نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

جعبة مقاوم: الشهادة في موعد آخر

أبو حسن‏

 



منذ أشهر مضت مكثت في البقعة التي أتمدد فيها الآن، بقيت هنا ثلاثة أيام بلياليها، دون حادث يذكر، وعدت تحت جنح الظلام. الآن أبصر من الطرف الآخر جندياً يتقدم نحوي، يمشي قليلاً ثم يتوقف متبادلاً مع أصدقائه حديثاً بالعبرية، حذاؤه العسكري الطويل بلون التراب مفكوك الرباط، لكنه نظيف وكذلك بذلته وكأنه ليس في ساحة حرب. هواء كانون الثاني وبرودة الأرض الرطبة ينفذان حتى العظام. البذلة النايلون التي ألبسها تمنع نفاذ الماء لا برد هذه الجبال. ليلة البارحة مرت دون أن تغمض أجفاني، واليوم ينبغي أن تأتي مجموعات الهجوم، لكنهم تأخرت، الساعة تشير إلى الواحدة ظهراً، إذاً ساعتان مضتا على الموعد المقرر، لعلهم قد غيروا خطتهم، لا... لا... لو حصل ذلك لاتصلوا بي وأبلغوني عبر الجهاز اللاسلكي.

أسمع هدير محرك سيارة يصعد من الناحية الأخرى، وأرى شاحنة تخرج من الموقع تحمل سيارة عسكرية صغيرة، ليس أمامي إلا أن أرفع الجهاز اللاسلكي وأبلغهم بما حصل. فلأقم الصلاة إذاً، فربما لن يصلوا... إن مناجاة اللَّه وسط هذا الخطر المحدق يصاحبها شعور غريب بأن اللَّه يستجيب الدعاء، فلأدعُ لأمي وأبي وإخوتي... سأدعو خلال الصلاة بأن يلحقني اللَّه بالشهداء، أريد أن أرى راغب وحيدر والآخرين... أديت الصلاة جالساً على الأرض الموحلة، فلم يكن بالإمكان أن أقف في ذلك المكان، وكانت الكلمات تصعد من عمق القلب، وحيداً في أرض العدو وفي هذا الطقس البارد بلا نوم ولا راحة. كان اللَّه هو المؤنس الوحيد، ففي تلك اللحظات تكون الصلاة هي الملاذ الذي يفرج ضيق الصدر... الحقيقة أنني طوال الوقت كنت أذكر اللَّه بصمت، فأشعر بوجوده المهيمن، وإلى الآن لم أدرك وربما لن أفعل لماذا يشعر من يخطو الخطوة الأولى ذاهباً إلى عمل جهادي أياً كان بأنه قريب من اللَّه كما لو أنه في مسجد! ما إن أتممت الصلاة حتى سمعت وقع خطوات، وجهت بندقيتي نحو قدمي جندي يقترب، ثم سمعته يذخّر بندقيته. هه لعلهم يشكُّون بوجودي، ولكن كيف؟ هل يمكن أن يسمعوا صوت حفيف اللباس؟ لا.. لا.. لعلها الأوهام، فلم أتحرك من مكاني البتة.

في تلك اللحظة سمعت رفاقي عبر الجهاز اللاسلكي يقولون أنهم أصبحوا على الساتر الترابي، وما هي إلا دقائق وسيبدأ الاقتحام... أخيراً لقد جاؤوا... يا أبا عبد اللَّه... يا زينب... الجندي لا يزال يتقدم وسط الصمت المخيم، غدا على مقربة مترين، وضعت إصبعي على الزناد، إن تحرك بأي حركة مريبة سأقتله، وليفعلوا ما يحلو لهم، سألقنهم درسنا المعهود.

- سنتقدم كن جاهزاً عندما تسمع النداء. يا أبا الفضل العباس، ثبَّتُّ قدمي وقبضت على بندقيتي بقوة، وجهزت قنبلة يدوية في اليد الأخرى، وما إن سمعت الشباب يهتفون: اللَّه أكبر... يا أبا الفضل العباس... مع انطلاق رشاشاتهم مدوية هادرة، ومع هدير الرشاش الضخم المثبت فوق رأسي يرد عليهم، تقدمت زاحفاً حتى خرجت من تحت الدبابة وأطلقت النار على الجندي الذي جاء إلى حتفه واعتليت سطحها وألقيت القنبلة من بابها العلوي، ثم قفزت خلفها، لحظة ودوى انفجار شديد بدا نور الشمس أمامه خافتاً... جندي آخر يطلق النار باتجاهي مختبئاً خلف سيارة الجيب، إنبطحت أرضاً وأطلقت النار على قدميه من تحت السيارة فسقط، في تلك اللحظات كان الشباب يتقدمون ويمشطون الدشم التي أخذ يتصاعد منها صراخ استغاثات. أحسست بحرارة في قدمي اليمنى، كان الدم يسيل منها وبدت ممزقة، ارتميت على الأرض فيما كان الرصاص يئز فوق رأسي ويتناثر حولي فزحفت محتمياً بالدبابة على عجل، كانت قدمي تشتعل كأنها وسط نار مستعرة، وفجأة رأيت بين الجنازير قدمي جندي فأطلقت النار عليه بغزارة فأهوى على الأرض وبادرته بزخة أخرى جندلته، وفي الناحية الأخرى من ساحة الموقع كان جنديان يحاولان الصعود إلى سيارة جيب متوقفة ليلوذا بالفرار، انبطحت ووجهي إلى الأرض، وما أن أصبحت السيارة تحت مرمى نيران رشاشي حتى أطلقت النار نحو إطاراتها فتعطلت ونزل الجنديان وانطلقا بسرعة نحو بوابة الموقع وغابا عن الأنظار ولم تصبهما رصاصات بندقيتي المستندة إلى جسم راح الوهن يغزوه، ولحق بهما جندي آخر أصيب في ساعده فبادرته بزخة رصاص في صدره فسقط مستقبلاً الأرض بوجهه مضرجاً بدمه...

كان صوت الاستغاثات قد توقف، وها هم الشباب يقتحمون ساحة الموقع ويدخلون السراديب الداخلية ويلقون فيها قنابلهم اليدوية تتبعها زغردات رشاشاتهم... ثم سكت الرصاص. تقدم أحدهم نحوي بوجه ملثم بالغبار، كان الدم قد بلل ساقي... إنه محسن... لا، لعله حيدر... لا أرى جيداً، دوار شديد كان يطغى على بصري ودارت الأرض بي... ولا أذكر إلا أن يد محسن كانت تمسح رأسي، وانتبهت إلى أنني مستلق في سرير مستشفى، وقد تحلق حولي الشباب ببدلاتهم المعفرة بالتراب والدم والعرق... وسمعت أحدهم يقول: - إصابة موضعية... بسيطة. ثم سمعتهم يضحكون وأنا بين الحلم واليقظة... لعل الشهادة تكون في موعد آخر.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع