نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

الأخلاق والعرفان الإسلامي‏


آية اللَّه مصباح يزدي‏


في الواقع ما حقيقة السير والسلوك إلى اللَّه سبحانه سوى تحقق العبودية. وما المراحل المختلفة الممكن تصورها للسير والسلوك، أو التي تحدَّث عنها العرفاء، أكثر من تعريف لمراحل من مراتب العبودية. لأن العبودية تبدأ منذ اللحظة التي يقرر فيها الإنسان إطاعة اللَّه وفناء إرادته في إرادة اللَّه، والتخلص من استقلالية ذاته.

* السير والسلوك‏
إن أول مرحلة من مراحل العبودية في مقام العمل، هي أن يحرز الإنسان التقوى لنفسه، وذلك عن طريق أداء الواجبات التي يعيها، وترك المحرمات. ففي مقام السير والسلوك توجد مراحل يشترك فيها جميع السالكين. أي توجد أمور تلعب دوراً في توفيق الإنسان لانجاز هذه المراحل، إذا ما تنبّه الإنسان إليها، واهتم بها، واستفاد منها، يكون أكثر توفيقاً ونجاحاً في تحقق شرط العبودية. وهذه الأمور عبارة عن: "المشارطة"، و"المراقبة"، و"المحاسبة".

* المشارطة
إن الإنسان إذا ما استيقظ صباحاً من نومه، ينبغي أن يتأمل قليلاً في أن اللَّه سبحانه قد منَّ عليه في يومه الجديد حياة جديدة، إذ من الممكن أن ينتقل من نومه إلى الحياة الأخرى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا (الزمر: 42). لا بدّ للإنسان من التنبّه إلى أن الاستيقاظ من النوم نعمة من اللَّه سبحانه وضعت في متناول يده، يتمكن من خلالها كسب سعادة الدنيا والآخرة، أو خسارة الدنيا وشقاء الآخرة.. وإذا ما تأمل في ذلك، ينبغي أن يشترط على نفسه، وهو ما يطلق عليه اصطلاحاً بـ"المشارطة". وتمسكاً بهذا الشرط والعهد الذي أخذه على نفسه، يمتنع طوال ذلك اليوم عن ارتكاب الذنوب، ويعمل على أداء الواجبات. وهو بذلك يتعامل مع نفسه كأي شريك آخر في العمل والتجارة، يسلّمه رأس المال ويتعاهد معه على أن يأتي بهذه الثروة ربحاً وفائدة، لا خسارة وضرراً. وأن هذا الشرط والمعاهدة مع النفس، يتبعه تأثير نفسي كأن يكون الإنسان طوال ذلك اليوم أكثر حرصاً على أداء واجباته ومسؤولياته، وحذراً من أن لا يغفل.

* المراقبة
بعد "المشارطة" يأتي دور "المراقبة".. والمراقبة أيضاً مصطلح نستفيده من الأحاديث والأدعية. فقد ورد في المناجاة الشعبانية: "فأكون لك عارفاً، وعن سواك منحرفاً، ومنك خائفاً مراقباً". فإذا ما عاهد الإنسان نفسه وقرر اجتناب الذنوب وأداء الواجبات، يكون بذلك كصاحب العمل الذي يراقب عامله لكي يؤدي عمله على أفضل صورة. ولا بد لنا جميعاً من مراقبة أنفسنا لئلا تزل وتنحرف عن جادة طاعة اللَّه وعبادته.

* المحاسبة
بعد المراقبة يأتي دور "المحاسبة". فإذا ما أراد الإنسان أن ينام في المساء، لا بد له من التفكير لحظة بسلوكه خلال ذلك اليوم، وبتصرفاته وأفعاله التي صدرت منه حتى تلك اللحظة، وأن يحاسب نفسه عن كل واحد منها، كمحاسبة صاحب رأس المال لشريكه أو عماله. لا بد من الالتفات إلى عمل الأعضاء والجوارح ليرى هل أنجز كل واحد منها عمله على أحسن ما يرام؟ وإذا ما كانت كلها تصب في مسار العبودية ومسيرها، فليشكر اللَّه سبحانه على مثل هذا التوفيق الذي منّ عليه بأن أمضى يومه في طاعته. وإذا ما كان عاصياً مذنباً فليستغفر اللَّه وليسعَ إلى التوبة قبل فوات الأوان. فقد ورد في المرويات أنه إذا ما صدر عن المؤمن فعل مخالف للشرع، فإن الملائكة المكلفة بكتابة أعماله تتمهل قليلاً لعلّه يتوب ويرجع عن فعله، وإذا لم يتب تكتب ذنبه في اللوح المحفوظ. على أي حال، إذا ما ارتكب الإنسان ذنباً أو صدرت عنه زلّة وانحراف لا بد له من التوبة والاستغفار في تلك الليلة نفسها. وإن ترك واجباً عليه أن يقضيه سريعاً؛ وإذا ما ضيّع حق أحد فعليه أن يعوضه عنه ويسوي حسابه معه. إن هذه الأمور الثلاثة: اتخاذ القرار في بداية اليوم، والإشراف والمتابعة طوال اليوم، والمحاسبة آخر اليوم؛ موجودة في جميع مراحل السير والسلوك، إلاّ أن درجاتها وشدتها وضعفها مختلفة ومتباينة، كما سيأتي ذكره.

* مراحل السير والسلوك‏
المرحلة الأولى: تتمثل في الحرص على أداء الواجبات وترك المحرمات. وفي هذه المرحلة لا توجد ضرورة للانشغال بالمستحبات كثيراً. ينبغي للإنسان أن يركز اهتمامه على أداء الواجبات على أفضل نحو، وأن يحرص على أن لا تصدر منه أي زلّة أو يرتكب ذنباً. وبالطبع هذا لا يعني أن يتخلّى عن المستحبات كلياً؛ بل بإمكانه أن يؤدي المستحبات التي اعتاد على أدائها. بيد أن أهم أمر في مرحلة المراقبة هو مراعاة أداء الواجبات وترك المحرمات بشكل دقيق، لكي تتحقق له ملكة التقوى، وعندها يصبح أداء التكاليف والامتناع عن الذنوب أمراً سهلاً معتاداً.. وقد تم التركيز كثيراً على هذه المرحلة، التي ينبغي لجميع المؤمنين تجاوزها واعتبارها مقدمة في سيرهم وسلوكهم العرفاني؛ في المرويات وفي أحاديث عظماء علم الأخلاق والعرفان. فطالما بقي الإنسان مبتلياً بالذنوب، فإن أي سعي أو جهد على طريق عبادة اللَّه سبحانه، لا يكون له تأثير كبير على نفسه، لأن الذنوب تُذهب الأعمال. فالأخلاق السيئة والرذيلة كالحسد والحقد والضغينة وإساءة الظن تذيب الإيمان: "إن الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب". إن مراعاة التقوى وأداء التكليف والامتناع عن المحرمات، من شروط الموفقية في المراحل التالية للسير والسلوك أيضاً.

المرحلة الثانية: بعد أن تتحقق ملكة التقوى بهذا المستوى، يأتي دور مرتبة أسمى من مراتب المراقبة. فالسالك حتى الآن كان سعيه متمركزاً حول أداء الواجبات، أما في هذه المرتبة فإنه يسعى إلى ترك المشتبهات. والمشتبهات أفعال غير متيقنة حرمتها وخطأها، بل مشتبه بخطئها. أي ربما لم يكن الإنسان في البداية متيقناً، في معرض ارتكابه فعلاً ما، من حرمة ذلك الفعل، إلاّ أنه بعد أدائه له يتنبه إلى أنه ارتكب محرماً. وعليه فالمرحلة التالية اجتناب المشتبهات، وأداء قدر من المستحبات أيضاً، وترك بعض المكروهات. وبطبيعة الحال إن باب المستحبات واسع جداً، وإن الإنسان حتى لو تفرّغ لها صباح مساء لا يستطيع أن يؤديها كلها. وفضلاً عن ذلك فإن بلادنا الإسلامية بحاجة اليوم إلى البناء والإعمار، وإن هذا القدر من التكليف الواجب الذي نقوم بأدائه لم يترك متسعاً من الوقت للتفرغ للمستحبات. بيد أن هناك مستحبات لا تتزاحم مع الواجبات كأداء الصلاة في أول وقتها وهو من المستحبات التي تم تأكيدها كثيراً. فأداء الصلاة في أول وقتها لا يتطلب وقتاً أكثر من وقت أدائها في آخر وقتها. باختصار إن ما تمَّ تأكيده في السير والسلوك، هو أنه ينبغي لنا في البداية أن نختار لأنفسنا أعمالاً سهلة نتمكن من الاستمرار فيها، بحيث تتحول إلى ما يشبه الملكة. وإن علامة ذلك هو أنه إذا ما تركتها سهواً، تشعر بالتألم وعدم الارتياح. ينقل عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ما معناه أن عمل الخير يضفي على المؤمن عادة خاصة بحيث إذا لم يتمكن في يوم من الأيام من أداء ذلك العمل يشعر بعدم الارتياح وكأنه ضيّع شيئاً أو ارتكب ذنباً.

المرحلة الثالثة: بعد ذلك يصل الدور إلى مرحلة أسمى، وبطبيعة الحال تكون مقترنة بالمشارطة والمراقبة والمحاسبة.. وفي هذه المرحلة ينبغي أن يكون غاية اهتمام الإنسان بالقلب والنيّات القلبية، فإذا ما تمت تقوية روح الإنسان وجوارحه على أداء الواجبات واجتناب المحرمات بنحو لا يصدر منه أي انحراف أو زلّة من أي عضو، وأصبحت التقوى بالنسبة له بمثابة ملكة؛ فإن السير العرفاني يكون قد بدأ لتوه. لأن ذلك الذي يتصل بالأعمال من الممكن أن يصدر أيضاً من أي إنسان عادي. فالذي له بعد عرفاني مهم هو الأعمال القلبية للإنسان. إن هذه المرحلة تبدأ مع تزين الإنسان لأعماله بالنيّة الخالصة. ولا بدّ لهذا أن يبدأ بالواجبات، وأن يحرص الإنسان على أن لا يشوب الرياء أي واحد من الواجبات التي يؤديها. ولا بد من السعي لأداء الواجبات من أجل اللَّه سبحانه؛ واجتناب الذنوب من أجل اللَّه أيضاً، وليس بسبب الخوف من ألسنِ الناس. باختصار لا بد من خلوص نيتك في أداء الواجبات والامتناع عن المحرمات. طبعاً هذا عمل شاق إلاّ أنه ممكن. إن كل مرحلة من مراحل السير والسلوك أصعب من المرحلة التي سبقتها. إلاّ أنه وبفضل ألطاف اللَّه سبحانه التي يمنّ بها على عبده، ستكون سهلة وممتعة. فإذا ما استقام الإنسان في المراحل الأولى، وخرج من الامتحان مرفوع الرأس، فإن اللَّه سبحانه سوف يمنّ عليه بالبهجة والمتعة بنحو لو ترك في يوم ما عملاً من الأعمال المحببة إليه، فإنه سيصبح متألماً وحزيناً.

ولكي يتمكن الإنسان من خلوص نيته، لا بد له من مقدمات، لأن خلوص النية ليس بالأمر الذي يتمكن الإنسان من إحرازه متى ما أراد مباشرة.. فالذي يودّ أن يكون محبوباً بين الناس وأن يحترمه الناس، فإن الشائبة تجد طريقها إلى نيته شاء ذلك أم أبى. فلا بد للشخص الذي يريد أن يخلص النية، وأن لا يستهويه حب الجاه، ويبقى مصوناً من الرياء والادعاء؛ لا بد له من أداء واجباته بعيداً عن الأنظار قدر استطاعته. طبعاً هنا أيضاً من الممكن أن تحدث بعض الزلات والانحرافات. فبعضهم وبدافع أداء عباداته بعيداً عن الأنظار، لا يشارك في صلاة الجماعة. وعذره في ذلك أنه يريد أن يؤدي صلاته في خلوته لكي لا يدانيها الرياء. إلاّ أن هذه من مصائد الشيطان. لا بد من الالتفات إلى أن أحكام الشرع يجب أن تراعى بحذافيرها. ينبغي المشاركة في صلاة الجمعة والجماعة. ينبغي أن لا نقع فريسة أحابيل الشيطان ونضيّع أحكام اللَّه سبحانه بمثل هذه الأعذار.. أجل، إن عبادات من قبيل التصدّق، يمكن أداؤها بطرق مختلفة لا يطلع عليها الآخرون، وكذلك مساعدة الفقراء والمحرومين، بيد أن العبادات التي لها بعد اجتماعي، وتم الحث على أدائها بصورة جماعية، لا يجوز تركها بذريعة تجنب الرياء.

* إجعل قلبك مستأنساً بذكر الله
إن أحد الأمور المفيدة جداً والبنّاءة في هذه المرحلة، هو السعي لجعل القلب يأنس بذكر اللَّه ويطمئن إليه. فنحن إذا ما كنا نؤدي عملاً ما إرضاءً لرغباتنا النفسية، فإن ذلك نابع من ارتباطنا بهذا العمل بلذة مادية ورغبة وشهوة. ولكن عندما يرغب الإنسان في أن يؤدي عملاً ما لأن اللَّه سبحانه يحب هذا العمل، فإنه بذلك يجعل محبة اللَّه في قلبه بدلاً من محبة المادة أو اللذة.. إننا نقرأ في المناجاة الشعبانية: "إلهي لم يكن لي حول فانتقل به عن معصيتك إلاّ في وقت أيقظتني لمحبتك". فإذا تمكن الإنسان من مل‏ء قلبه بمحبة اللَّه، أصبحت جميع الصعاب والمعاناة سهلة هيّنة.. إذا ما ملأت محبة اللَّه قلب الإنسان، فإن قيامه الليل ليس فقط لا يكون شاقاً عليه، بل وممتعاً له لأنه بمثابة لقاء المحبوب.. فأي متعة أكبر وألذ للعاشق من لقاء محبوبه في خلوته وتبادل الحديث معه؟ فإذا ما وقعت ذرة من المحبة الإلهية في قلب الإنسان، فليس لديه لحظة أمتع وألذّ من المناجاة في الأسحار حيث العيون نائمة والأماكن هادئة موحشة، وهو يناجي المحبوب.. ولكي تتجلى محبة اللَّه سبحانه في قلب الإنسان، لا بد للإنسان أن يدرك النعم التي أنعم اللَّه سبحانه بها عليه، وأن يتأمل فيها.. باختصار إن شرط إيجاد المحبة الراسخة، هو معرفة اللَّه سبحانه والأنس بقربه.. فالمحبة الراسخة بين شخصين لن تحصل من خلال لقاء أو لقاءين، بل تترسخ المحبة إذا ما دُعمت بالأنس والألفة. وإن محبة اللَّه سبحانه موجودة في جميع القلوب بنحو ما.

* كيف السبيل إلى الأنس مع اللَّه؟
ولكن كيف يتسنى الأنس مع اللَّه؟ لا بد من السعي طوال الليل والنهار لأن يحتل ذكر اللَّه مكانه في القلب.. فإذا ما ابتلي الإنسان بمصيبة آلمته وأحزنته، فإن هذه المصيبة تبقى تشغل ذهنه إلى مدة من الزمان وأحياناً لا يتخلص من كابوسها حتى في نومه. ورغم مرور وقت طويل على تلك الواقعة، فإنها تبقى حية في موضع من قلبه وتتراءى له مهما تشاغل عنها وتناساها.. إن مثل هذا الاهتمام يمكن ايجاده في النفس بصورة اكتسابية وبفعل التمرين أيضاً. فالذي يسيطر عليه حبّ اللَّه سبحانه، يسخّر إرادته لخدمة أهداف اللَّه بشكل لا إرادي. وطبعاً إن الذي لا يشعر بمثل هذه الجاذبة بإمكانه أن يوجدها في نفسه بالتدريج من خلال التمرين. ويتمثل التمرين في أن يحرص على ذكر اللَّه وأن يراه دائماً ناظراً لأعماله. فمنذ أن يستيقظ صباحاً من نومه ينبغي له أن يلقن نفسه أن اللَّه سبحانه ينظر إلى أعماله دائماً رغم أنه لا يرى اللَّه. فمما ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قوله لأبي ذر: "اعبد اللَّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". فالالتفات إلى أن اللَّه سبحانه ناظر لأعمالك. لا يحتاج إلى التخطيط والابتعاد عن الناس وترك الأعمال كلها. إن هذا التوجه مرتبة من مراتب مرحلة "الذكر" و"توجه القلب"، التي إذا ما وصلت إلى حدّ الملكة، فسوف يشعر الإنسان بالتدريج أن قلبه بدأ يأنس باللَّه سبحانه. وإذا ما أنس وألف ذلك، اتسعت محبة اللَّه في قلبه وكبرت. وإذا ما كبرت محبة اللَّه، ازداد التعلق بالعبادة والذكر والدعاء والصلاة والمناجاة، وازداد تعلقه بتلاوة القرآن المجيد. ألا يرغب الإنسان في قراءة رسالة محبوبه؟ المحبوب الذي ابتعد عنه الإنسان، وقد بعث إليه برسالة يقرأها كلما سنحت له الفرصة.. القرآن هو كلام اللَّه والدال عليه سبحانه. فإذا ما تجلت محبة اللَّه في القلب، فسوف يقرأ الإنسان ذلك بشوق مرات ومرات.

على أي حال، إن هذه المرحلة من "المراقبة" يمكن إغناؤها بواسطة التمرين الذي يوجد في النفس التوجه القلبي إلى اللَّه ويوصله إلى حد الملكة. وإذا ما وجدت هذه الملكة في نفسه، فسوف توجد لديه بالتدريج حال وكأنه يرى اللَّه سبحانه. ليس فقط يصبح ناظراً لأعماله، بل تُفتح بالتدريج نافذة أمام قلبه يتمكن من خلالها من التحدث إلى اللَّه ومناجاته. فربما حصلت لنا جميعاً هذه الحال وهي عندما يكون الإنسان منهمكاً بالصلاة والدعاء، وإذا ما تحقق له حال من التوجه الخالص والأنس، فإنه يشعر في لحظة بأنه يرى اللَّه سبحانه أمامه يتحدث إليه مباشرة ومن غير حجاب. لأن الممارسة والتمرين بإمكانهما أن يوجدا في النفس مثل هذه الحال بنحو وكأن الإنسان يرى اللَّه سبحانه ويتحدث إليه مباشرة. فإذا ما وجدت هذه الحال في الإنسان وقويت وترسخت، اجتاز من مرتبة إلى مرتبة أسمى من المراقبة.. فمع إيجاد حال الأنس، ومن ثم تزايد المحبة والاشتياق؛ تزول بالتدريج الحجب بين الإنسان وربّه. الواحد تلو الآخر، وعندها يجد الإنسان توجهاً إلى اللَّه بشوق ولهفة. ولأنه يشعر بحضوره، فإنه يفرح ويبتهج. وإذا ما غفل لحظة فإنه يشعر شعور الذي ابتعد عن محبوبه. ويكون الابتعاد والفصل ثقيلاً عليه بشكل لا يطاق. ومثل هذا الإنسان يعتبر الغفلة ذنباً، ويستغفر لذلك. إذ أن استغفار أولياء اللَّه ليس استغفاراً من الذنوب، كما أنه ليس استغفاراً من أداء المكروهات؛ بل، وكما ورد في الأدعية والمناجاة، هو استغفار لكونهم يشعرون بأنهم غفلوا عن اللَّه سبحانه على الرغم من أنهم في حضرته. فمثل هذه الغفلة يعتبرونها من كبائر الذنوب.. إنهم يشعرون بالحياء والخجل لأنهم يؤدون في محضر اللَّه سبحانه عملاً يتسم ببعده المادي وهو من متطلبات حياة الإنسان المادية التي لا مفر من أدائها.

وإذا ما تكاملت هذه المرحلة، وأصبحت التوجهات القلبية متمركزة في ساحة القدس الإلهي؛ شعَّت الأنوار الإلهية في قلب الإنسان، وسمت به من المراتب الدنيوية المنحطة إلى المقامات الإنسانية المتعالية التي هي القرب الربوبي نفسه. وآنذاك لم يعد الإنسان يؤدي العبادة بالعذاب والمشقة، بل يعتبرها بمثابة تأدب في حضرة المحبوب، ويأنس بها ويبتهج، وينغمس في هذه اللذة بنحو ينسى فيه جميع لذائذ الدنيا. وإن مثل هذا الإنسان إذا ما اهتم ببعض اللذائذ الدنيوية بوحي من واجبه، فإنه يعتبر ذلك باهظ الثمن. ولذلك فهو يهتم بهذه الأمور امتثالاً لأمر اللَّه فحسب، وليس رغبة منه فيها. إن تصور مثل هذه الحال صعب بالنسبة لنا، فعلى سبيل المثال لو تصورنا شخصاً في عنفوان الشباب، حيث يكون ضبط النفس والامتناع عن المغريات أمراً شاقاً جداً، كالذي واجه النبي يوسف في قصر عزيز مصر. شاب في عنفوان رشده وقوته وجماله، وفي مكان بعيد عن الأنظار، يحاول أن يضبط نفسه. فمثل هذا العمل شاق جداً، إلاّ أن من له قلب يأنس بمحبوب أسمى، وأكثر جمالاً وسحراً؛ فإن ضبط النفس بالنسبة له يعد أمراً سهلا سهلاً جداً. فإذا ما أنست قلوب الأولياء الإلهيين باللَّه وتراءت لهم تجليات جماله؛ لم يلتذوا بغير جماله. وللَّه سبحانه له أيضاً الكثير من الإشارات مع أحبائه. إشارات لا يراها الآخرون ولا يدركونها. فهم لا يدركون فعل اللَّه سبحانه في قلوب أحبائه. كما أن عشاق اللَّه أيضاً لا يبوحون بهذه الأسرار. فهم وحدهم الذين يدركون ما يشاهدون..

أسأل اللَّه سبحانه أن يشع في قلوبنا شيئاً من هذه الحقائق وأن يغمر قلوبنا بمحبته، وأن لا يدع فيها مجالاً لحبّ الدنيا ومتاعها.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع