الابتكار في مقابل التضييق
الأسير المحرر علي حيدر
* مواجهة الشائعات
بداية أود أن أذكّر بفكرة اعتبر الإشارة إليها مهمة إلى حد ما وهي تمس منهجية تناول هذا الموضوع وغيره، مفادها أن هذه المواضيع هي محاولة لنقل صورة عن المعتقل من حيث هو ساحة من ساحات الجهاد ومعقل من معاقل المقاومة، لذا فإنني لا اعتمد الأسلوب القصصي أو المنهاج الوصفي، وإنما يتم اتباع المنهاج التحليلي مع الإشارة إلى المصاديق المؤيدة للقراءة الشاملة - على الأقل إلى حد ما - والعميقة (بنسبة معينة) والمنتزعة من واقع المعتقل.
لقد سبق أن أشرنا في ما مضى إلى أنَّ بث الشائعات شكّل مفردة من مفردات السياسة الإسرائيلية في معتقل الخيام والتي تعتبر أيضاً جزءاً من سياستها في كل زمان ومكان، ولا يفوتنا أن نشير ونؤكد أن من منطلقات انتهاج هذا الأسلوب - لدى الصهاينة - هو خوف الصهاينة وحرصهم على عدم إظهار الواقع كما هو وعلى عدم سطوع الحقيقة وتجليها... وافترض أن دلالات انتهاج هكذا أسلوب بما ذكرنا من منطلقات، واضحة المعالم ولا حاجة للإسهاب في شرحها.
* مجالات الشائعات:
إن اعتبار "إسرائيل" المعتقل ساحة من الساحات التي تطبق فيها سياستها العامة والشاملة وحقلاً من حقول الانتقام جعل أسلوب بث الشائعات شاملاً لكل المجالات التي يمكن أن يستخدم فيها هذا الأسلوب، ويمكن إجمال ذلك بما يلي: المجال الأمني - المقاومة والأخبار السياسية - الأخلاق - العلاقات بين الأسرى.
أ - المجال الأمني:
كأن تتم محاولة إثارة شبهات أمنية حول بعض الأشخاص الذين يريدون تحطيمهم نفسياً أو زعزعة ثقة الآخرين بهم ولذلك أساليبه المختلفة، مثلاً عبر عملاء غير مفضوحين بشكل كامل أو عبر القيام بعمليات تفتيش للغرف وذلك بعد انتقال أحد الأسرى منها إلى مكان آخر بطريقة توحي للأسرى أن مصدر المعلومات هو الشخص الذي انتقل من الغرفة... وغير ذلك من الأساليب... وفي مجال المقاومة والأخبار السياسية يُلاحظ أن الهامش الذي استطاع الصهاينة والعملاء اللحديون أن يستغلوه في هذا المجال لم يكن كبيراً جداً ولم يكن ثابتاً وإنما كانت نتائج أسلوب بث الشائعات في مجال المقاومة والأخبار السياسية، إما محدودة أو طارئة وعابرة لا تلبث أن تزول وذلك بسبب حصول الأسرى في فترات متلاحقة على جرائد وسجلات سياسية بشكل سري وبسبب الاعتقالات المستمرة الأمر الذي جعل دخول أناس جدد إلى المعتقل مستمراً على الدوام الذي قد يوضح بعضاً أو كثيراً من الأخبار وبسبب أن وقع علميات المجاهدين كان يصل أحياناً إلى درجة إظهار ردات فعل بعض العملاء اللحديين قولاً أو فعلاً ما كان يوضح الصورة لدينا، وكمثال على ذلك: في إحدى المرات دخل أحد عناصر الشرطة العسكرية وهو يصرخ بأعلى صوته: «لقد ادعوا أنهم قضوا على حزب الله (بعد عدوان تموز 1993) وها هو قد قضى عليهم» وعندما سُئل عن تفسير ذلك أخبر عن علمية جهادية للمقاومة الإسلامية أسفرت عن مقتل وجرح عدد كبير من الإسرائيليين (باعتراف إسرائيل نفسها)... ويوجد نماذج أخرى على هذا الصعيد.
* الأخلاق:
لقد حاول الصهاينة وعملاءهم إثارة أجواء تليق بأخلاقهم هم، وقيمهم هم من خلال العملاء المدسوسين وعبر الصهاينة واللحديين مباشرة وأكتفي بذكر هذه الحادة لأنها تكفي في دلالاتها: في يوم العاشر من محرم سنة 1989م وعلى أثر العملية الاستشهادية التي نفدها الشهيد الشيخ أسعد برو (9 آب 1989) وذلك في أعقاب اختطاف الشيخ عبد الكريم عبيد (28 تموز 1989) جال ضابط صهيوني مع عامر الفاخوري المسؤول العسكري اللحدي للثكنة والمعتقل في أنحاء المعتقل وعندما وصلا إلى غرفة معينة سمعته يقول: ممنوع كذا وكذا... وأصبح يسرد قائمة في المساوئ السلوكية والأخلاقية التي تليق بهم هم وتعتبر تجسيداً حياً لنفوسهم ومحتواهم الداخلي، وبعدها قال تحدثوا فيما بينكم بهذا الموضوع مع العلم أنهم يمنعون التكلم من غرفة إلى غرفة أخرى وبعد أن ذهبا وخرجا من القسم (القسم رقم 4 من المعتقل) هب الشباب يوصي بعضهم بعضاً بأن لا يتكلم أحد بهذا الموضوع سلباً أم إيجاباً لأن مجرد الحديث بذلك يعتبر تحقيقاً لهدفهم وتمّ الالتزام بذلك من قبل الأسرى... ولا أرى داعياً لتوضيح دلالات وأهداف ما جرى في هذه الحادثة لأنها واضحة في محتواها وتوقيتها وسياقها.
* العلاقات:
كان يتم في هذا المجال بث الشائعات بهدف إشاعة الفرقة بين الأسرى وزرع الحواجز النفسية... وذلك من خلال نقل كلام سيء لمعتقلين عن آخرين أو استغلال خلاف حصل فيتم معاقبة أحد الطرفين والعفو عن الآخر... وهكذا...
بعد ما ذكرناه، السؤال يبقى هو أنه كيف كان الرد وبأي أسلوب تمت مواجهة الشائعات.
إذا قمنا بعملية استقراء لمجمل ردات فعل الأسرى على هذه السياسة وخطواتهم العملية يمكننا أن نجمل أسلوب المواجهة التي تم اتباعها بما يلي:
أ - تعطيل الأهداف.
ب - الشك والحذر.
ج - التعاون لفضح الأساليب والفخوخ الأمنية.
* تعطيل الأهداف:
بعد أن استعرضنا المجالات التي كانت ميداناً لبث الشائعات فإننا نلاحظ أن الأهداف المباشرة التي كان يهدف الصهاينة إلى تحقيقها هي التالية:
زرع الشكوك وزعزعة الثقة بين الأسرى... بناء حواجز نفسية... تشويه الصورة... نشر الإحباط.... تحويل وجهة الصراع... بناء جدار بين الأسرى وبين ما يجري حولهم (المقاومة)...
في مقابل ذلك من الطبيعي أن يعمد الأسرى على العمل لمنع هذه الأساليب من أن تبلغ مرامها، كل وفق طبيعته وظروفه، فمقابل زعزعة الثقة عمل الأسرى على تعزيزها من خلال احتضان من تثار حوله الشبهات لتشويه صورته واحتضان التائب عن الخطأ وعبر خطوات عملية تمتن العلاقات... وبمقابل اصطناع الحواجز النفسية كانت محاولة إشاعة التسامح... والتداخل... والتعاون... بين الأسرى والمعتقلين وغير ذلك من الأمور...
* الشك والحذر:
إن وجود تصورات مسبقة لدى الأسرى والمعتقلين عن دهاء الصهاينة وحقدهم وتفسيرهم لاعتقالهم بأنهم يتحركون على ساحة تديرها مخابرات العدو وتتحكم بالكثير من جوانبها دفع - الأسرى - إلى الوقوف موقف الحذر والشك تجاه أي قول مجهول المصدر الأساسي أو مشبوه المضمون... حيث كان يتم مناقشة مضمون كثير من الأمور التي تروى ووضع كل الاحتمالات بالحسبان كما كان يتم التحري والتقصي عن تسلسل وصول الخبر إن أمكن.
* التعاون وتبادل المعلومات:
إن من الطبيعي أن تكون الفردية في مواجهة الأساليب المتبعة في بث الشائعات أسلوباً فاشلاً وغير مجد، من هنا كان التعاون وتبادل المعلومات بالمقدار الذي يخدم ويْنتج منهجاً ثابتاً. حيث أن أي مصدر يثبت تورطه أو وجود شبهات معتبرة... بعد مناقشتها... كان يتم تعميم المعلومات حوله بسرعة فائقة ونقل المعلومات التفصيلية حول ذلك إلى من يجهلها كما كان يتم نشر أي خبر يتم التيقن من صحته، خاصة إذا كان يدحض أموراً شائعة مجهولة أو معلومة المصادر.
* وقائع ودلالات في أحوال العملاء
هل تعلم أخي القارئ أن الأسرى كانوا يرشون - في مرحلة معينة - بعض ما يسمى بالشرطة العسكرية التابعة لعصابات أنطوان لحد والمسماة ب- "جيش لبنان الجنوبي" بعلبة طن أو سردين أو صابون من أجل تمرير ما يريدون تمريره إلى داخل القسم (حيث الغرف التي تحتضن الأسرى).... وإليك المصداق النموذج:
- عندما أراد أحد الأسرى تهريب راديو من المطبخ إلى داخل القسم وجد أن تفتيش الشرطة الدائم له يشكل عقبة أمامه فأخذ يأتي إليهم سراً بعلب طن أو سردين كل فترة معينة ويعطيهم إياها من مطبخ الثكنة لأنه كان يعمل فيه، وبقي على هذه الحال حتى اصبح يدخل دون تفتيش وعندما اطمأن الأخ الأسير للوضع أتى بالراديو وأدخله... فتدبر.
- في فترة زمنية معينة أمكن التماس والتواصل مع العسكريين اللحديين لثكنة الخيام (المعتقل) حيث تم العرض عليهم بمقايضة الصحف والمجلات السياسية بالصابون الإسرائيلي الذي كان يأتي إلى المعتقل سنة 1986 - 1987م وتمت الموافقة وتنفيذ ذلك على فترت متلاحقة... فتدبر.
اعلم أخي القارئ أن الإسرائيليين يحقرون العملاء اللحديين أشد تحقير، وكنموذج على ذلك: بينما كان أحد الضباط الإسرائيليين يحقق مع أحد الأسرى فاجأه بتهديد، وذلك بعد أن شك بأنه لا يعترف بمعلومات يمتلكها فقال له: هل تعترف أو آتيك بالكلاب اللبنانيين - في إشارة إلى المحققين اللحديين - وهم يعرفون شغلهم معك. وذلك لأن الإسرائيليين كانوا في أغلب الأحيان يوكلون التعذيب إلى اللحديين. بينما هم يكتفون بتوجيه الأوامر على هذا الصعيد.. فتدبر.