الشيخ نعيم قاسم
الحديث عن الوحدة أقرب إلى رغبتنا ومقومات قوتنا من التفرقة، ولكن المشكلة التي تواجهنا دائماً هي الجنوح إلى التنظير والعناوين العامة الإجمالية مع الافتقار إلى ملامسة التطبيق العملي الذي يوصل بشكل طبيعي إلى هذه الوحدة، ولا شك في أن عنوان القدس يحمل قابلية كبرى للوحدة، شرط تلمس الخطوات المترابطة والمتكاملة للتقدم اتجاه هذا الهدف.
1 - الأرض المقدسة:
القدس عاصمة الأنبياء، وقد أسرى الله برسول الله إليها (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير)، ومنها عرج إلى السماء وإليها يعود المسلمون فاتحين على يد الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، وهي التي صلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم باتجاهها قبل أن تصبح الكعبة الشريفة قبلة المسلمين، هذه المكانة الدينية معززة بتفاصيل أخرى كثيرة راسخة في عقول وقلوب المسلمين، وإثارة موضوع القدس من زاوية الارتباط الديني تساعد بشكل واضح على سلامة الانطلاقة، فنحن لا نتعاطى مع أرض محتلة لأشقاء فلسطينيين بل مع أرض مقدسة تعني المسلمين جميعاً. وورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله:"أربعة من قصور الجنة في الدنيا: المسجد الحرام، ومسجد الرسول، ومسجد بيت المقدس، ومسجد الكوفة". ومهما حصل من موانع وعقبات تمس علاقة المسلمين مع بعضهم بسبب سوء أداء بعض جماعاتهم فلا يصح أن ينعكس الأمر على النظرة المقدسة وتكريس الاهتمام بها، فما حصل بعض المجموعات في لبنان مثلاً بالإساءة إلى السكان كاد يوصل إلى القطيعة مع قضية القدس لولا سلامة التوجه الذي ركزه الإمام الخميني قدس سره والعمل الحثيث للفصل بين القضية وسوء تطبيق من يمثلها، وكذا مهما كانت القضايا الداخلية في بلدان المسلمين لا يجوز أن تصرفهم عن التوعية والتثقيف والتوحيد والإعلام حول قضية القدس، لأن كل بلداننا تعاني من خصوصياتها وأزماتها، فإذا كانت حائلاً دون الاهتمام بالقدس فهذا يعني فقدان العنوان التوحيدي على الرغم من قداسته واهتمام الإسلام به.
2 - خطر الاحتلال الشامل:
الاحتلال للأرض لا يقبل به أحد، وأصحاب الحق يجمتعوا على العداء للاحتلال، ونظراً لسعة الأطماع الإسرائيلية التي تبدأ من فلسطين، وتصل إلى ما بين الفرات والنيل، وتشمل التحكم السياسي والثقافي والاقتصادي بمقدرات منطقة الشرق الأوسط هذا إذا ما أضفنا النظرة الاستكبارية الغربية وخاصة الأميركية في تبني المشروع الإسرائيلي ودعمه بكل أسباب الحياة كمدخل لهم إلى منطقتنا ومعبر من خلاله إلى حضورهم وفعاليتهم، وإقلاق لكل المحيط الصهيوني حيث النفاذ منه إلى الدور الاستكباري أيضاً. فإننا أمام خطر داهم لا يقتصر على بقعة جغرافية محددة. والتعاطي مع الاحتلال على أساس هذه النظرة يساعد في إحياء شعور الخطر عند المسلمين كافة، فمن لا تحركه القداسة أو تبقى قاصرة عن إشعاره بالمسؤولية فإن الأطماع التي ستضرب مصالحه ومصالح بلده تشكل دافعاً حقيقياً لتوحيد الجهود كيما يتمكن الجميع من مواجهة الغدة السرطانية واسعة النفوذ والتي تحمل قابلية التوسعة أيضاً ما لم تواجه لتحديد مساحة انتشارها بالحد الأدنى إذا لم نقل بقدرة القضاء عليها.
3 - يوم القدس يوم الإسلام:
إن إعطاء الإمام الخميني قدس سره البعدين الإسلامي والعالمي لقضية القدس، فسح في المجال الآفاق المساندة لها وتشجيع انضواء مجموعات كثيرة على امتداد العالم بسب هذه التوسعة، فهو يقول في خطاب الإعلان عن يوم القدس في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان 1399ه؛:"إن يوم القدس يوم عالمي وليس يوماً يخص القدس فقط بل هو يوم مواجهة المستضعفين للمستكبرين، يوم مواجهة الشعوب التي رزحت تحت ضغط الظلم الأمريكي وغير الأميركي".
ويقول أيضاً:"إني اعتبر يوم القدس يوم الإسلام ويوم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو يوم لا بد لنا فيه من تجهيز القوى لإخراج المسلمين من حالة الانزواء ومواجهة الأجانب بكامل قوتهم في أقطارنا، ولا يجوز للمسلمين أن يسمحوا لغيرهم بالتدخل في شؤون بلادهم".
إذاً حتى لو كانت القضايا التي تهم المسلمين في أي بلد مختلفة عن قضايا البلد الآخر، لكن ألا توجد قضايا مشتركة أو مصير مشترك أو عدو مشترك أو هدف مشترك، فليكن البحث بدقة عن هذه المشتركات وخاصة أن الجميع يلمس خطر الاستكبار الأمريكي على بلدانا اقتصادياً وسياسياً، والجميع يلمس تثبيت الأنظمة الظالمة عندنا لتواطئها مع الاستكبار، وأن شعارات حقوق الإنسان والإرهاب والحرية لا تستخدم إلا ضد الأحرار والمؤمنين. إضافة إلى الفراغ الفكري والديني الذي لم يستطيع أحد ملؤه إلا من الإسلام الذي أضحى محركاً للمسلمين في أقطارهم كافة وبرزت الحركات الإسلامية في العشرين سنة الأخيرة كمخلص وبديل بعد التجارب المريرة مع الرأسمالية والشيوعية والخليط بينهما.
ولو أخذنا عنوان الإسلام كإشعاع يربط بين القدس وقضايانا في مواجهة الأجانب لكفى في تكتيل قوة المسلمين إذا أحسنَّا الأداء تحت هذا العنوان:
وهذا التعميم في دائرة الاهتمام السياسي بالتحدد هو المطلوب، لأن الفرق في البحث عن الوحدة من خلال المسائل الفقهية أو مسائل الاختلاف الفكرية سيزيد البعد بين المسلمين، وسيتسلح كل بمذهبه مدافعاً ومواجهاً دون قابلية فهم الطرف الآخر. أما العنوان العام فهو أقدر على الجمع خاصة أن تفاصيل الاختلاف لا تؤثر عليه في مواجهة الاحتلال بل تؤثر علينا في إثارة بعضنا البعض.
استطاعت المقاومة الإسلامية اكتشاف ثقة المسلمين في فلسطين والعالم حول مصداقيتها في الدفاع عن المقدسات والعمل لتحرير الأرض وجدية قتال العدو الإسرائيلي، وكان للتضحيات العظيمة التي قدمها الشهداء والمجاهدون الأثر الكبير، لأنه عطاء الدم الواضح والبارز أمام الجميع، وحصلت الآثار العظيمة بانعكاسها المباشر أيضاً على وضعية الكيان الصهيوني واهتزازه وإرباكه وسقوط عنفوانه، وهذا يؤكد على أهمية الجهاد في التوحيد والاستقطاب وإزالة الحواجز المصطنعة بين المسلمين، ونلاحظ اليوم التناغم الحاصل بين المسلمين في لبنان وفلسطين ببركة المجاهدين، علماً أن الحاجز الكبير الذي زرعه الاستكبار والجهلاء من أمتنا ومعهم المتعصبون تركز على التفرقة بين السنَّة والشيعة، حتى كادت تسب القضية الفلسطينية على السنة وكأن الشيعة خارج دائرتها ودائرة اهتماماتهم، لكن الجهاد هو الذي ذوب هذا الحاجز الكبير، وتولدت مشاعر الحب والتعاطف مع المقاومة الإسلامية في أكثر الدول الإسلامية تعصباً ولم يعد غريباً اليوم أن نرى مقبوليتنا في المغرب العربي ودول الخليج وفي السعودية ومصر وغيرها. أما في داخل فلسطين فالحب كبير كبير لصلة التماس في عطاءات الدم المشتركة واليومية. ولا توجد قضية تحظى بهذا التقدير وهذا الالتفاف الجهادي كقضية القدس، فقد لاحظنا أن الحرب العراقية - الإيرانية مع أنها عدوان للعراق على إيران أججت مشاعر مذهبية حاقدة، وعدوان العراق على الكويت فرَّق حلفاء الأمس وأثر الأمر على الشعوب، وحركات المعارضة داخل الأنظمة أدت إلى انقسامات شعبية حادة تبعاً للمصالح.. وعندما أراد حزب الله أن يجمع الأحزاب في لبنان كان العنوان الواضح والصريح هو مقاومة الاحتلال مع اختلاف الرؤية بين من يرى القدس كهدف ومن يرى لبنان كهدف لكنه خطوة ارتبطت بمواجهة"إسرائيل" المحتلة للقدس.
إذاً كل المؤشرات النظرية والعملية تدل على أهمية الجهاد لتحرير القدس كأولوية في الاستقطاب والاستنهاض للأمة وتصويب الشعرات المبدئية وحشد الطاقات وتوحيد المسلمين وتحقيق إنجازات ميدانية هامة.
وقد التفت الغرب إلى قوة مفهوم الجهاد وآثراه العملية وتظافره مع وحدة المسلمين ومشاعرهم، فلجأ إلى خطة ذات بعدين:
الأول: إسقاط الجهاد.. الكفاح المسلح، من خلال بث مفهوم الحل السلمي عن طريق المفاوضات وبرعاية دولية كأمل لتحقيق شيء للفلسطينيين، وحاولوا تيئيسهم من خلال الالتفاف الدولي حول"إسرائيل" وتجفيف منابع تمويلهم وإثارة الفتن بينهم وفي مناطق الشتات، وجاء كمب دايفيد وبعده اجتياح 82 ثم القضاء على قدرة العراق والتحكم العسكري بمنطقة الخليج واستنزاف الطاقات المالية النفطية عندهم لتكتمل صورة الدفع باتجاه واحد وهو التسوية أو ما اصطلح عليه بالحل السلمي تحت شعار الأرض مقابل السلام، وهكذا كان مؤتمر مدريد خطوة رئيسة ومفضيلة للقضاء على روحية الجهاد وآفاقه.
الثاني: فلسطنة فلسطين من خلال إسقاط عنوانها الإسلامي وحصرها في بداية الأمر في الدائرة العروبية - عروبة فلسطين - ثم بعد ذلك حق الشعب الفلسطيني ف تقرير مصيره دون علاقة لأحد فيه، بل ضيقت الدائرة إلى منظمة التحرير كممثل وحيد للشعب الفلسطيني وقد ركزوا كثيراً على كلمة وحيدة ليتسلح بها عرفات بعد ذلك ويسقط الآخرين ويبعد طاقات المسلمين عن المساهمة في تحرير فلسطين.
فإعادة الجهاد إلى الأداء العلمي اليومي للقضية الفلسطينية، وتحميل المسلمين هذه المسؤولية يساعد على إيجاد الرابط الأساسي للوحدة بين المسلمين والذي لا يترك أي حساسية فيما بينهم بل يحرج المتأملين ويسقط المفرطين والخائنين.
نستنتج مما سبق أن قضية القدس تشكل موضوع الأول والأبرز في تعزيز وحدة المسلمين.