نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

جعبة مقاوم‏: العطّار

هادي قبيسي‏

 



كان الوادي لا يزال عابقاً بروائح البارود التي لازمته طيلة ثلاثة وثلاثين يوماً من الحرب، وكانت الحرائق قد نالت من الأحراش وبقيت بعض الأشجار التي كنا نختفي في ظلها حين تقبل الطائرات لتلقي بحممها مدوية مزمجرة.
أطلقنا خلال ذلك النهار عدداً من الصواريخ نحو المستوطنات، وانحرف بعضها نحو أماكن مجهولة، وخلال الظهيرة سقطت عدة قذائف حارقة في الوادي فأشعلت بعض الشجيرات التي انتشرت على طول المجرى الذي جف ماؤه.


الوادي الذي كان طوال السنين يعج بالطيور المختلفة لم يعد يسمع فيه سوى الصمت الذي يخرقه انفجار القذائف بين الفينة والأخرى، وكان الصيف حاراً جداً ذلك العام، فحتى النسائم ذوت واختفى ما تبقى من حفيف الأغصان، وخلال الليل كانت بضع بوارج حربية تلقي قذائفها على التلال فيلوح في الوديان التماع كالبرق في ليلة شتائية.
كنت أنا وساجد قد أمضينا الأيام معاً منذ بداية الحرب، وكان قد لُقب آنذاك ب"العطار"، فقد كان يحمل بضع قوارير من العطر، يوزعها بين الشباب، كلما مروا بنا.
عند الفجر، مضينا نحو وادٍ قريب، لننصب الصواريخ ونحضرها، وكان ساجد الشاب القصير القامة ذو الملامح السمراء السمحة، يمضي أمامي مسرعاً ويحضر راجمة الصواريخ، وخلال برهة كنا نثبت الصواريخ، الواحد تلو الآخر، وقبل أن يشق النور أعمدة الظلام كنا نصل مكان الشجيرات، ملجأنا الأخير، الذي لم تنل منه القذائف بعد.

في مساء ذلك اليوم، كان العطار يصلي بجانب إحدى الشجيرات، وعلا صوت الجهاز اللاسلكي : "عطار.. عطار..". أجبت المتصل فقال: "جهز صواريخك الليلة.. لدينا عمل"، تذكرت الليلة الأخيرة من الحرب الماضية.. هل سنقصف المستوطنات في آخر لحظة قبل بدء وقف النار؟ عاد المتصل ثانيةً: "جهز كل صورايخك".. ربما صدق ظني.
انتهى ساجد من الصلاة، فقلت : "لقد سمعت.. سأصلي لنذهب".
من يدري.. ربما تكون هذه آخر صلاة لنا.
لقد انتهت الحرب.. ليلة أخرى ونوِّدع الوادي.
هيا صلِّ.. لا نريد أن نتأخر.
لقد قصفنا في الأسبوع الماضي خلال الليل.. وانهمرت القذائف.

كان القمر قد بدأ يرسل أنواره الضئيلة من خلف التلال، وكان ساجد يسير أمامي ورائحة العطر تفوح منه، فقلت له: إذا كان اليهود في الوادي فستصل رائحتك إلى أنوفهم ولو كانوا على بعد مئات الأمتار. ضحك ملياً، وتابعنا المسير.
كانت راجمة الصواريخ قابعة تحت بضع شجيرات سنديان في القعر، وراح ساجد يرفع الغطاء القماشي السميك عنها، فيما كنت أهيئ المشغّل الكهربائي. وفجأة علا صوت اللاسلكي: "عطار.. هل جهزت نفسك"؟
دقائق وننتهي.
عندما تنتهي أطلق كل ما عندك.

انطلقت الصواريخ وانكشف الوادي مع كل انطلاقة بنور ساطع، فيما كنا نعود أدراجنا، وما هي إلا دقائق حتى سمعنا هدير طائرة تبعها انفجار مدوٍّ. نظرنا إلى مكان الراجمة، كانت النيران تشتعل فيها، ثم سمعت انهيار صخور وتطاير الحصى والأغصان خلفي، وتجمع الغبار والدخان ورائحة البارود المحترق حتى النهاية، وسقط أحد الأحجار على قدمي، فأحسست بها تنسحق، ثم شعرت بحرارة في كتفي الأيمن. ثم سمعت العطار ينادي "علي.. علي.. هل أصبت؟".
وصل إليّ، وحملني على ظهره ومضى مسرعاً، وحين أفقت من إغماءتي سمعت هدير الطائرات، وانفجار صواريخها خلفنا، لكنني شعرت بأنها بعيدة جداً، وكانت آلام الجراح، في تلك اللحظة، أقوى من أي شي‏ء.
كان آخر ما سمعته تلك الليلة صوت بوق الإسعاف، وعندما أفقت من المخدر، أبصرت قدمي ملفوفة بالجبس معلقة أمامي، وشعرت بآلام عميقة في كتفي. في اليوم التالي ازدادت آلامي، وبدأ الوعي يعود تدريجياً. عند الصباح، تناهت إلى أنفي رائحة عطر جميل، كانت قارورة عطر موضوعة على الفراش بقربي، أخذتها وقربتها من أنفي، فبدأت أتذكر أحداث تلك الليلة والعطار.

دقائق وسمعت صوته في الرواق، وأقبل مع عدد من الأصدقاء وسلموا عليّ، وقبلني ساجد في جبيني، وقال:
لقد انتهت الحرب.. لقد انتصرنا.. احترقت دباباتهم وعادوا خائبين.
لنبقَ في الأمر الأساسي: هل سأدفع لك ثمن هذه القارورة؟
ضحك الجميع، ثم ذهبوا ليسلموا على الجرحى الآخرين، وبقي العطار، قلت له: أعطني قلماً وورقة.
ضحك وقال: لا تقل إنك تريد أن تكتب قصة!.
نعم.
الآن.
نعم.. الآن!.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع