صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

أناشيد اللطميات هل ترتقي إلى مستوى الحدث الكربلائي؟

د. علي مهدي زيتون‏

 



يضع الحديث عن الأناشيد المرافقة للطميّات الحسينيّة مفردتين أساسيتين أمامنا هما: الشعر، واللطمية. واللطمية بما هي تعبير عن حزن وأسف ذات علاقة وطيدة بالذاكرة الجمعية التي تستحضر باستمرار وقائع حدثت في الزمن البعيد لتظل مؤثرة في السلوك والتوجه والجاهزية الدائمة للتضحية، وعملية الشحن لا تبلغ أشدّها إلاّ بمصاحبة الإنشاد الذي يتخذ من عاشوراء موضوعاً له. وقد لا يعثر الباحث على دراسات جادة حول استراتيجيات الأناشيد التي تصاحب اللطميات وما يجده مجرد آراءٍ تطلق هنا أو هناك، ولا تشكل مجموعة المواقفِ الجادّةِ المتصالحةِ أو المتناقضةِ حول أهداف تلك الأناشيد. فكيف كان واقع أناشيد اللطميات قديماً وكيف هو حالياً؟ قوام فنية اللطميات: سأحاول الإجابة عن السؤال الأخير من خلال نصين أساسيين: نص قديم للشريف الرضي، وآخر جديد للشيخ محمد جواد البلاغي. نص الشريف الرضي: يمكن أن يكون الشريف الرضي، بقصيدته "كربلا كربٌ وبلا"، مؤسساً للنص الشعري الذي يمكن اتخاذه نشيداً يُمارس (اللطم) على إيقاعه. إيقاعية النص: إن عيّنة من ذلك النص قد تكون مؤشراً معبّراً عن الإيقاعية فيه(1):
 

ما لقي عندكِ آل المصطفى‏

كربلا، لا زلت كرباً وبلا

 من دمٍ سال ومن دمعٍ جرى‏

كم على تربك لمّا صرِّعوا

خدَّها عند قتيل بالظما

كم حصان الذيل يروي دمعُها

عن طُلى نحرٍ رميلٍ بالدّما

تمسح الترب على إعجالها

 فيها على غير قرى‏

وضيوفٍ لغلاة قفرة نزلوا

بحدى السيف على ورد الردى‏

لم يذوقوا الماء حتى اجتمعوا


لقد اعتمد الشاعر نسق الرمل (فاعلاتن) (...) أساساً لإيقاعية نصه. و(فاعلاتن) قائم على ثلاثة مقاطع طويلة (بطيئة)، ومقطع قصير واحدٍ (سريع). نسبة البطء فيه إلى السرعة هي نسبة 75% إلى 25%. وهذه علامة على أن واقعة الطف لا بد من إذكائها لتظل حاضرة فاعلة في سلوك المسلمين، وعيّنة الأبيات الستة تظهر أن نسبة المقاطع الطويلة القائمة على البطء قد انخفضت إلى 62%، وإن نسبة المقاطع القصيرة القائمة على السرعة قد ارتفعت إلى 38%، مما يعني أن نسبة السرعة قد انتقلت من الثلث لتصبح أكثر من النصف بكثير، ويدل ذلك على أن الشاعر قد قاوم إيقاع البطء المعبر عن النسيان بقوة، فالنص بمجمله استنارة للذاكرة. واستنارة الذاكرة الكربلائية ليست استنارة مجانية لاسترجاع أحزان مرضية تلذّ صاحبها. إن التوتر الذي أنتجه الإيقاع السريع توتر مقصود يُراد منه أن يتحوّل إلى سلوك فاعل. ويعني كل ذلك أن إيقاعية النص قد خدمت استراتيجيته الأساسية في إشعال الذاكرة الجمعية.

المعجم والتركيب: ومعجم مفردات أي نص وتراكيبه البسيطة وإن كانت أدوات جاهزة، هي في متناول الجميع، إلا أن اختيار الملائم منها هو إسهام أساسي في إنتاج الدلالة أولاً وجمالية النص ثانياً. وإذا قام نص "كربلاء" بجزء من معجمه على مفردات القرون الإسلامية الأولى التي لم تعد مستخدمة كثيراً في أيامنا من مثل: (حصان، الذيل، طُلى، قِرى، حدى...) إلا أن هذه المفردات قد باتت معروفة من جمهور اللاطمين(2) ولا تشكل عندهم عائقاً أمام استيعاب ما يحمله النص من أبعاد. والمعجم استطاع أن يستقطب المفردات والتراكيب التي تعبّر بيسر عن هموم الشاعر فالنص عامر بمفردات الحزن والتفجّع: (صرّعوا، دم، سال، دمع، دمعها، قتيل، الظما...)(3) ومفردات كهذه هي قوام الذاكرة الشيعية الحسينية المفجوعة بما جرى لآل البيت ويتحمّل آلام المسّ بالمقام الذي يمثله آل البيت (حَصان الذيل، أرجل السبق)(4) وآلام المسّ بالآدمية البشرية (تنوش الوحش، رميل بالدما..)(5). أضف إلى ذلك التراكيب المرتبطة بالذاكرة والاستحضار (كربلا، لا زلت كرباً وبلا، كم على تربك..)(6).

المجاز والشيفرات الثقافية: وتعد الأبيات الستة الأولى في ذلك النص مثالاً صالحاً لسبر فنيّته. الأبيات قائمة على النمط التفسيري بشكل عام. والسؤال الذي طرحه الشاعر في البيت الأول مخاطباً كربلاء: (ما لقي عندك آل المصطفى؟)(7)، استدعى خمسة أبيات بعده على الأقل كي توضح ما تعرّض له آل البيت عليهم السلام في كربلاء. والتفسيرية وإن كانت مجافية للشعرية التي تقوم على الحيد والايماءة السريعة والتلميح تاركة للمتلقي مساحة من الصمت يبحر فيها، فإن الأبيات المفسرة لما تعرّض له هؤلاء الأطهار هي أبيات مشهدية تقدّم لنا صوراً حية مما جرى ودون أي تعليق وهذا ما يجعل القارئ ينفعل بما شاهده ويعيش حالاً من الأسى متناسبة مع ما تمكنه رؤيته هو من استكناهه. ويبقى أن تفكيك كلمة (كربلاء) الذي صدّر به البيت الأول قد يكون التفكيك الأول الذي قام به شاعر لتلك الكلمة. والتفكيك إعادة إنتاج للكلمة يعبّر بشكل فاعل عن رؤية الشاعر إلى ذلك المكان الحدث الزمان، ويمهّد بشكل واضح للسؤال الذي طُرح في عجز البيت (ما لقي عندك آل المصطفى؟)، فالسؤال غير بري‏ء. وهو سؤال تتوجه به ثقافة معينة إلى ذلك المكان الحدث. يعني أنه سؤال يعيد تشكيل العالم وخلط أوراقه، يشق فيه المكان عن الزمان والزمان عن المكان، وينهض ما ليس بذي عقل وروح ليكون مسؤولاً. ارتفع السؤال إلى حجم الواقعة، ورفع معه كلَّ الأشياء لتتقاضى في ضوء مشاغل كبيرة. والسؤال الذي استحضر مشاهد بصرية أجوبة عنه، قد قدّم تلك المشاهد كناياتٍ تخفي تحت قشرتها الرقيقة دلالاتها التي تُرِك أمرُ تدبرها للقارئ يقرأها في ضوء رؤيته. وهي دلالات لا تحاور المؤمن بآل المصطفى والعارف حقيقتهم وحده، فالمشهد المتبدّي في قوله: "كم حصان الذيل يرمي دمعها خدها عند قتيل بالظما" هو مشهد امرأة طاهرة بكت بحرقة شهيداً قضى ظمآناً وبقطع النظر عمن تكون هذه المرأة وعمن يكون ذلك الشهيد، فإن المشهد يثير مشاعر إنسانية عند كل من ملك حساً إنسانياً سوياً. إن النظرة الاجمالية إلى النص تراه نص شاعر، من شعراء الصفوف الأولى، عرف كيف يوظف كلّ شي‏ء: المفردات، والتراكيب، والمجاز وحتى الشيفرات الثقافية التي عمر بها نصه.

* النص الحديث:
قد لا نجد بين أسماء شعراء اللطميات في عصرنا الحديث اسماً يوازي اسم الشريف الرضي في عصره. وهذا طبيعي، فالنص الشعري الحديث مثقل بهموم وهواجس ثقافية تجعله غير صالح للإنشاد في المواكب الحسينية حتى ولو كان موضوعه الحسين عليه السلام وكربلاء. وإذا كان الشعراء الكبار مثقفين كباراً ألمّوا بثقافة عصرنا ووصلوا في معارجها إلى مناطق حساسيتها حيال الأسئلة الحرجة التي أطلقوها في وجهها، فإن شعراء الصفوف الأخرى محكومون بثقافة عادية ورؤى عاجزة عن حمل هموم العصر وهواجسه بكل أثقالها ومواضع الحرج فيها. وفي حدود ما أتيح لي من نصوص، أقف عند نصّ الشيخ محمد جواد البلاغي الذي نظمه للموكب النجفي الكبير الذي يخرج ليلة عاشوراء ويومها في كربلاء. وأن يكون النص قد نظم لمناسبة يعني أنه قد راعى الشروط المطلوبة من فعل هذه النصوص. ويأتي على رأسها إثارة الحزن والحماس في نفوس اللاطمين، وفي نفوس من أحاط بهم من الناس، وايقاعية عيّنة من هذا النص مكوّنه من ستة أبيات هي:
 

 ليتني دونك نهباً للسيوفْ‏

يا تريب الخدّ في أرض الطفوف

وحمى الجار إذا عزّ المجيرْ

يا نصير الدين إذ عزّ النصيرْ

 وثُمال الرّفد في العام العسوفْ‏

وشديد البأس واليومُ عسيرْ

وخضيب الشيب من فيض الوريدْ

يا صريعاً ثاوياً فوق الصعيدْ

 تُسقى بكاسات الحتوفْ‏

كيف تقضي بين أجناد يزيدْ ظامئاً

دامياً تنهلّ منك الماضيات‏

كيف تقضي ظامئاً حول الفراتْ


تشير (إيقاعية هذه العيّنة) إلى أن وتيرة الإيقاع البطي‏ء قد جاءت نسبتها 68% إلى وتيرة الإيقاع السريع التي جاءت نسبتها 32% ويعني هذا أن قدرة هذه الإيقاعية على إثارة التوتر في نفوس السامعين من خلال تذكيرهم بالحدث الجلل هي وتيرة ايجابية وإن كانت لا ترقى إلى وتيرة نص الشريف الرضي التي كان ميزان البطء فيها 63%، وميزان السرعة 37%. وإذا كان الإيقاع عاملاً ايجابياً مساعداً بشكل عام، فكيف هي حال سائر المستويات الفنية؟ وأوّل ما يلفت الانتباه في المستوى المعجمي للنصّ أنّ عدداً كبيراً من الكلمات التي لم تعد مستعملة في عصرنا قد انبتت في تضاعيفه من مثل: (تريب، ثمال، الرفد، العسوف، الصعيد، الحتوف، الماضيات، الصامتات، عافر، حرّان، الذروف، المرهفات، عَلَق، الأسوف، عجف، السجوف، مذاعير). وهذه الكلمات وإن لم تكن عصيَّة على فهم السامعين، بشكل عام، إلا أنها لا ترتبط بهم بعلاقة وجدانية حميمة تشكل عامل إثارة لمشاعر الحزن والأسى التي توخّاها هذا النصّ بشكل أساسي. ولا ترقى جوانب معجم هذا النصّ الأخرى إلى مستوى معجم الشريف الرضي، فالإشارات إلى مقام الحسين عليه السلام قليلة (نصير الدين، حمى الجار) وكذلك المفردات الخاصة بالحزن فإنها غير قادرة على إثارة حزن حقيقي (تريب الخدّ، صريعاً، خضيب النسيب، ظامئاً، دامياً) وهي لا تعبِّر عما جرى من مسّ للآدمية كما عبرت مفردات الشريف.

ولا تصلنا معاينة (الحَيَد المُجاز) في هذا النص بما لم يصلنا به المعجم، فالخطابية المباشرة هي السائدة. ومما يجدر ذكره أنّ الأناشيد المصاغة باللغة المحكية، ومن خلال ما تيسّر لنا منها، لا تشير إلى رؤية أو ثقافة مختلفة، ولا تقوم على لغة شعرية أرقى من تلك التي واجهتنا في القريض الفصيح. ويبقى أن ما نستنتجه من كل ذلك أن النصّ الشعري الخاصّ باللطميات، في عصرنا الحاضر، نصّ عاديّ جدّاً لا يرقى بفنيته إلى مستوى الحدث الكربلائي، ولا يمكنه أن ينهض بانتاج المناخات التي تنتقل بالتلقي من واقع الحال إلى المرتجى، فيحوّل إلى إنسان حسيني بكل ما تعنيه الحسينية من رقيّ، ومبدئيّة، وجهوزيّة دائمة للتضحية. إنّ اللهجة العراقية المشربة بالحزن والفجائعية أو مقاربة تلك النغمية الآسرة هي الفاعل الأساسي في التحريك الذي تقوم به تلك الأناشيد. وما تحدثه من تحريك ليس التحريك الثقافي الحضاري، ولكنه إثارة مشاعر الحزن وحدها، وهذه المشاعر وإن كانت ذات فعالية قوية في دفع صاحبها إلى الإقبال على التضحية من أجل الحسين إلا أنها مشاعر آنيّة مرتبطة بلحظات الإنشاد، والانتهاء من المسيرة انتهاء من حضور تلك المشاعر أيضاً، والمطلوب استمرارية التأثير، ولا يمكن ذلك إلا بإنتاج مناخات ترتفع إلى مستوى أسئلة الثقافة الحرجة، ولا يكون ذلك إلا بنصوص من إنتاج الشعراء الكبار. ويقودنا ذلك إلى القول بأن أفق الأناشيد اللطميّة محكوم بسقف شعراء الصفوف الشعرية الخلفية، ولا يمكنه أن يصل إلى الوظيفة التي رسمها له نصّ الحسين عليه السلام أولاً ونص الشريف الرضي ثانياً إلا على يد شعراء كبار مطلوب منهم أن يولوا التجربة الكربلائية عناية خاصة.


(1) الشريف الرضي، الديوان، بيروت، دار بيروت، لا تاريخ، ص‏44.
(2) م.ن، ص‏48 44.
(3) م.ن، ص.ن.
(4) م.ن، ص.ن.
(5) م.ن، ص.ن.
(6) م.ن، ص.ن.
(7) م.ن، ص‏44.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع