نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

المهدوية وموقعها في تحديد مسار البشرية

 مقابلة مع الشيخ عفيف النابلسي‏

حوار: عدي الموسوي‏


عند الحديث عن المهدويّة كحقبة حتمية الحصول، فإننا لا يمكن أن نفصلها عن سياقاتها ضمن السنن التاريخيّة والإلهية، لا كحتمية أكّدتها النصوص الشريفة فحسب، بل كجزء من حركة الإنسان ضمن استخلاف الله تعالى له في الأرض، مع ما يتطلّبه هذا الاستخلاف من ضرورة لتحقيق العدالة كقيمة إلهيّة في الحياة الدنيا، قبل تحققها في الحياة الآخرة. بقية الله حاورت سماحة الشيخ عفيف النابلسي حول المهدوية وموقعها في تحديد المسار التاريخي والاجتماعي للبشريّة:

* ما هي المقوّمات التي تتكوّن منها السنن التاريخيّة بحسب الرؤية الإسلامية والقرآنية للتاريخ؟
بداية تجب الإشارة إلى أن تدوين التاريخ وتسجيله قديم منذ كان الإنسان، وأن هذا التدوين وعلى فترات طويلة كان في أغلبه انتقائياً، فجاء وفق رؤية سياديّة أو سياسيّة، حيث كان المؤرّخون غالباً بيد الحاكم، فهو الذي يموّل كتابة التاريخ. ولا شك في أن هناك من تمرّد فكتب التاريخ بنفسه ولنفسه، أو أخفى ما دوّنه إلى أن جاء من نفض عنه الغبار. وبالعودة للسنن التاريخية فإنّها تعني كيف نفهم الحوادث التاريخيّة، وكيف نحللها وفق قوانين واضحة لا تنظر إلى الوقائع التاريخية المتفرّقة، ولكن وفق صيرورتها كقوانين ونظم تاريخية، حيث تفسر هذه السنن من منطلقات مختلفة كلٌّ بحسب فهمه وثقافته، لتنشأ مدارس مختلفة لتفسير التاريخ. فهناك من فسّره عبر الرؤية الماديّة، كما في منهج كارل ماركس، وهناك من فسّره عبر أثر الغريزة الجنسيّة في الحياة البشرية كما فعل فرويد، وهناك من فسّره تفسيراً اجتماعياً، كما فعل إميل دوركايم، وهناك من فسره من خلال التربية أو الرؤية الدينية. ولا شك أن التاريخ أكبر من أن يُستوعب تفسيره من خلال رؤية واحدة، فنحن قد لا ننكر على هؤلاء مناهجهم بقدر ما ننكر ضيق فهمهم للتاريخ أو اقتصارهم في ذلك على مدرسة واحدة لا غير. فليس صحيحاً أن التاريخ كله مبني في تفسيره على نظرية واحدة لهذا أو ذاك.

* من هنا كيف جاءت القراءة أو التفسير الإسلامي لسنن التاريخ وقوانينه؟
نحن نرى أن الرؤية الإسلامية الدينية للتعاطي مع تفاصيل الحياة هي على قسمين: قسم يقتصر على الأخلاق والعواطف ولا يتدخّل بالنظام العام، وهي تربية لا تصطدم بالسياسات، من قبيل التربية على الأخلاق والمحبة، وبالتالي كل من يكون حاكماً وبيده الحول والطول والنهي لا تؤثر عليه. أمّا الرؤية الأخرى، فهي تؤسس لتربية وفكر ديني له علاقة بالشأن العام بكل تفاصيله. من هنا، جاء تفسير المفكّرين المسلمين للتاريخ قائماً على فهمين: الأول ارتكز على مفهوم عصبية القبيلة أو الجماعة لتقوم رؤيته على هذا الأساس وأبرز ممثليه منهج ابن خلدون. أما الفهم الآخر، فاقتضى أن تكون رؤيته منطلقة من علاقة البشرية بالمسار النبوي، وأن يكون قائد أو ناظم هذه العلاقة هو شخص له تاريخه وميزته ومستقبله، وله أيضاً ثقافة قائمة على أساس الفهم الصحيح لهذه العلاقة وفهم الدنيا وربط الدنيا بالآخرة، فلا تعجزه مسألة من المسائل، وأن يكون حاضراً في كل الساحات السياسية والاقتصادية والعسكرية والفقهية، بحيث يشكّل بمجموع ثقافته ظاهرة فريدة من نوعها. فبينما تبتعد الرؤية الأولى عن العصمة النبوية وتخترع لنفسها ولجماعتها عصمة بعد ذلك، فالرؤية الأخرى تبقى مع الوحي والنبوّة والإمامة وهو الخط الذي يبقى شامخاً وساطعاً.

* إذاً، فالاتجاه الثاني يجب أن يتمحور حول شخصية نبوية أو ذات جذور وثقافة نبوية. ولكن ما هو دور الإنسان، هل هو دور المتَّبع العادي أو المنتظر والممهد لهذه القيادة النبوية؟ أم أن له أدواراً متعددة بحسب الظروف التاريخية؟
نحن نرفض التاريخ القهري ونعتبر أن القانون والسنة التاريخيّة يجب أن تتوفّر لهما عدة شروط أبرزها: الإطّراد أو التكرار، بمعنى أنّه لو برز نابغة في مكان ما أو زمن ما وأدّى دوره دون تكرار لهذه الظاهرة في المكان ذاته ولو بعد حين، فهذا النبوغ ليس سنة تاريخية، بل هو فصل أو فرصة، إلاّ إذا ما تكررت لاحقاً، عندها تصبح سنة: سنة تاريخيّة. من هنا، يجب في السنة التاريخية أن تتطوّر داخلياً وذاتياً باتجاه المستقبل، وإلاّ، لما كانت سنّة. ولا يمكن أن تكون السنة التاريخيّة ضمن قائمة الجبر والإجبار، وإلاّ، فأين دور الإنسان إذاً؟ ونحن نقول باختيار الإنسان، وإنّه هو المحرّك، ولولا اختياره لما أمكنه أن ينتقل من سنّة إلى سنة في صيرورة من التطوّر والارتقاء الإنساني نحو المثل السامية.

* هل هذا هو تفسير للآية الشريفة: إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم؟
هذه الآية الشريفة مفسّرة لجزء من السنن الإلهيّة والتاريخية، وبالتحديد في تبيان دور الإنسان في هذه السنن، فعندما يكون الإنسان في حالة عالية من الاستعداد للمعرفة أو المواجهة أو أي عمل آخر، يأتي العون والنصرة الإلهية له. وهكذا يجب على الإنسان أن يكون في حال عالية من الجهوزيّة حتى يصل بعد ذلك إلى أهدافه بفضل من الله سبحانه. وهذا جزء مهم وأساسيّ في فهم مسار السنن التاريخية.

* ذكرتم ضرورة وجود الشخصية القائدة النبوية أو ذات البعد النبوي. ولكن التعاليم التي خلفها المسار النبوي واستوعبها البشر، ألا يمكنها أن تكون كافية لهداية البشرية لنيل عدالتها المرتجاة دون الحاجة إلى الشخصية القائدة؟
لقد أدركت البشرية واتفقت أغلب أديانها ومذاهبها الفكرية على حاجة البشرية إلى شخص المخلّص. الأديان جميعها في عمقها تجعل من قبلها مخلّصاً وتعد جماعتها بالوصول إلى يوم موعود بظهور مخلّص في آخر الزمان. وفي العصر الحديث حاولت الظاهرتان أو القوّتان الكبريان: الشيوعيّة والرأسماليّة أن تحقق كل واحدة منهما بطريقتها فكرة المخلّص، وأن توصل الناس إلى اليوم الموعود والجنة الدنيويّة التي لا خوف فيها ولا صخب. أمّا الشيوعيّة برؤيتها الماديّة وبرغم سعيها في محاولة تحسين ظاهر صورة الإنسان والاهتمام بقضاء حوائجه الماديّة فحسب فإنّها ما استطاعت أن تصل إلى الهدف المنشود أو المقدّس لديها، فانتهى عهدها وتحوّل منتظَرُها إلى هباء منثور، وذلك لعجزها عن تفسير علاقة البشريّة بآخرتها وبحاجاتها الروحيّة. ثم جاء دور الهيمنة الرأسمالية الكبرى والتي تصل بدورها اليوم إلى طريق مسدود من خلال سياساتها. ذلك أنّها لم تبنِ رؤيتها على المصلحة الحقيقية للبشر، بل قامت بتشويه صورة الآخرين المخالفين لها وأخذ أموالهم ومل‏ء بطونهم لوحدهم، وهو ما أدّى إلى تراجعهم المادي والمعنوي والسياسي والاقتصادي، برغم أن الرأسمالية أيضاً تنظّر ليوم موعود تتحقق فيه العدالة والرفاهية الاجتماعية، وذلك عبر من نظّر لها أمثال فوكوياما في حديثه عن الإنسان الأخير ونهاية التاريخ.

* وكأن السياق التاريخي وصل إلى حلقته الأخيرة. إذاً البشرية بفطرتها تبحث عن المخلّص أو عهد الخلاص، ولكن إضافة إلى الفطرة لماذا كانت المهدوية إسلامياً سنة حتمية لا مناص عنها؟
الإسلام ينطلق من منهج روحي ومادي في آن يدمج بينهما، فيوازن بين الدنيا والآخرة، كما يربط في رؤيته للتاريخ بين الحاضر والماضي والمستقبل. ونحن نؤمن بتربية روحية معصومة يقودها معصوم ويوجهها معصوم حتى لا يحصل في طريق سفينتها أي عصف. وحتى لو حصل هذا، فإنّه يرتد لمصالحها، حيث تخترق القوى المعصومة هذه العاصفة وتجتازها. كما أن التربية الروحانية التي شاهدنا من أخلاقها فصولاً في التاريخ وفي وسطه، سوف نشهد لها فصولاً أخرى تمهيداً لخروج القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف. وبالعودة لتاريخ الحقبة النبوية، فإننا نجد فيها أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد استطاع أن يبني خلال سنوات معدودة مجتمعاً طيباً طاهراً في أخلاقه، واستطاع أن يعدّ هذا المجتمع من خلال ومضات أشعّت أمام الناس حتى يقوموا بدورهم الطبيعي في تقديم الأسرار النبويّة والأنوار النبويّة للعالم بأسره.

وفعلاً قاموا بدورهم، حيث يذكر بعض دارسي التاريخ أن فتح البلاد من طنجة إلى جاكرتا خلال وقت قصير نسبياً وتغيير معالم هذه الدنيا بدولها وأنظمتها، يُعدَّ معجزة وليس مسألة عاديّة، وخصوصاً أن التوسّع الإسلامي في جزء كبير منه كان طوعياً ومن خلال الأثر الأخلاقي، وتحديداً في مناطق جنوب شرق آسيا وغرب أفريقيا. فنحن أمام مدّ نبوي روحاني كبير انطلق من ومضة نبويّة استمرت ألف عام، والتي ستتبعها ومضات إلى ما شاء الله حتى مجي‏ء النهاية الموعودة. والروايات المنقولة والمتواترة عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم تشير إلى أن الإمامة التي بدأت بعلي بن أبي طالب عليه السلام ستنتهي بالمهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، وأنّها ليست سنة على مستوى قراءة التاريخ، وإنّما على مستوى قراءة الكون. فالكون بدون محمّد وآل محمّد لا يمكنه الاستمرار. ومن رحمة الله بنا أنّ أثر محمّد وآل محمّد ما زال موجوداً بيننا لحفظ هذا الكون. هذه هي قناعتنا، إذ لا يمكن الشك بحتميّة حصول الحقبة المهدويّة من خلال كثرة الأحاديث وتواترها وهي قضية محوريّة جداً، ومن أهم مبادئنا الفكرية، ألا وهي دور قيادة الإمامة بعد قيادة النبوة، لتؤول الأمور إلى الإمام المهدي ليحكم دورة التاريخ، بما يهيّئه له الله سبحانه وتعالى ويقدّمه له من الموارد الطبيعية، لتغدو الظاهرة المهدويّة قوة كبرى لا يمكن لأحد أن يضاهيها، لا مادياً، ولا روحياً، ولا أخلاقياً، ولا عمرانياً. وكل ما قدّمته الحضارات على أساس أنّه تفوّق، سوف يجعله الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف في خدمة الشريحة المستضعفة. فتلك الحقبة ستتضمن أقصى درجات العدالة النسبية، حيث إن العدالة المطلقة إنّما تتحقق في الحياة الآخرة.

* لكن الإسلام ينظر إلى الآخرة على انّها المقر الأبدي للإنسان، حيث تتحقق العدالة المطلقة، فلماذا ضرورة وجوب السعي لتحقيق العدالة النسبية في الدنيا قبل الآخرة؟
هاجس العدالة وتحقيقها يجب أن يحكمنا دائماً وأبداً، وليس في حقبة معيّنة فحسب. فالعدالة قيمة إلهية يجب أن تتكرّس في حياتنا من منطلق استخلاف الله للبشر على هذه الأرض. ومن مقتضيات الاستخلاف نشر القيم الإلهية المختلفة فيها. من هنا، نرى أن الإسلام يشترط عدالة الأفراد المتصدّين للمناصب أو المواقع الهامة، بدءاً من إمامة الصلاة، مروراً بالقضاء، وانتهاءً بأولي الأمر. فالعدالة قانون عام عبّر عنه الإمام علي عليه السلام بأنّه أفضل من الجود، لأن الجود قد يتجه لغير المستحق، أمّا العدالة فتتجه إلى المستحق. وهاجس العدالة هذا هو المحرّك لسنن التاريخية في التغيير، ومن ثم التمهيد للحقبة المهدوية، حيث تحقيق العدالة الأرضية النسبية التي هي في النهاية واجب على كل مسلم ومسلمة في مختلف نواحي الحياة العامة صغيرها وكبيرها.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع