نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

خطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في استقبال شهر رمضان(1)(*)(1)

سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)


من أجمل ما يمكن أن يستقبل به الإنسان شهر رمضان المبارك هو خطبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكلّ ما يمكن أن يُقال أو يُفعل في هذا الشهر العظيم، نجده في خطبته صلى الله عليه وآله وسلم كخطبةٍ جامعةٍ للإرشادات والتوجيهات، وهي خطبة ممتدّة إلى كلّ الناس، في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلى قيام الساعة.

* توصيات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في شهر رمضان
ذكر الشيخ عبّاس القمّي رحمه الله هذه الخطبة في كتاب مفاتيح الجنان، يقول: روى الشيخ الصدوق رحمه الله -وهو من كبار علمائنا وفقهائنا- بسندٍ معتبر عن الإمام الرضا عليه السلام عن آبائه عليهم السلام، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطبنا ذات يوم، وقال:
- "أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّهُ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اللهِ بِالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ"؛ هنا تعريفٌ لشهر رمضان من قِبَل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بمعنى أنّه يرتبط بالجانب المعرفيّ؛ معرفتنا، وفهمنا، ووعينا. فما هو شهر رمضان؟ وما هي قيمته ومنزلته؟ إنّ إدراك قيمة الزمان أو المهلة الزمنيّة التي نعيشها، تتفاوت من شخص لآخر؛ فإذا كانت لا تعني له شيئاً، فهو سيدير لها ظهره، وإذا كانت ذات قيمة عالية جدّاً، فسوف يستفيد منها أقصى الاستفادة، سواء كانت ساعات، أو أيّاماً، أو ليالي، أو شهوراً.

- "شَهْرُ اللهِ بِالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ"؛ بمعنى أنّ هذا الشهر أحضر معه البركة في مجالاتها كلّها، والرحمة الإلهيّة، وغفران الذنوب، أيّاً تكن هذه الذنوب، وأيّاً يكن هؤلاء العاصون.
 

- "شَهْرٌ هُوَ عِنْدَ اللهِ أَفْضَلُ الشُّهُورِ، وَأَيَّامُهُ أَفْضَلُ الأَيَّامِ، وَلَيَالِيهِ أَفْضَلُ اللَّيَالِي، وَسَاعَاتُهُ أَفْضَلُ السَّاعَاتِ"؛ منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى هذا الكون، جعل عدّة الشهور اثني عشر شهراً، والشهر ثلاثون أو تسع وعشرون يوماً -بحسب التقويم القمريّ-، ولكن شهر رمضان هو الأفضل بين تلك الأشهر كلّها، وأيّامه ولياليه وساعاته هي أفضل الأيّام والليالي والساعات.
 

- "هُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اللهِ"؛ دعا الله سبحانه وتعالى عباده في مثل هذه الأيّام والليالي ليكونوا ضيوفه. عادةً، يسمّى الحجّاج إلى بيت الله الحرام "ضيوف الرحمن"، وهم يذهبون إلى مكّة للقيام بالمناسك والشعائر، مضافاً إلى التعب والسفر والجهد...، بينما شهر رمضان هو للناس كلّها؛ للمستطيع وغير المستطيع، وحيث هم في قراهم، وأحيائهم، وبيوتهم، وبلدانهم، كلّهم مدعوون إلى ضيافة الله سبحانه وتعالى، بدءاً من اللحظة الأولى لهلال شهر رمضان المبارك.
 

- "وَجُعِلْتُمْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ كَرَامَةِ اللَّهِ"؛ هؤلاء الذين يُقبلون على هذه الضيافة، سيكونون من أهل كرامة الله سبحانه وتعالى. تصوّروا أن يكرمنا الله بما عنده، فهذا شيء عظيم وجليل وكبير.
 

- "أَنْفَاسُكُمْ فِيهِ تَسْبِيحٌ"؛ من خصوصيّات هذا الشهر وعظمته، أنّ أنفاس العباد التي هي عمل لا إراديّ، سواء كنت مستيقظاً أو نائماً، عدَّها الله سبحانه وتعالى تسبيحاً على مدار ليالي هذا الشهر العظيم وأيّامه وساعاته، ولها أجر التسبيح، فهل يوجد كرم وجود وعطاء من الله سبحانه وتعالى أكثر من هذا؟
 

- "وَنَوْمُكُمْ فِيهِ عِبَادَةٌ"؛ إذا استمرّ الإنسان في النوم طيلة الوقت، فلن يكون النوم عبادة، بل هو نوع من الكسل والفشل، والله سبحانه وتعالى لا يحبّ الكسل، بل المقصود من النوم هو ذاك الذي يحتاج إليه الجسم بحدوده الطبيعيّة، وهو ما يعتبره الله سبحانه وتعالى عبادة.
 

- "وَعَمَلُكُمْ فِيهِ مَقْبُولٌ"؛ يوجد تخفيض في شروط قبول الأعمال وأسبابها؛ هذا العمل نفسه يمكن أن تنجزه خارج شهر رمضان، ولسبب أو لآخر قد لا يُقبل منك، أمّا في شهر رمضان فالأعمال مقبولة.
 

- "وَدُعَاؤُكُمْ فِيهِ مُسْتَجَابٌ"؛ شهر رمضان هو شهر الدعاء؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى يستجيب فيه أدعيتنا. قد يقول بعض الإخوة والأخوات إنّنا طلبنا في شهر رمضان من الله كذا وكذا، فلم يعطنا، إلا أنّ الله سبحانه وتعالى يعطينا ما فيه صلاح دنيانا وآخرتنا، والقاعدة هنا كما ورد في دعاء الافتتاح: "ولعلّ الذي أبطأ عنّي هو خيرٌ لي، لعلمك بعاقبة الأمور".
 

- "فَاسْأَلُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ بِنِيَّاتٍ صَادِقَةٍ، وَقُلُوبٍ طَاهِرَةٍ"؛ إذاً، بناءً على هذه المعرفة، هذا الشهر هو أعظم الشهور وأفضلها، وأيّامه أفضل الأيّام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، وأنّنا ضيوف الله، وأهل كرامة الله، وأنفاسنا فيه تسبيح، ونومنا فيه عبادة، وعملنا فيه مقبول، ودعاؤنا فيه مستجاب... يُرتّب لنا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم توجيهاً عمليّاً؛ قبل البدء بأيّ عمل، يجب أن نستعين بالله سبحانه وتعالى، على أنفسنا الأمّارة بالسوء، وعلى الشياطين المغلولة، وأن نطلب منه التوفيق والمساعدة والتأييد والتسديد لنمضي في هذا العمل، وأن تكون نيّاتنا صادقة، وقلوبنا طاهرة.
 

- "أَنْ يُوَفِّقَكُمْ لِصِيَامِهِ، وَتِلاوَةِ كِتَابِهِ"؛ أكبر عنوانَين بدأ بهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هما الصيام وتلاوة القرآن؛ الصيام الذي هو فريضة، ضمن الشروط الشرعيّة والفقهيّة، وتلاوة الكتاب الذي هو من أعظم الأعمال في شهر رمضان المبارك. وأوّل ما يوجّهنا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الدعاء لله أن يعيننا ويوفّقنا في ما نريد أن نقوم به من عمل.
 

- "فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ غُفْرَانَ اللَّهِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ"؛ إذا لم نغتنم شهر البركة، والرحمة، والمغفرة، والضيافة والكرامة الإلهيّتين، والأجر العظيم (الذي سيُذكر على بعض الأعمال)، نكون قد خرجنا من هذا الشهر ولم يُغفر لنا، ولم نكن ممّن شملته الرحمة الإلهيّة، وهذا معنى الشقاء.
 

- "وَاذْكُرُوا بِجُوعِكُمْ وَعَطَشِكُمْ فِيهِ، جُوعَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَعَطَشَهُ"؛ يـــجب أن يكــــون جوعنا وعطشنا مذكِّريــــن لنا لما ينتظرنا يـــــــوم القيامة؛ وهما يساعداننا أيضاً على الإقبال أكثر على الأعمال، وتحمّل الجهد والتعب في هذا الشهر المبارك. عندما يُحشر الناس جميعاً يوم القيامة في صحراء المحشر -والله أعلم كم ستكون أعداد البشرية- في يومٍ طويل؛ فيوم القيامة ليس 24 ساعة فحسب، بل هو يوم الانتظار الصعب، ففي ذلك اليوم جوعٌ أين منه الجوع؟ وعطشٌ أين منه العطش؟
 

- "وَتَصَدَّقُوا عَلَى فُقَرَائِكُمْ وَمَسَاكِينِكُمْ"؛ من جملة ميّزات شهر رمضان الأساسيّة، أنّه شهر الفقراء والمساكين. وكما أنّ الرحمة الإلهيّة تشملنا جميعاً، فمن جملة أشكالها دعوة الناس إلى يتصدّقوا ويهتمّوا بالفقراء والمساكين، والثواب المترتّب على هذا العمل عظيم.
 

- "وَوَقِّرُوا كِبَارَكُمْ وَارْحَمُوا صِغَارَكُمْ"؛ بمعنى الأدب، فشهر رمضان شهر التأديب. كلّ ما سبق مطلوب أيضاً في غير شهر رمضان، ولكن لهذا الشهر خصوصيّة كونه دورة تأديبيّة، تذكيريّة، تعبويّة، تهذيبيّة، تعليميّة، لصياغة الإنسان، وروحه، وأخلاقه، وإرادته، وعزمه من أجل خير دنياه وآخرته.
يجب على الصغار أن يوقّروا الكبار ويحترموهم، كما يجب على الكبار أن يرحموا الصغار ويصبروا عليهم، خاصّةً في فترة صيام الكبار.
 

- "وَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ"؛ شهر رمضان هو شهر صلة الرحم، والتواصل بين العائلات.
 

- "وَاحْفَظُوا أَلْسِنَتَكُمْ"؛ احفظوا ألسنتكم عن السبّ والشتم، واللعن، والكلام البذيء، والكذب، والنميمة، وعن كلّ قولٍ حرام، وعن الشهادة الزور، وقول الزور.
 

- "وَغُضُّوا عَمَّا لا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ أَبْصَارَكُمْ، وَعَمَّا لا يَحِلُّ الاسْتِمَاعُ إِلَيْهِ أَسْمَاعَكُمْ"؛ غضّوا أبصاركم عن كلّ ما يحرم أن تنظروا إليه؛ فعلى عينك أن تتجنّب الحرام، وعلى أذنك أن تتجنّب الحرام.
 

- "وَتَحَنَّنُوا عَلَى أَيْتَامِ النَّاسِ يُتَحَنَّنْ عَلَى أَيْتَامِكُمْ"؛ هو شهر الأيتام أيضاً، والعناية الخاصّة بالأيتام. وهذا له أجرٌ عظيم عند الله سبحانه وتعالى، وله أثر دنيويّ لمن يموت أو يُقتل أو يستشهد ويترك في عائلته أولاداً صغاراً، حيث سيجد من يتحنّن على أيتامه. والأيتام هم الفتيان والفتيات الذين توفّي والدهم ولم يبلغوا سنّ التكليف أو الحُلُم.
 

- "وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ مِنْ ذُنُوبِكُمْ"؛ هذا شهر التوبة، والرحمة، والبركة، والمغفرة، والله سبحانه وتعالى يقبل التوبة في هذا الشهر، وطالما أنّنا في ضيافته سوف يقبل منّا ويعطينا بجوده وكرمه.
 

- "وَارْفَعُوا إِلَيْهِ أَيْدِيَكُمْ بِالدُّعَاءِ فِي أَوْقَاتِ صَلاتِكُمْ، فَإِنَّهَا أَفْضَلُ السَّاعَاتِ، يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا بِالرَّحْمَةِ إِلَى عِبَادِهِ، يُجِيبُهُمْ إِذَا نَاجَوْهُ، وَيُلَبِّيهِمْ إِذَا نَادَوْهُ، وَيُعْطِيهِمْ إِذَا سَأَلُوهُ، وَيَسْتَجِيبُ لَهُمْ إِذَا دَعَوْهُ"؛ في هذا المقطع، إلفات إلى أنّ أفضل ساعات شهر رمضان هي ساعات الصلاة وأوقاتها؛ أي من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، من الزوال إلى المغيب، والليل كلّه طبعاً من مغيب الشمس إلى طلوع الفجر؛ لأنّه وقت الصلوات الواجبة والمستحبّة. إذاً، أوقات الصلاة هي أفضل ساعات التوجّه والعبادة والدعاء لله سبحانه وتعالى.
وفي العدد القادم، إن شاء الله، تتمّة الخطبة.
 

(*) من كلمة سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)، في الليلة الأولى من شهر رمضان المبارك، بتاريخ 7 أيّار 2019م.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع