الشيخ حسن عز الدين
تتمايز المقاومة الإسلامية في صراعها مع العدو الصهيوني عن سائر حركات التحرر في لبنان والعالم العربي والإسلامي أنها انطلقت من رؤية متكاملة تجاه الحياة والوجود وارتكزت على منظومة فكرية وثقافية ودينية وسلكت طريقاً ترجم هذه المنظومة بمجموعة من السلوكيات التي لم يعد اللبنانيون عليها طيلة فترة الصراع مع هذا العدو، فكان الجهاد العسكري خياراً ونهجاً دائماً ومستمراً لا يخضع لظروف سياسية وأمنية أو شروط تفرضها التدخلات الخارجية أو الداخلية المعنية بالقرار السياسي فاندفعت هذه المقاومة لتحرير الأرض المغتصبة انطلاقاً من التكليف الشرعي والواجب الديني بوجوب التصدي للمحتل فيما إذا تعرضت بلاد المسلمين لخطر الغزو العسكري أو الثقافي أو الاقتصادي اقترن هذا الواجب بدافع إلهي يسعى المقاوم والمجاهد للحصول عيه هو رضى الله سبحانه وتبوؤ مقعد صدق في الآخرة مع الصديقين والأولياء والشهداء.
هذه المنطلقات للمقاومة الإسلامية صاغت منهجاً إيمانياً رسالياً اعتمد في مفرداته على القرآن الكريم وسيرة النبي والأئمة عليهم السلام فقدم مجاهدوها أرواحهم ودماءهم وأموالهم رخيصة دون أن يلتفتوا إلى ما حولهم من مغريات الدنيا وبهارج الحياة وهدفهم الأسمى القضية التي آمنوا بها عن وعي وإصرار واختيار فهزموا هذا العدو المتغطرس وأفقدوه قوته المعنوية التي كان يتحصن فيها.
وعلى هذا الأساس أصبح الالتزام بأهداف ومبادئ المقاومة الإسلامية انتماءً للوطن وتأييداً ودعماً لقضيته، وبما أن مفهوم الانتماء يعني وقبل كل شيء نهج حياة ويشمل جميع الشؤون الفكرية والسياسية والاقتصادية كما يعني الولاء والتضحية من أجل قضية مقدسة، فهو يعبر عن منظومة الإنسان الفكرية في رؤيته للحياة.
من هنا يمكن القول أن الانتماء لهوية المقاومة الإسلامية الفكرية تتسع بالتالي لجميع الانتماءات الأخرى ولا تتعارض معها بل تتفاعل فيما بينها وتتعاون لتصل بالتالي إلى درجة التكامل الإنساني وهذا ما تجمع عليه جميع الأحزاب والقوى السياسية الوطنية منها والقومية حيث أنها تلتقي على خيار المقاومة وتعتبر أن الانتماء للبنان يعني أول ما يعني الالتزام بموجبات التصدي لمخاطر الصهيونية وبموجبات الدفاع عن الحق القومي بمفهومه الشامل.
فالمقاومة الإسلامية استطاعت أن ترسم في إطار مشروعها الفكري والجهادي مفهوم الوطن الصحيح وتحدد أولوياته فالوطن الذي يكون جزءاً من أرضه محتلاً فهو منقوص السيادة والاستقلال ولا يستقيم إلا بتحرير أرضه المغتصبة والمدنسة ولا شعر شعبه بالعزة والكرامة إلا بعد هزيمة العدو الصهيوني الذي يطمع باحتلال الفكر والثقافة والاقتصاد والمياه.
عندما حددت المقاومة الإسلامية أن الخيار الصحيح هو خيار الجهاد والتحرير وأن اللغة الوحيدة التي يفهمها هذا العدو هي لغة القوة، وبفضل عملياتها وضرباتها العسكرية تمكنت من قهر هذا العدو وأجبرته على الانسحاب من جزء من الأرض التي احتلها لأول مرة في تاريخ الصراع.
* وحدة الشعب:
إن صمود المقاومة ومجتمعها الأهلي في وجه العدوان الإسرائيلي الدائم والمستمر وخاصة ما تعرض له لبنان شعباً وحكومة ومؤسسات أثناء عدوان 93 ونيسان 96 ورغم شراسة هذين العدوانين الكبيرين رأينا كي خرج العدو ذليلاً ولم يحقق شيئاً من أهدافه التي أعلنها أثناء عدوانه وهي:
1- ضرب بنية المقاومة.
2- تأمين أمن المستوطنات.
3- عزل المقاومة عن شعبها. فضلاً عن عدم تحقيقه أهدافه كانت النتائج عكسية بفضل صمود المقاومة وشعبها ومجاهديها فأفرز ذل عنصراً جوهرياً جديداً للمقاومة حيث استطاعت أن تشكل قاعدة صلبة وحالة توحيدية لقيامة الوطن والرافعة التي مكنت اللبنانيين من الالتقاء والالتفاف حولها حيث وجدنا أن قضية المقاومة التي يلتقي عليها كل اللبنانيين من جميع انتماءاتهم واختلاف طوائفهم ومذاهبهم وقد تجلى ذلك دعماً وتأييداً كاملاً وتمظهر في حالة الاحتضان الشعبي للذين هجرهم العدوان، حيث لم تشكل الخلافات المذهبية والطائفية عائقاً أمام التقاء اللبنانيين وتفاهمهم ووفاقهم الوطني عندما شعر الجميع أن القضية هي بحجم الوطن وأن العدو الصهيوني هو عدو الجميع وعدو الإنسانية. ساهمت المقاومة بتوحد اللبنانيين وأصبح الوفاق أقرب من أي وقت مضى فكان أن قدمت نموذجاً في الممارسة الوطنية الصحيحة لتخرج اللبنانيين جميعاً من الحسابات الخاصة والمصالح الفئوية والضيقة إلى رحاب الوطن وقضاياه المصيرية.
* ثقافة الاستشهاد:
أدخلت المقاومة الإسلامية من خلال حركتها الجهادية معادلة جديدة لم تكن داخلة في موازين الصراع، هذه المعادلة هو العمليات الاستشهادية التي وقف العدو أمامها عاجزاً عن فعل أي شيء وكان ذلك باعتراف قادة الصهاينة أنفسهم حيث قالوا ماذا نفعل لإنسان يقتحم الموت وهو يبتسم، هذه الثقافة الجديدة بعثت الأمل في النفوس وأعادت شيئاً من التوازن وأدخلت مفردات جديدة في عملية الصراع، فأقدمت على هذه العمليات في إطار مشروعها الفكري والحضاري القائم على بناء الإنسان وصياغة شخصيته وفق المبادئ الإلهية السامية، فأعادت ثقته لقدراته وانتمائه لذاته واستعادت له هويته الحقيقية التي سلبها الاستعمار وزرعت فيه حب الشهادة في سبيل الله وفي سبيل القضية المقدسة، مستندة في ذلك إلى الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة.
وبذلك سادت ثقافة الجهاد والشهادة لتنتج مجموعة من القيم الفكرية والتربوية ساهمت في تعزيز الانتماء للمقاومة وتجسيد أبرز المصاديق في التضحية من أجل قضية مقدسة وتجلت بأروع صور الممارسة الوطنية الكاملة وقدمت نموذجاً كاملاً في الولاء للوطن رغم كل الاعتراضات على هوية المقاومة لأن تجربة المقاومة وحدها استطاعت أن تجمع بإخلاص وصدق أرض الوطن ودم شعبه وأثبتت أن المقاوم والمجاهد كان شاهداً على ظلم وجور العود أثناء احتلاله، فلم يحتمل الذل والهوان لأبناء وطنه فاستشهد لأجل قضية شعب ووطن فاستحق القداسة، وخلق فينا شعوراً باتجاه ما استشهد من أجله وصار الواحد منا يفتخر في انتمائه لهذا الشعب ولذه الهوية التي تصنع الشهداء، وتمظهر ذلك عنفواناً وعزة واقتنع اللبناني أنه يستطيع أن يكون بحجم وطنه وقضاياه وأن هويته تحتاج إلى فكر ودم من أجل أن تبقى وتصان.
كما صاغت هذه الثقافة شخصية جديدة في تحديد اهتمامات الإنسان متفلتة من حالة اللامبالاة والتعلق بالأمور الهامشية تجاه قضايا وطنه إلى حالة الاهتمام والفعالية وتحديد الأولويات الصحيحة في القضايا السياسية الأساسية كما تجلى ذلك في حالة الممانعة ضد مشاريع العدو الثقافية والاقتصادية ورفض التطبيع باعتباره يشكل خطراً على الإنسانية كما ساهمت هذه الثقافة ببناء الشخصية الإنسانية الواعية التي تعمل من أجل وطن معافى من الأمراض المذهبية والطائفية ومن أجل تحكيم قيم العدالة والمساواة ورفع الغبن والحرمان عن هذا الشعب.
وفي نهاية الحديث عن دور المقاومة في تعزيز الانتماء للوطن لا بد من الوقوف أمام ظاهرة السرايا اللبنانية بجدية التي كانت النتاج الطبيعي لجهاد المقاومة وقضية الوطن كل الوطن في التحرير الذي يعتبر مهمة وطنية يجب على الجميع بجميع طوائفهم ومذاهبهم وقواهم السياسية الوطنية والقومية واللبنانية أن يساهموا في تحرير الأرض التي يحتلها العدو لأن الأرض لبنانية ولا تعرف الطائفية ولا المذهبية بل تعرف الدم الذي يرويها والقدم التي تطؤها والعبوة التي تنفجر بالعدو وعلى هذا الأساس انسجاماً مع البعد الفكري للمقاومة، أطلق الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله مبادرة تشكيل السرايا اللبنانية ليفسح المجال، أمام جميع اللبنانيين بالانخراط في صفوفها للمشاركة في عملية التحرير دون النظر إلى هوية وطائفة المنتمي، والهدف من ذلك ترجمة شعارات المقاومة الداعية إلى المشاركة للجميع عملياً وبالتالي يتوحد لبنان بدماء أبنائه والدم الذي يراق في سبيل التحرير هو أغلى وأصدق ما يجتمع عليه اللبنانيون وتساهم في تعزيز روح الصمود ورفض التطبيع مع عدو الإنسانية.
هذه التجربة التي تشهد بداية التقدم والنجاح ستشكل في نهاية المطاف نموذجاً متكاملاً يحدد الجميع من خلال قضية انتمائهم للوطن لأن موضوعا المقاومة والانتماء متلازمان فلا انتماء لوطن لا يحميه شعبه ولا يقاوم من أجله.