سماحة السيد حسن نصر الله
الحديث عن الفقهاء العظام وخريجي مدرسة أهل البيت عليهم السلام ودورهم الكبير في تمهيد الأرض وتوطئة النفوس للظهور المبارك لصاحب العصر والزمان عجل الله فرجه الشريف حديث في غاية الأهمية، وله ذيل طويل في مجال البحث والتحقيق، خاصة إذا ما أردنا الرجوع إلى آثار المعصومين (عليهم السلام) أو إلى السيرة العلمائية الممتدة من بداية الغيبة الكبرى وحتى عصرنا هذا ودراستها من مختلف الجوانب.
وحتى لا نذهب بعيداً ويطول بنا المقام في القيل والقال، نكتفي بالرجوع إلى نظر وآراء شخصية ليس لها نظير بين العظماء ورجال التاريخ، طبعاً فيما عدا الأنبياء والأولياء المعصومين (عليهم السلام)، إنه وارث الأنبياء، وسليل الأولياء، وإمام العرفاء، الفقيه المجدِّد، والحكيم المتألّه، والثائر المجاهد، قائد ثورةٍ حطمت عرش الطغيان، ومؤسس دولةٍ تقرّ بها عين صاحب العصر والزمان، إنه الإمام روح الله الموسوي الخميني (قدس سره).
هذه الشخصية العظيمة التي يقول في حقها الإمام الخامنئي (دام ظله): "حقاً إن الشخصية العظيمة لقائدنا الكبير وإمامنا العزيز لا يمكن مقارنتها بأية شخصية أخرى بعد أنبياء الله والأولياء المعصومين. لقد كان وديعة الله عندنا، وحجة الله بين ظهرانينا، ودليلاً على عظمة الله، وحينما كان يراه المرء يدرك جيداً عظمة عظماء هذا الدين".
إن شخصية كهذه حق لها أن تكون بتجربتها الكبيرة ونظرتها الثاقبة المثال المعبِّر عن الدور المهم والأساس للفقهاء والعلماء في عصر الغيبة، فما هي نظرة الإمام (قدس سره) إلى هذا الدور؟
* حقيقة الانتظار
لا شك أن أفضل الأعمال في عصر الغيبة هو انتظار الفرج، وهذا ينطبق على أفراد الأمة قاطبة وعلى رأسهم العلماء والفقهاء العظام، ولكن ما معنى انتظار الفرج؟ فهل هو الجلوس في المسجد أو الحسينية أو المنزل والدعاء للإمام عجل الله فرجه الشريف بالظهور؟ هل نتفرج على شيوع الفساد والظلم والفحشاء بانتظار أن تمتلىء الأرض بالظلم والجور؟ أم علينا أن نساعد في شيوع الفحشاء والمنكر للتعجيل في فرجه الشريف.
إن هذه الأفكار المنحرفة أو المعبرة عن سذاجة قائلها وبساطته كانت تحاول أن تشق طريقها لتسيطر على عقول وقلوب أفراد الأمة لولا الجهاد الدؤوب للعلماء الأعلام وعلى رأسهم الإمام الخميني (قدس سره). لقد كان الإمام يعتبر تكليفنا أن نقف بوجه الظلم ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر وننشر العدل وبذلك نهيىء الأرض لقدوم الحجة المبارك (عليه السلام) يقول الإمام (قدس سره):
"كيف نستطيع اليوم أن نسكت ونجلس بدون عمل ونرى قلة من الخونة وأكلة الحرام وعملاء الأجانب.. قد امتلكوا ثروة وثمرة أتعاب مئات الملايين من المسلمين ولا يدعونهم يستفيدون من الحد الأدنى من هذه النعم؟ إن واجب علماء الإسلام وكل المسلمين أن يضعوا حداً للحكومات الظالمة ويشكلوا الحكومة الإسلامية وأن يقضوا في هذا الطريق الذي هو طريق سعادة مئات الملايين من المسلمين".
إذاً كان التكليف هو القيام والنهوض، وأما عدم ضمان النتيجة واستبعاد إمكان تحقي هذا المطلب الشريف فلا يعني أبداً سقوط التكليف عنا. فتكليفنا أن نعمل، أن نقوم وننهض، لا أن نحقق النتائج لأن ذلك بيد الله تعالى. ولذلك كان يقول (قدس سره):
"إنني مصمم على أن لا أهدأ حتى أضع هذا النظام الفاسد في مكانه المناسب أو التحق بجوار الرفيق الأعلى معذوراً".
إن هذا الفهم لحقيقة الانتظار قد عبّر عنه العلماء والفقهاء على مر العصور بتحملهم لمسؤولية حفظ الأمة وضمان عدم انحرافها وقبل ذلك حفظ الدين من التحريف والاندثار. وهذا كان من العقائد الراسخة لدى الإمام (قدّس سرّه).
* مسؤولية حفظ الدين
فعلى المستوى التاريخي يتحدث الإمام عن العلماء بإجلال وتقدير لا مثيل له حيث يعتبر أن هؤلاء الفقهاء منذ عهد الأئمة وفي زمن الغيبة كانوا الأنصار الحقيقيين لأهل البيت (عليهم السلام) كأمثال محمد بن مسلم وأبان بن تغلب وزرارة بن أعين ومحمد بن عمير وهشام بن سالم وهشام بن الحكم الخ. وكان الأئمة (عليهم السلام) يرجعون شيعتهم القاطنين في الأمصار البعيدة إلى هؤلاء الفقهاء لتعذّر الانتقال على ابن الكوفة وابن خراسان وابن مصر في ذلك الوقت إلى مكان وجود الإمام، وسؤاله عن أحكام الإسلام. وبالإضافة إلى ذلك، كان الأئمة (عليهم السلام) يحرصون على الالتقاء بشيعتهم في موسم الحج لتبليغهم أحكام الإسلام وإجابتهم على استفساراتهم وأسئلتهم، حيث كان من جملة أسئلتهم مثلاً أننا نحن في الأمصار البعيدة فإلى من نرجع في أحكام ديننا، فيأتي الجواب بالرجوع إلى فلان مثلاً في مصر وإلى ذاك في الكوفة.. إلخ. ولولا هؤلاء الفقهاء في حياة أهل البيت (عليهم السلام) لم يصل إلينا شيء من الإسلام، ولكان ضاع كل شيء ولم يصل فكر أهل البيت (عليهم السلام) وتراثهم وفقههم إلينا. والفضل في ذلك يرجع إلى التضحيات والدماء المبذولة إلى درجة وصل الأمر في مرحلة من مراحل تاريخ أهل البيت (عليهم السلام) أنّ الرجل الذي يقول حدثني جعفر بن محمد أو موسى بن جعفر، كان مصيره أن يلقى في غياهب السجون أو أن يقتل أو يشرد، الأمر الذي اضطرهم إلى استخدام تعبير "الصاحب" أو "الرجل"، فكانوا يقولون حدثني "الصاحب" أو "الرجل" كناية عن الإمام عجل الله فرجه الشريف.
وحول هذا الجهاد العظيم للعلماء يقول الإمام (قدّس سرّه): "لا شك في أن الحوزات العلمية والعلماء الملتزمين كانوا طيلة تاريخ الإسلام والتشيع أهم قواعد الإسلام الحصينة في مواجهة الحملات والانحرافات والأفهام الملتوية.
لقد بذل علماء الإسلام الكبار جهدهم في كل مراحل عمرهم لنشر مسائل الحلال والحرام كما هي ودون أدنى تدخل فيها أو تصرف.
لو أن الفقهاء لم يكونوا... ما كنا نعلم أي علوم كانت تقدم اليوم إلى الناس باسم علوم القرآن والإسلام وأهل البيت (عليهم السلام).
لم يكن من السهل جمع علوم القرآن وآثار النبي الأعظم وأحاديثه وسنة المعصومين وسيرهم (عليهم السلام) وتبويب ذلك وتنقيحه في الظروف التي كانت الإمكانات فيها قليلة جداً... وكان السلاطين والظلمة يبذلون كل ما في وسعهم لمحو آثار الرسالة وبحمد الله فإننا اليوم نرى نتيجة تلك الجهود متجسدة في الآثار المباركة كالكتب الأربعة والكتب الأخرى للمتقدمين والمتأخرين في الفقه والفلسفة والرياضيات والنجوم والأصول والكلام والحديث والرجال والتفسير والأدب والعرفان واللغة وسائر الاختصاصات العلمية المتنوعة.
وإذا لم نسم كل هذه الأتعاب والمرارات جهاداً في سبيل الله فماذا نسميها؟"
فالمطلوب إذاً استحضار جهود العلماء العظماء على مدار التاريخ، ودورهم في إيصال هذا التراث إلينا. فالشيخ الكليني صاحب كتاب الكافي مثلاً، بقي عشرين سنة يجمع أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) حيث كان يدور من بلد إلى آخر لاستقصائها، وكذلك الشيخ الصدوق انتقل هو الآخ بدوره من مصرٍ إلى آخر وهو يجمع الأحاديث، وكانت جهود هؤلاء العلماء تحت أشد الظروف وطأة من حيث القهر والحرمان والملاحقة من قبل السلطات الحاكمة، هؤلاء أمثال الشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي وسائر سلسلة هؤلاء العظام هم الذين حفظوا الإسلام، فتحققت من خلالهم الإرادة الإلهية في حفظ الذكر الإلهي: {إنَّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.
* حفظ الأمة من الضياع
لم تكن المحنة التي عاشتها الأمة خلال مئات السنين الماضية هي محنة أمريكا وسائر الطواغيت المستكبرين، بل كانت محنة من الداخل، محنة الحكام والسلاطين الذين حكموا باسم الإسلام، ومارسوا القهر والإذلال تحت هذا العنوان، وإذا أردنا التدقيق في المسألة، وعرفنا ما تعرض له خط التشيّع خلال فترة تزيد على ألف سنة، لرأينا أنّ هناك معجزات قد حفظت هذا الخط من الإضمحلال، لأنه لو أردنا أن نرجع إلى الأسباب والعوامل الطبيعية التي تحكم حركة التاريخ والمجتمع البشري، نرى أنه لا يمكن لهذا الخط المحارَب والمضطهد في كل العصور، والذي كان يقتل فيه الأئمة (عليهم السلام) وأتباعهم ـ كما في العصرين الأموي والعباسيّ ـ أن يبقى بهذا الصفاء والنقاء والأصالة، وكذلك أتباع هذا الخط حتى يومنا هذا، إذ أن من جملة الممارسات التي طالت شيعة أهل البيت (عليهم السلام)، لا سيما بعد استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام)، وفي زمن معاوية (لعنه الله)، كانت شطب اسم من ثبت ولاؤه أو حبّه لعلي (عليه السلام) من الديوان، ويعني ذلك عدم قبول شهادته أبداً. وأصبح سب الأمير على المنابر سنّة، وأتباعه ملاحقون في كل الأمصار، فتُهدم بيوتهم وتصادر ممتلكاتهم، ويقتلون ويشردون من مكان إلى مكان. ولم تقتصر هذه الممارسات على زمن الأمويين والعباسيين فقط، وإنما امتدت إلى زمنٍ قريب قبل سبعمائة عام في إيران، حيث كان الذي يثبت تشيعهُ يحرق، لكنها الآن دولة موالية لأهل البيت (عليهم السلام)، تحتكم بحكمهم وتعمل تحت راية الإمام الحجة عجل الله فرجه الشريف وقيادته. كل ذلك بفضل جهاد العلماء وتضحياتهم الجسام.
يقول الإمام الخامنئي: "كنت بحضرة الإمام (قدّس سرّه) في إحدى المناسبات. وقلت له إنني اعتقد أن انتصار هذا النظام لم يكن بفضل شأن علماء زماننا وجاههم واعتبارهم وحسب.. بل بفضل ما وظفناه من شأن علماء الشيعة السابقين وجاههم واعتبارهم ابتداءً من عصر الشيخ الكليني والشيخ الطوسي إلى عصرنا الحاضر.. وقد أيَّد سماحته هذا الرأي".
* العلماء ضمانة عدم الانحراف:
يعتبر الإمام المقدس أن وجود العلماء في الساحة وفي أية حركة ثورية تعمل على التمهيد لصاحب العصر عجل الله فرجه الشريف وتؤسس للتعجيل بظهوره المبارك هو الضمانة للأصالة وعدم الانحراف، لأن جذور تربية العلماء وعمقها أصيلان ولا يعتمدان على الثقافة المستوردة من الشرق أو من الغرب، مضافاً إلى تميز أوساط العلماء بالتقوى والورع والزهد، فهذه هي سيرة السلف الصالح من علمائنا.
هذا الأمر جعل الإمام يركّز على العلماء في حين كان هناك تيار مستتر بستار الدين ويعمل بقوة ضدهم ـ خاصة في الجامعات ـ وذلك بالتقليل من شأن العلماء واعتبارهم أنهم ممن لا دور لهم وبأنهم من متاحف التاريخ، حتى أن بعض المثقفين المتدينين ممن لهم كتابات إسلامية وكانوا يصلّون صلاة الليل، عملوا في هذا الاتجاه، ولذا نرى الإمام يركز قبل انتصار الثورة وبعدها على أن الثورة بدون علماء روحانيين هي ثورة محكومة بالفشل، ويستطيع الغرب أن يصادرها في أي وقت. وعليه، فإن الإمام يرى أن على العلماء ـ باعتبارهم قادة الأمة ونواباً لصاحب الأمر ـ أن يكونوا حاضرين في الساحة ليقودوا الناس ضد الطغاة والمستكبرين، وأن يعيشوا هموم الأمَّة وتطلعاتهم. ولذا نجده يقول في إحدى المناسبات.
"إن المسلمين اليوم وخصوصاً العلماء الأعلام منهم يتحملون مسؤولية كبيرة أمام الله تعالى، وبسكوتنا فإن الأجيال سوف تبقى إلى الأبد معرّضة للضلالة والكفر، ونحن مسؤولون عن ذلك".
كانت هذه إشارات على الطريق عسى الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعاً لتحمّل المسؤولية وأداء الواجب الملقى علينا بما يرضي الله تعالى ويدخل السرور إلى قلب صاحب العصر والزمان وينال منه الرضا والقبول.
والحمد لله رب العالمين.