعة كلٍ منهما وقدراته وخبراته والدور المرتجى منه داخل الأسرة وخارجها وفق رؤية واضحة تحكمها مصلحة الأسرة والرسالة معاً. ومبرر هذا الفريق، في تبنيه لهذا النمط دون سواه، هو الاعتقاد بقدرته على تحصيل ايجابيات النمطين السابقين دون الوقوع في محاذير سلبياتهما. إذ أن علاقة الشراكة تتميز عن علاقة التبعية في كونها تحدد مرجعية لحسم القرار من دون تعطيل لتفكير أحد الطرفين أو إلغاء لوجوده. فالشريك يستشير شريكه في كل الأمور المشتركة وعند الاختلاف يأخذ كل شريك القرار في المساحة التي أوكلت إليه والتي تم الاتفاق عليها بالتراضي منذ البدء. كما أنها (أي علاقة الشراكة) تتميز عن علاقة النديّة في كونها تفسح المجال أمام كل شريك في الإحساس بالكفاية والانجاز وممارسة حقه في التفكير والتطور والإبداع بعيداً عن أجواء التحدي والتشنج التي تُعقِّد ظروف الحياة الزوجية وتنسف أجواء الحب والاستقرار فيها. فالشريك هنا لا يطالب بنفس مهام وصلاحيات شريكه، بل يؤمن بمبدأ تكامل الأدوار وتقاسم المهام والصلاحيات بصرف النظر عن حجمها وأهميتها الاعتبارية، فالمهم أن يؤدي كلٌ تكليفه بالشكل الذي يحقق مصلحة الأسرة والرسالة معاً. وفي اعتقادنا أن هذا النمط الثالث هو النمط المتناسب مع بناء أسرة سعيدة ومجاهدة.

 وهو الأقرب إلى مضمون الوصايا والتعليمات الواردة في الآيات القرآنية والأحاديث المتعلقة بمسألة الزواج والأسرة. فهذا النمط وإن كلف الزوج أحياناً بعض التنازلات، أو فرض عليه إضاعة بعض الوقت في النقاش والاستماع، إلاّ أنه يوفر عليه، في المستقبل، أوقاتاً أخرى، بسبب ما سوف تمتلكه الزوجة من قدرة على أخذ القرارات ومواجهة التحديات في بعض المنعطفات الصعبة. وشاهدنا في ذلك الأسرة النموذجية التي تأسست بين النور والنور: علي وفاطمة عليهما السلام . فمنذ بداية رحلة حياتهما المشتركة تقاسما برعاية من رسول اللَّه صلى الله عليه وآله المهام المتعلقة بشؤون الأسرة؛ فتولت فاطمة عليها السلام عمل البيت والعجن والخبز وتولى علي عليه السلام الاحتطاب والسقاية والمجي‏ء بالطعام. وخلال مسيرة حياتهما المشتركة كان لكلٍّ منهما إرادة، في مساحة ما، يقر بها ويحترمها الآخر. كما يتضح مما ورد على لسان علي عليه السلام في وصفه لطبيعة العلاقة التي سادت بينهما، حيث قال عليه السلام: "فواللَّه ما أغضبتها ولا أكرهتها على أمر، حتى قبضها اللَّه عزَّ وجلِّ. ولا أغضبتني ولا عصت لي أمراً، لقد كنت أنظر إليها فتنكشف عني الهموم والأحزان".

* سمو الأهداف ومنطق العلاقة
كان هذا بالنسبة للسؤال الأول حول ما يجب أن تكون عليه طبيعة العلاقة بين الزوجين في الأسرة السعيدة والمجاهدة في آن. أما بالنسبة للسؤال الثاني والمتعلق بالمنطلق الذي يجب أن يتعاملا فيما بينهما على أساسه؛ فيجب أن يكون أيضاً متناسباً مع سمو الهدف الذي جمع بينهما. فالشريكان الراغبان في تأسيس أسرة تمكنهما من القيام بدورهما في خلافة اللَّه على وجه الأرض، ينظران إلى هذه الأسرة على أنها الساحة الأساسية التي يمكنهما من خلالها إنضاج سيرهما التكاملي نحو اللَّه تعالى. وبتعبير آخر: ساحتهما الأولى التي يمكنهما أن يتدربا فيها، عملياً، على التقوى. فالتقوى صفة لا يمكن اكتسابها، إلاّ من خلال النجاح في اختبار المعاملة، تحديداً في التعامل مع الآخر المختلف. وواضح أن أولى دوائر الاختبار الحقيقي للعلاقات الإنسانية لا تتم إلاّ داخل الأسرة. ويمكننا الاستدلال على ذلك بالربط الظاهر بين موضوع التقوى والزوجية في الآيتين التاليتين: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (الحجرات: 13) و﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (النساء: 1). وحيث أن التقوى تقتضي، ممن يسعى للتحلي بها، التفكير في الواجب أكثر من التفكير في الحق، يتوجب على الشريك التقي (زوجاً كان أم زوجة) أن يهتم بما قدم أكثر من اهتمامه بما أخذ أي ما يجب عليه أكثر مما يجب عليه. وفرق كبير في التعامل بين زوجين يسعى كلٌ منهما إلى إسعاد الآخر، وبين زوجين يسعى كلٌ منهما إلى إسعاد نفسه. وعليه، نستطيع أن نقول أن الأساس الذي يجب أن يقوم عليه أسلوب التعامل بين الزوجين في الأسرة السعيدة والمجاهدة هو ثقافة العطاء لا ثقافة الأخذ. أو فلنقل ثقافة العطاء في الدنيا من أجل الأخذ في الآخرة وليس العكس. إن هذا الكلام قد يبدو، في نظر البعض، غير واقعيٍ ومفرطاً في المثالية، ولكنه بالنسبة للعارفين بقدر الحياة الدنيا بالنسبة إلى الآخرة، العاملين بالسبل الموصلة للسعادة الحقيقية في كلٍ منهما؛ الذين يدركون حق الإدراك بأن العطاء المدروس إذا كان قربة إلى اللَّه تعالى هو وحده عين الأخذ، وبه وحده تتحقق سعادة الدارين. لذا، ليس بغريب أن ينظر الزوج، الراغب في تأسيس أسرة سعيدة ومجاهدة، إلى حقه في القوامة على أنه فرصة لإدارة أسرة يسعدها، لا فرصة لإدارة أسرة تسعده، وذلك تأسياً بقول رسول اللَّه صلى الله عليه وآله "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهله".

وكذلك، ليس بغريب أن تنظر الزوجة، في هكذا أسرة، إلى "حسن التبعل" على أنه فرصة ثمينة للحصول على ثواب المجاهد المتشحط بدمه في سبيل اللَّه لا على أنه عب‏ء لا تدري كيف تتحر منه. وحيث أن العطاء يصبح أكثر تأثيراً وفاعلية عندما يتأتى من رأس السلطة، كان من الضروري، في الأسرة السعيدة والمجاهدة، أن يكون الرجل الأسبق في العطاء. فعندما يحرص رب الأسرة على راحة أفراد أسرته أكثر من راحته، وعندما يعطي أكثر مما يطلب، وعندما يبادر أكثر مما يأمر... سيتعلم الجميع، ممن في كنفه، سياسة العطاء لا الأخذ وسيتنافسون من أجلها. وعندما يعطي الجميع سيأخذ الجميع بغير حساب. إن ما نجده من قسوة وأنانية عند الكثير من أولادنا يعود إلى أننا لم نعطهم دروساً عملية كافية في الحب. لم يروا أمامهم أباً يتفانى لإسعاد أم ولا أماً تتفانى لإسعاد أب، لم يروا من يقدم برضى راحة الآخر على راحته. إن تفاني الزوج وتقديمه لراحة زوجته على راحته، يولِّد لدى المرأة، ذات الفطرة السليمة، تفانياً وعطاءاً بلا حدود. وفرق كبير بين امرأة تعطي بحب وامرأة تعطي لأنها مجبرة ومقهورة. إن هذا العطاء الأخير ليس بالعطاء المربي للحب والإيثار عند الأولاد لأنه مصحوب بدمعة وتذمر يراها الولد ويشعر بها ويمقت ظروفها ويرفض تقليدها. إن تشييد مجتمع سعيد ومجاهد يتعامل أفراده بأخلاقيات رسالة الإسلام السامية الراعية للعطاء والحب "أحب لأخيك ما تحب لنفسك"، لا يمكن أن يتأتى إلاّ من أسر تشكلت من أزواج يتعاملون فيما بينهم على أساس التقوى. وهو ما يقتضي شياع ثقافة جديدة أو بالأحرى، تجديد ثقافة كادت أن تقضي عليها رياح العولمة المغرقة في المادية. ثقافة تجعل القيمة في العطاء لا الأخذ، ثقافة تعلم الواجب كما تعلم الحق. ثقافة رسالة الحقوق لا شرعة الحقوق، تلك الثقافة التي قدمها الإمام زين العابدين عليه السلام والتييه ترتكز على أخذ الحق من خلال إعطاء الحقوق.

وفي نهاية هذه المقالة نخلص إلى أن بناء أسرة سعيدة ومجاهدة يتطلب من الزوجين أن يرتبطا فيما بينهما عبر علاقة شراكة واضحة ومسؤولة وأن يتعاملا فيما بينهما على أساس التقوى مقدماً كلٌ منهما راحة الآخر على راحته. وأن يتبنيا منهجاً تربوياً مشتركاً في مجال تربية الأولاد نتحدث عنه، بعونه تعالى، في المقالة التالية.

(*) باحثة في التربية الإسلامية.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع