مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

دروس من نهج البلاغة


تنمية الغرائز المشتركة وتهذيبها/ الفصل الثاني


تستلزم الصحة النفسية والتربية الروحية المرور بثلاث مراحل تربوية رئيسة، هي:
أولاً: تنمية الغرائز والقيم والميول التي تميز الإنسان عن غيره.
ثانياً: تنمية الغرائز المشركة بين الإنسان والحيوان وتهذيبها.
ثالثاً: محاربة الميول الشيطانية الزائفة.


فلو أننا راعينا بدقة هذه المراحل عند تربية أنفسنا والمجتمع الإنساني، وبدأنا بمعرفة القيم الإنسانية وتنميتها، وكبتنا في الوقت نفسه الميول الشيطانية الزائفة واقتلعنا جذورها من أنفسنا، ثم هذبنا غرائزنا وميولنا، لبلغنا ما نبتغيه من سلامة النفس، ولرأينا أنفسنا والعالم بلون آخر، ولتقرر مستقبل الإنسان بالشكل المطلوب والسليم، ولأمكن منع كثير من المفاسد والانحرافات الفكرية والاجتماعية التي تصيب الإنسان، ولا سيما جيل الشباب.

* أقسام الغرائز والميول:
يختص بعض من الغرائز والميول البشرية بالنفس الإنسانية. ولا نجدها في سائر الحيوانات. وتسمى هذه بالغرائز الإنسانية الممتازة، أو الإلهية، مثل: حب العلم، وتعشق اكتشاف الحقائق والتعقل والفكر والتفكير الصحيح، والتدبير، والحذر والتطلع إلى المستقبل، والحياء والعفة والطهارة، والفطرة الباحثة عن الله، والضمير الأخلاقي... وغير ذلك مما أشرنا إليه في الفصل الأول، وهناك غرائز أخرى لا تختص بالإنسان وحده، بل نجدها لدى الحيوانات أيضاً وهي تسمى الغرائز المشتركة بين الإنسان والحيوان، مثل: الغريزة الجنسية، وغريزة الغضب، وحب الاستعلاء، والتقليد، وحب الأبناء، وحب الحياة، وحب الذات، والقابلية، على التعود والتربية، وغير ذلك، وهناك مجموعة من الميول والرغبات الشيطانية الزائفة التي ينبغي إخمادها واستئصال جذورها من النفس الإنسانية.

وتتصف الغرائز والميول المشتركة بين الإنسان والحيوان بأبعاد مختلفة وتحظى بأهمية بالغة من الناحية التربوية التربوية والأخلاقية. لذا لا بد من معرفتها وتنميتها وإنضاجها لكي يستمر بقاء النسل الإنساني وتُلبَّى حاجاته المادية والمعنوية والاجتماعية، كما تجب أيضاً السيطرة عليها وتهذيبها لكيلا تطغى فتهيمن على كيان الإنسان. فعليه، إذا تركت هذه المجموعة من الغرائز المشتركة وتبلورت ولم تهذب بعد ذلك ولم تخضع لسيطرة العقل والدين والقيم الأخلاقية، فإن الإنسان يعود مخلوقاً ناقصاً أحادي البعد وشريراً، مفسداً ومتوحشاً.
وهي مما لا يمكن الحياة بدونها، كما لا يمكن بدون تهذيبها والسيطرة عليها أن نرى وجه الهدوء، والتكامل، والحضارة، والعدالة، والسعادة. فالشهوة، والغضب، وحب المال والولد، وحب الذات، مثلها مثل أمواج المياه والسيول الثمينة التي لولاها لعرضت الحياة والزراعة للخطر الداهم، كما أنها من دون السيطرة عليها وتوجيهها بالسدود المحكمة، تدمر الحرث والنسل؛ وعلى هذا الأساس، إن أردنا بلوغ الصحة النفسية المثالية كان علينا أن نهتم اهتماماً كاملاً بتنمية هذه الطائفة من الغرائز والميول والسيطرة عليها وتهذيبها وتوجيهها.

* الغرائز والميول المشتركة:
1 ـ غريزة الغضب: من الطبيعي أن تشهد حياة الإنسان الاجتماعية، وكذلك عالم الحيوان، وقوع هجمات خارجية، لذلك لابد لكل كائن حي أن يمتلك قدرة على الدفاع عن نفسه ووسائل وأدوات للمحافظة عليها ووقايتها والرد على هجمات العدو، لذلك فإن رب الخليقة الحكيم قد وهب لكل كائن حي من وسائل الدفاع ما يتناسب وحاجته وطريقته في الدفاع عن النفس. وما غريزة الغضب إلا واحدة من تلك الوسائل، فهي مقدسة وثمينة حينما يتعلق الأمر بالدفاع عن النفس والمجتمع والأموال والأعراض، وبعد استخدامها شكلاً من أشكال الصراع والجهاد، ولكنها إن لم تُهذّب ولم تستخدم في مواضع الدفاع الحقة بما رسمه الله، فإنها ستكون وسيلة مدمرة تدل على الجنون، إذ قال الإمام علي عليه السلام: "الحِدَّة ضَربٌ منَ الجُنونِ لأنَّ صاحِبها يَندم، فإن لم يندَم فجنُونه مُستحكمٌ".
لذلك فإن غريزة الغضب من النعم الإلهية التي يمكن الاستفادة منها بالاتجاه الإنساني بعد تنميتها والسيطرة عليها وتهذيبها.

2 ـ الغريزة الجنسية: يرتبط استمرار كل كائن حي وبقاؤه بغريزته الجنسية ارتباطاً كاملاً، ولكن إذا لم تربّ هذه الغريزة ولم يُسيطَر عليها ولم تُهذَّب، فإنها ستجر الفرد والمجتمع إلى الانهيار.
يقول الإمام علي عليه السلام: "... فَرحم الله امرءاً نزعَ عن شَهوته وقَمعَ هوى نفسه".

3 ـ غريزة اكتساب العادات: من حكم رب الوجود العجيبة خلقه غريزة التعود لدى الكائنات الحية، إذ أنها تصبح بهذه الغريزة المقدسة قابلة للتربية واكتساب العادات الحسنة، وقادرة على التغلب على المشاكل بسرعة، وإنجاز الأعمال الصعبة المضنية، فلولا غريزة التعود لما سارت حياة الإنسان وسائر الكائنات الأرضية وفق نظام مثالي. ولكن هذه الغريزة ـ أيضاً ـ إن لم تُهذب وتُوجه، فسوف يعتاد الإنسان على أنواع الأعمال القبيحة والسيئة، وسيظهر له أخطر الأعمال وأقبحها أمراً عادياً، وسوف يصاب بأنواع من حالات الإدمان، وهنا تتضح أهمية دور الدين والمثل القدوة، كالأنبياء والأئمة المعصومين عليه السلام، وقد قال الإمام علي عليه السلام:
"أيُّها الناس تَولَّوا من أنفسكم تأديبها، واعدلوا بها من ضراوة عاداتها".

4 ـ التطلع نحو الحرية: وهو أساس كل المحاسن، والسبيل الصحيح لبلوغ السعادة والتكامل، ومحاربة الظلم والجور والاستبداد، ولكن ينبغي لنا ألا ننسى أن سوء استغلال الحرية أمر غير مقبول، إذ ينبغي عدم التذرع بالتطلع إلى الحرية للتمرد على القوانين الإلهية والاجتماعية، أو الأعراض عن الوالدين والأساتذة والمربين الحريصين، أو الاحتجاج بالحرية في القبول بمختلف أشكال العبودية والفساد التي تتعارض مع حرية الإنسان الحقيقية. يقول الإمام علي عليه السلام مخاطباً مالكاً الأشتر:
"... فاملِك هَواكَ وشُحَّ بنفسكَ عما لا حل لك".
وفي موضع آخر يأمر عليه السلام كميل بن زياد بتوجيه أسرته نحو المحاسن بالمراقبة والإشراف الصحيح. يقول له:
"... يا كميل، مُر أهلَكَ أن يَروحوا في كَسب المكارم ويُدلجوا في حاجة من هو نائم".
ويوصي ولده الإمام الحسن المجتبى عليه السلام:
"ولا تكن عبدَ غيرك وقد جعلك الله حرّاً".

5 ـ غريزة الخوف: الخوف مقبول بالدرجة التي تخلق لدينا روح الحذر والتدبير وتخيفنا من عواقب الذنوب والسيئات وانهيار شخصيتنا وقيمنا. يقول الإمام علي عليه السلام:
"رحم الله امرءاً سمعَ حكماً فوَعى... راقَبَ ربَّه وخاف ذَنبه".
ولكن إذا لم تتم السيطرة على غريزة الخوف وتهذيبها وتوجيهها فإنها ستجر الإنسان نحو الانزواء والجبن والهوان والشك والتردد والمذلة، وهنا تنبغي مكافحتها.

* قال الإمام علي عليه السلام:
"إذا هِبتَ أمراً فَقع فيه، فإنَّ شدَّة توقّيه أعظم مما تخاف منه".
فلو تقرر أن يجرنا الخوف إلى الضعف والتساهل والكسل، فالسبيل لمحاربته هو الشجاعة والإقدام في أداء الأعمال الإيجابية.

6 ـ غريزة حب التفوق: إن الرغبة الكامنة في كل كائن حي في التقدم على إقرانه وبني جنسه والانطلاق نحو الأمام، صفة بناءة، ولكن إذا لم تهذب هذه الغريزة فإنها تؤدي إلى الأنانية، والاستبداد، وحب الهيمنة، والغطرسة، وإزاحة الآخرين، وحرمانهم من حقوقهم، ما يخلق حالة فاجعة ومدمرة تكون أساساً لكل أشكال الاستبداد، والاستغلال، والاستعمار الاقتصادي والثقافي وعندها تنبغي محاربتها وحصرها في إطار حركة تكاملية لكي تصبح أساساً للتسابق والمسارعة إلى الخيرات ولا تتجاوز حدودها المقررة. يقول الإمام لمالك الأشتر:
"... يا مالك، وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة.. فإنه مأخوذ منكَ لغيرك".
وفي موضع آخر يتحدث الإمام عن حب التفوق المقبول فيقول:
"اللّهم إني أوَّل من أنابَ وسَمع وأجاب، لم يَسبقني إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة".

7 ـ روح التقليد: عندما تكون روح تقليد الآخرين واتباعهم ضمن إطار حب تقليد الرموز واتباع القدوات الحسنة الكاملة وباتجاه المحاسن والقيم الأخلاقية والمسيرة التكاملية، فهي مقبولة ومطلوبة.
يقول الإمام علي عليه السلام:
"أنظروا أهلَ بيت نبيكم فالزموا سَمتَهم واتَّبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم من هدى، ولن يُعيدوكم في رَدَى".
ولكن لئن لم تُهذّب روح التقليد والطاعة وتوجه توجيهاً سليماً، فقد تحل محلها روح التقليد الأعمى، فتصاب المجتمعات الإنسانية بالانحرافات والمآسي الاجتماعية. يقول الإمام عليه السلام:
"ولا تُطِيعوا الأدعياء الذين شرِبتم بِصَفوكم كَدَرهم، وخَلطتُم بِصحتِكُم مَرضهم، وأدخَلتُم في حَقِّكم باطلهم، وهم أساسُ الفُسوق".
مثل تقليد المجتمعات المتخلفة للغرب في فسوقه وفساده.

8 ـ الميول والرغبات: تبرز لدى الإنسان ميول ورغبات مختلفة وفقاً لنمو الغرائز المتنوعة ونضجها، وهي أساساً ميول ورغبات طبيعية تتوافر ضمن حدود معينة، ولا بد من إشباعها بشكل إيجابي كالغريزة الجنسية وإرادة الحرية، والزواج وحب الأبناء والأموال ضمن حدود الشريعة والضوابط السليمة للمجتمعات البشرية، ولكن إذا لم تتم السيطرة على الميول والرغبات النفسية وتهذيبها، وتركت لتتغلب على الإنسان، فإنها سوف تؤدي إلى مختلف أشكال الانحرافات والإعوجاجات، قال الإمام عليه السلام:
"وما مِن معصيةٍ لله إلا تأتي في شَهوةٍ، فَرحِمَ الله امرءاً نَزَعَ عن شَهوته".
ويقول في كلام قيّم آخر له:
"إنَّ الجنَّة حُفَّت بالمكارِه، وإنَّ النار حُفَّت بالشَّهوات".
ويواصل حديثه قائلاً:
"فَمن اشتاقَ إلى الجنَّة سلا عَنِ الشَّهوات، ومن أشفَقَ من النارِ اجتنَبَ المُحَرَّمات".

9 ـ كسب الأصدقاء والعلاقة مع الآخرين: يميل كل حيوان نحو أبناء جنسه والذين يرتبط بهم بعلاقات، فيألفهم ويهتم بهم، ويتخذهم أصدقاء. إن روح اكتساب الأصدقاء وإقامة العلاقات مع الآخرين أقوى لدى الإنسان مما هي لدى سائر الحيوانات، وهي تحظى لديه بخصائص وميّزات قيمة، لذلك وجبت تنمية هذه الغريزة وإنضاجها، يقول الإمام علي عليه السلام:
"أعجزُ الناس من عَجَزَ عن اكتسابِ الإِخوان، وأعجزُ منه مَن ضَيَّع من ظَفَرَ بهِ منهُم".
ولكن هذه الرغبة والغريزة الإنسانية، إذا لم تهذب ولم تقم على أساس الضوابط والشروط المعقولة، فسوف يصبح كثير من الصداقات صداقات زائفة وشيطانيةً تدمر كل القيم الفردية والأسرية للإنسان، ولا سيما تلك العلاقات التي تقوم على أسس متزعزعة من الحب والمودة الكاذبة والعابرة، وقد حذر الإمام عليه السلام من ذلك بالقول:
"... ومَن عَشِقَ شيئاً أعشى بصَره وأمرَضَ قَلبهُ فَهو يَنظرُ بِعينٍ غَير صحيحةٍ، ويَسمعُ بأُذنٍ غَير سمِيعةٍ، قَد خَرَقتِ الشَّهواتُ عقله".
بعد ذلك يدلنا على سبيل تهذيب روح حب الأصدقاء فيقول:
"أحبِب حَبِيبَكَ هَوناً ما، عَسى أن يكونَ بَغَيضَكَ يوماً ما".

10 ـ غريزة الأكل والشرب: لا بد لكل كائن حي أن يأكل وأن يشرب من أجل استمرار حياته وبقائه، ومن الطبيعي أن يلتذّ في أكله وشربه بمختلف أنواع المأكولات والمشروبات، ويشعر بالراحة والاطمئنان، ولا يمكن للإنسان أن لا يخضع لهذا القانون الحيوي، ولكن عليه أن يراعى في الأكل والشرب صحة بدنه لكيلا يبتلى بالأمراض المختلفة، كما أن عليه العناية بصحته النفسية فيعنى بالأكل والشرب ويسيطر عليهما، فلا يقبل على كل غذاء، ولا يعتدي على أرواح الناس وأموالهم، كما ينبغي ألا يصبح الأكل والشرب قضية الإنسان الرئيسة ولا هدفه الأساس فيضحي من أجل ذلك بكل قيمة الإنسانية. الإمام علي عليه السلام يحذر من ذلك بقوله:
"ولا تُدخلوا بُطونكم لُعَقَ الحَرامِ فإنكم بعينِ مَن حرَّم عليكم المعصية وسهَّل لكم سُبُل الطاعة".
ثم يجري مقارنة مهمة فيقول:
"إنَّ البهائِم هَمُّها بُطونُها، وإنَّ السِّباعَ همُّها العدوان على غَيرها".
بناءً على ذلك يجب على الإنسان، وهو أشرف المخلوقات وخليفة الله في الأرض، أن يسيطر أيضاً على هذه الميول المادية ويهذبها ويهتم أكثر بقيمه الأخلاقية لكي يتمكن من التغلب على المشاكل ويبلغ السعادة الحقيقية، ويرى وجه الحقيقة الزاهي، إن شاء الله.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع