آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص مجتمع | "الأمّ بتلمّ" مناسبة | من رُزق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حُبّها

القرآن الكريم: نعم للتسليم لا للتعطيل‏


الشيخ عبَّاس رشيد


لقد وصلنا في العدد ما قبل السابق إلى نتيجة وهي: إن القرآن الكريم يؤثِّر أثره إذا سلّمنا لتعاليمه وطبّقناه، ولكن لا يعني التسليم لتعاليم القرآن تعطيل العقل والفكر، كيف والقرآن العظيم عامر بالآيات المحرِّكة للعقل والفكر؟ فها هو يحثُّ على تحصيل العلم: ﴿وَاعْلَمُوا (البقرة: 231)، ويكرِّر اللوم والتوبيخ على ترك الفكر: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا (الروم: 8)، ويؤكِّد على لزوم التعليم والتعلُّم: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون (التوبة: 128)، ويقرِّر أن الهدف من بعثة الأنبياء هو التعليم والتربية: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ(البقرة: 151)، كما ويشير إلى أن نزول القرآن الكريم هو لهدف التدبر والتفكر: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (ص: 29)، ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (محمد: 24).

إلى كثير من الآيات الكريمة المرتبطة بمسألة الفكر والعقل والعلم التي لو أردنا استقراءها لاكتمل لدينا كتاب بحاله. فالقرآن الكريم لا يريد تسليماً أعمى، ولا تعطيلاً متخلِّفاً، وكذلك هناك أمر ثالث لا يريده وهو: التكلُّف بإعطاء العقل ما ليس له، وهنا المأزق الإنساني، حيث الظنون والأوهام والأهواء تحكم دون المنطق واليقين.

* سقوط إبليس‏
يُروى أن إبليس احتجَّ على ربِّه ووجَّه إليه أسئلة عديدة بعد أن رفض السجود لآدم وكان جواب اللَّه جلَّ وعلا : لو كنت يا إبليس صادقاً مخلصاً في الاعتقاد بأني إلهك وإله الخلق ما احتكمت عليّ بكلمة لماذا؟ فأنا اللَّه لا إله إلا أنا، لا أُسأل عمّا أفعل والخلق كلهم مسؤولون. ثم يعلِّق الشهرستاني على ذلك: إن كل شبهة وقعت لبني آدم منذ بدء الخليقة حتى يومنا هذا، نشأت كلها من هذه الكلمة، لماذا؟ أو هي ترجع على حد تعبيره إلى إنكار الأمر بعد الاعتراف بالحق، والجنوح إلى الهوى في مقابل النص، فاللعين الأوّل لمّا أن حكّم العقل على من لا يُحتكم عليه العقل لزمه أن يجري حكم الخالق في الخلق أو حكم الخلق في الخالق والأوّل غلو والثاني تقصير(1).

هذه حال إبليس في اختلاق معاذير وتبريرات، وتساؤلات، لماذا؟ لماذا؟ وفي النهاية سقط إلى الهاوية، بعد أن كان طاووس الملائكة وزين العبّاد في العالم السماوي! ويشبه إبليس في ذلك اليهود وقصصهم معروفة مع موسى وهارون عليه السلام، وقصة البقرة مشهورة حيث أمرهم موسى أن يذبحوا بقرة: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُون (البقرة: 67-71). لقد أمرهم اللَّه بذبح بقرة ولم يطلب منهم أكثر من ذلك، ولكنهم لم يقنعوا وأخذوا بالتساؤلات، سؤال ينطح سؤالاً، حتى أرهقوا موسى، وما كادوا ينفِّذون أمر اللَّه تعالى.

* الحجاب لماذا!؟
ومن الناس من يكثر التساؤلات، فانظر على سبيل المثال إلى كثير من النساء المسلمات، اللاتي يتساءلن عن فلسفة الحجاب. هذا شي‏ء حسن، معرفة فلسفة الحجاب وحكمته جيّدة، ولكن ينبغي أن يسلِّمن للأمر الإلهي بالحجاب، وبعد ذلك فليسألن ما بدا لهن. وربما إذا أخذت تسرد لهنّ غايات الحجاب وحكمته أخذن في تبرير عدم التزامهن، وخرّجن لك المخاريج. إذا قلت لهن: إن الستر يصون المجتمع من الفساد، قلن لك: ولكنّ الزمان قد تغيَّر والحجاب عادة قديمة والعالم إلى تطوّر وتمدّن، والناس قد وصلوا إلى القمر، وسيصلون قريباً المريخ، ولا نعلم متى سيصلون إلى مجرّة أخرى غير مجرّتنا، ويتابعن: والفساد أقرب إلى عصر الجاهلية منه إلى عصر النور والعلم، وشباب اليوم غير شباب الأمس، إلى آخر المعاذير، التي لا تقف أمام المنطق والعقل. وهكذا معاذير، وتبريرات، وشبهات، وأوهام، وفي النهاية سلام على أمر اللَّه ونهيه.

إن التساؤل حسن، ومعرفة الحكمة والمصلحة حسنة، ولكن ينبغي التسليم لحكمة اللَّه منزل القرآن الحكيم، وبعد ذلك فليسألن ما بدا لهن. إن القرآن الكريم لا يدعو إلى تعطيل العقل، وكبت التساؤلات، ولكن في الوقت نفسه هو يدعو إلى التسليم لأوامر اللَّه ونواهيه: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (النساء: 125) ﴿َلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (النساء: 65). فلو أن إبليس سلّم للَّه ما سقط، ولو أن اليهود سلّموا للَّه ما لعنوا، ولو أن المسلمين سلَّموا للَّه بالتسليم لكتابه لارتفعوا وتطوّروا وتقدّموا، وانتصروا، فهلاّ نسمع لنداء القرآن الحكيم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ (الأنفال: 24).


(1) الشهرستاني، الملل والنحل، ص‏7.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع