نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

قصة العدد: جدي... الصخرة

عبد اللَّه دهيني‏


كان أول شي‏ء عليّ القيام به بعد وصولي إلى القرية، وقبل أن أسلِّم على أحد من أهلها الذين بتُّ لا أعرف أكثرهم بعد غيابي الطويل القسري عنها، أن أزور جدي.

تركت رفيقي القائد ودخلت إلى المقبرة أفتش بين القبور التي ازداد عددها عما كنت أعرفه عن قبر وجدته سريعاً، فقد توفي منذ وقت قريب، جلست على الأرض، لامست اللَّوحة الرخامية ورحت اقرأ له الفاتحة بهدوء، تلك السورة التي علمنيها منذ صغري وهو يقول لي مداعباً شعري: اقرأها دائماً عندما تزور قبراً أو تذكر أحد الموتى فهي نور له في قبره. وكم رغبت أن أبكي، ولكن الفرحة كانت أقوى من الحزن، لقد كان هذا كلامه لي في آخر مرة رأيته فيها، بعد أن غادر المدينة منذ سنين منهياً زيارة قصيرة لها بعد أن إطمأن علينا: لا تبكِ على قبري عندما تعودون إلى القرية، ففي ذلك الحين لن يكون هناك مكان للحزن.

الآن فقط فهمت ما كان يقصده بكلامه ذاك. بل إنَّ كلامه كان يحيِّرني دائماً، سيما عندما كنت أشعر بالخوف وألجأ إليه ليضمني إلى حضنه ويمنحني الأمان وأغفو بين ذراعيه رغم أصوات القذائف التي كانت تدك أطراف القرية، وهو يهمس في أذني لا تخف يا جدو. وكنت أشعر بقوته وصلابته رغم شيخوخته. تلك الصلابة التي تشبه الصخر، وكنت أراه ذلك الامتداد لتلك الصخور المحيطة ببيتنا، والتي رفض اقتلاعها. لم أكن أستطيع التفريق بينه وبينها عندما كان يجلس فوق إحداها ليستريح من العمل في الأرض، ماسحاً عرقه بمحرمة القماش التي لم تكن تفارق جبينه. ولم أره خائفاً مرة واحدة مهما حدث، بل لم يكن يخاف من أحد أياً كان، حتى من الأعداء المحتلين. وعندما تحاصر الدبابات قريتنا أو تقتحمها للقبض على أحد المشتبه بهم، كان يقف في وجه الجنود ويحاول منعهم. بل لم أرَ آثار الخوف على وجهه حتى في ذلك اليوم الذي هددَّوه فيه بالقتل إن هو تدخَّل مرة أخرى، ولا أنسى قوله للضابط الذي أطلق الرصاص بين قدميه محاولاً إخافته: أنتم بحاجة إلى هذا الرصاص للدفاع عن أنفسكم عندما يهاجمكم شباب المقاومة، بدل الاختباء وراء الدشم.

كثير من الأشياء التي كان يقولها لي وأنا صغير، والتصرفات التي كان يقوم بها، بدأت أفهمها بعد أن كبرت، وسلكت الطريق التي شجعني كثيراً على سلوكها. عندما تكبر ستعمل مع المقاومين، فهم وحدهم سيطردون المحتل ويعيدون الأرض إلى أصحابها. ويغضب من جدتي عندما تستنكر قوله:

كفاك يا حاج، فأنت تتحدث عن المستحيل، دع الولد يلتحق بأهله بدل أن تملأ رأسه بهذه الأفكار. يغضب، ويطلب منها السكوت، متهماً إياها بالجبن. ولكن سرعان ما يتبدد غضبه بعد أن يجرني من يدي ويذهب بي لنجلس بين شجيرات الزيتون ويحدثني بصوته الهادئ‏ وكأنه يخشى أن يؤثر بي كلام جدتي: لا تستمع إلى جدتك يا ولدي فهي شجاعة، ولكنها مسكينة، تقول ذلك خوفاً عليك. وأسأله بحيرة وأنا أتأمل وجهه الملي‏ء بالتجاعيد التي تذكرني دائماً بالأرض المحروثة:
ولكن متى يتحقق ذلك يا جدي؟ ويربت على وجهي بحنان بكفه الخشنة القاسية: قريباً يا ولدي، قريباً. ويهز رأسه ثم يتابع كلامه وكأنه يحدث نفسه وهو يرمق ما وراء الأسوار بنظرة كنت أحس بها تخترق الحجب وتختصر المسافات والزمن، وكأن الأمر قد بات وشيك الوقوع: عندما يسيل دم الشهداء على هذه الأرض المباركة، تبدأ مسيرة التحرير، ولا تستطيع قوة على الأرض الوقوف في وجهها. 

وقبل أن أسأله عن السبب مستغلاً صمته، يتابع وكأن كلامه لم يتوقف أبداً: إنني أراهم يا ولدي وقد دخلوا منتصرين براياتهم الصفراء، والعدو وأذنابه يفرون تاركين كل شي‏ء. وهذا هو الوعد الإلهي للذين ينصرونه، وحاشى للَّه أن يخلف وعده، وهذا ما يجب أن تفعله يا ولدي عندما تكبر، وإياك أن تهادن أو تتعامل مع العدو حتى لو أعطوك كل كنوز الأرض. وتسيل على خده دمعتان يمسحهما ويتابع كلامه، كم كنت أتمنى أن أروي بدمي هذه الأرض عندما كنا نقاتل المحتلين في زماننا، وكم أتمنى اليوم لو أرزق الشهادة. تأملت لوحة الرخام، وبكيت من الفرح هذه المرة عندما قرأت كلمة (الشهيد الحاج...) قبل اسمه الكامل وتاريخ استشهاده، بكيت دون أن أخالف وصيته، فهو لم يوصني بعدم البكاء من الفرح.

همست له شاداً على يديه القاسيتين: هنيئاً لك يا جدي. أخرجتني من خيالي كف هزت كتفي برفق، مددت يدي وأمسكت بها دون أن ألتفت، لقد كانت كف (القائد)، احتضن كفي بكفه الأخرى ثم ساعدني على الوقوف وهو يقول: هيا بنا فلا يزال أمامنا الكثير. مسحت دموعي وسرت معه ولا زالت كفي تعانق كفه، كم كانت تشبه كف جدي عندما كان يجرني من يدي ويقودني إلى عالم العمالقة.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع