نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

قرآنيات‏: من عجائب القرآن: نملة سليمان‏

د. سامر شري‏


قال الله تعالى: "حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون" (النمل: 18).
هذه الآية على ما تحويه من كلمات لا تزيد عن عشرين كلمة، إلا أنها تحتوي على مضامين عالية من المعرفة والمعاني بما لا يسعنا التوسع فيها، بل الاقتصار على بعضها مع محاولة استخراج رموز كنوزها وجواهرها.

* النمل مثالاً للناس:
تعتبر هذه الآية واحدة من عجائب القرآن التي لا تحصى إذ جمع عدة أجناس من الكلام في جملة قصيرة، نقل ابن الجوزي في زاد المسير ج 6 ص 62 عن بعض العلماء أن: "ي": نادت، "أيه": نبّهت، "النمل": عيّنت، "ادخلو": أمرت، "مساكنكم": نصّت، "لا يحطمنكم": حذرت، "سليمان": خصّت، "وجنوده": عمّت، "وهم لا يشعرون": عذرت.

والملفت في أصل الموضوع في الآية هو إرادة الله سبحانه وتعالى فتح باب العلاقة بين الحيوان والإنسان عموماً، وبين الحيوان والأنبياء على وجه الخصوص، وكيفية انتظام الكون بمخلوقاته من أعظمها إلى أدناها في نظام توحيدي متكامل. وشاءت المشيئة الإلهية اتخاذ النمل مثلاً يضربه للناس في العلاقة بين الحيوان والإنسان ليزيد الموضوع تشوقاً والتفاتاً، باعتبار أن النمل هو واحد من أضعف مخلوقاته، ويتمتع بخاصية تشبه خاصية البشر وهي عيشها كجماعات في بوتقة واحدة ذات نظم وقوانين تشبه قوانين الدول.
ففي كل دولة نمل رئيس وأعوان وجند وحراس وفرق استطلاع وعمال ومزارعون وحصّاد، ومراكز تخزين وتموين وممرضون وفرق دفن الموتى وسجون استعباد واسترقاق كما المجتمعات البشرية.

ربما أراد الله سبحانه أن يضرب بمجتمع النمل مثلاً للناس كدليل يقدمه على أن أصغر الوحدات الاجتماعية هذه تعيش بانتظام وتكامل في جو من التوحيد الفطري، وهو ما يبعث على ضرورة أن تعمد الوحدات الاجتماعية الأرقى وهي الوحدة الإنسانية على التمثل بأدنى المخلوقات لكي تعيش انتظامها في جو من التوحيد الفطري والعقلي والقلبي بأعلى مراتبه لتكون حركة المخلوقات في الكون كلها واحدة باتجاه قوس الصعود.
فماذا عن هذه الآية وماذا أراد الله سبحانه من هذا مثلاً؟ وبماذا يمكننا أن نخرج من نتائج ومفاهيم؟

* صورة الحدث:
(حتى إذا أتوا على واد النمل): يخبر الله في المفردة عن ثلاثة أشياء، الأول: وصول سليمان وجنده إلى الوادي حيث الحدث، الثاني: أن الوادي يحوي بيوتات نمل كثيرة بما يعني أن تعداد النمل قد يكون بالملايين، ولذا اقترن اسم الوادي بهم، والثالث: أن النبي ومعه جنده جاؤوا من أعلى الوادي وباتوا مشرفين عليه لاستعمال الله سبحانه حرف الاستعلاء "على" الذي يدل على العلو والإشراف. بهذه المفردات القليلة تتشكل عندنا صورة الحدث والمسرح والسيناريو وما يليه من خبر.

* النملة والنطق:
أول ما يستوقفنا في هذه الآية كلمة: قالت نملة، وهو ما يفهم منه نطق حشرة صغيرة تكاد لا ترى بالعين. والنطق كما هو معلوم إخراج الصوت من الصدر والفم مع إرادة المخلوق التعبير عن شي‏ء في ضميره لآخر أو آخرين سواء كان حاضراً أو غائباً. والإتيان بكلمة "قالت" يعني الإشارة إلى أن كلاماً مفهوماً صدر عن مخلوق يتواصل به مع مخلوق آخر بغض النظر عن اللغة المعبَّر بها.

* جنس النملة:
من لطيف ما أتى اللّه تعالى به، تحديد جنس القائل على أنه من فئة الإناث، وهو ما كشف العلم عنه اليوم بأن ما يسمى "الشغالات" موكولة بالعمل خارج مساكن النمل لجلب الطعام وتخزينه بينما يدور عمل الذكور على الحراسة والحماية والقتال في المساكن وحواليها.
وما قاله الطبرسي في تفسيره من أن التي صاحت بالنمل كانت "رئيسة النمل" هو قول مطابق للواقع الحياتي في دولة النمل.

* النملة والعقل:
وهو المستفاد من قوله تعالى: (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون). نلاحظ في الآية أن النملة صاحت لأخواتها بصيغة النداء، ثم الدعوة بالدخول إلى المساكن لطلب النجاة من الموت، ثم بعد ذلك عللت الموضوع بأن سليمان وجنوده قد يطأون النمل بفعل الأقدام أو حوافر الخيل، ثم تقدمت بالعذر بأنهم لن يشعروا بسحق النمل لصغر الحجم والهيئة، كل هذه المفردات الدقيقة تدل على أن النملة تعقل كل ما يدور حولها، وتحذر الموت على نفسها وتعرف طريق نجاتها.

نعم، لقد سبقنا القرآن بقرون عندما أودع طي كلماته حقائق معجزة تركها ليفهمها أهلها حين أوان قطافها، فأشار إلى عاقليةٍ ما في حياة الحيوان يفترض أن ينكشف لثامها مع مرور الأيام، كما أن بعض أفاضل علمائنا الماضين أجادوا عندما عرفوا كيف يستخرجون درر الحقائق القرآنية بروح شفافة بما يتطابق والحقائق العلمية الجديدة حيث أودعوا كتبهم بعض جميل آرائهم كالمجلسي في بحاره ج‏61 ص 19 فقال: لما رأتهم متوجهين إلى الوادي، فرت عنهم مخافة وصاحت صيحة نبهت بها ما بحضرتها من النمال فتبعتها، فشبه ذلك بمخاطبة العقلاء ومناصحتهم.

* النملة والهيئة:
وهو ما أعني به إخبار اللّه سبحانه وتعالى عن جزء من تركيبة بدن النملة وهيئتها. فقال: لا يحطمنكم، وكلمة الحطم تعني الكسر، والذهن يذهب مباشرة في هذه الحالة إلى تصور وجود مادة قاسية داخلة في تشكيل هيئة النمل، وهي المادة العظمية.
مرة أخرى، لقد سبقنا القرآن ألفاً وخمس مائة سنة في معارفه، ولكنه هذه المرة سبقنا أشواطاً بعلم التشريح الحيواني، إذ تبين أن جسمها يرتكز على قوائمها العظمية، كما ثبت أن لها جمجمة من العظم وفكين قويين بهما تعض الأعداء وتقطع الحب إلى نصفين مخافة أن يصيبها الندى فتنبت، إلا الكزبرة فإنها تكسرها أربع قطع.

* النملة والنبوة:
من أعظم دلالات الآية المباركة، تعرّف النملة على نبي من الأنبياء سمته بالاسم ولم تخطئه فقالت: لا يحطمنكم سليمان.
الظاهر من سياق الآية: أن اللّه سبحانه وتعالى أراد مما ذكره، الإشارة إلى مفهوم الولاية التكوينية للأنبياء وسعة سلطة ولايتهم على الأشياء بحيث لا يخرج عن سلطانه شي‏ء سواء بالصوت الذي يصدر أو الفعل أو ما في الضمير أيضاً.
والقرآن زاخر كله كما الأحاديث الشريفة بالأدلة على الولاية بحيث لا يقتصر أمرها على الأنبياء بل يشمل الأئمة العظام، وهذا بيّن في الآية الكريمة: "كل شي‏ء أحصيناه في إمام مبين" (يس: 12).

* النملة والجند:
قال سبحانه: "لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون". تجلَّت القدرة الإلهية هذه المرة في إبراز مسألة تعرُّف النملة على الجند بعد تعرُّفها على سليمان. والمعلوم أن للجند لباساً خاصاً يلبسونه حين تأدية الواجب الموكل إليهم. يبقى هذا المثال المضروب في القرآن آية لاوية للعنق، خصوصاً إذا تعرّفنا إلى أدب النملة التي تحدثت عن إمكانية تكسير عظام النمل بفعل حوافر الخيل وأقدام المقاتلين، ولكنها في الوقت نفسه تقدم العذر لسليمان ومعه جنوده بأن الحطم صادر عن غير إرادتهم، لصغر هيئتها، وكأنها تقول أيضاً أنهم من شدة تديّنهم وتقواهم فهم كانوا حريصين على عدم أذية مخلوق بحجم ذرة فما فوق. بهذه المفردة "لا يشعرون" حددت لنا نملة سليمان صفات جيش سليمان.


فكم هي حكيمة تلك النملة، التي استطاعت أن تعرّفنا وتعلّمنا وتؤدّبنا!؟ وكم هو اللَّه حكيم وعزيز أن رفع من شأن تلك النملة لدرجة أن خلّد ذكرها في قرآنه، فاشتهر أمرها في الإنسانية جمعاء إلى يوم الدين!؟
كم أنت عزيزة يا نملة سليمان!؟

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع