أذكار | أذكار لطلب الرزق مع الإمام الخامنئي | سيّدة قمّ المقدّسة نور روح الله | الجهاد مذهب التشيّع‏* كيـف تولّى المهديّ عجل الله تعالى فرجه الإمامة صغيراً؟* أخلاقنا | الصلاة: ميعاد الذاكرين* مفاتيح الحياة | التسوّل طوق المذلَّة* الإمام الصادق عليه السلام يُبطل كيد الملحدين تسابيح جراح | بجراحي واسيتُ الأكبر عليه السلام  تربية | أطفال الحرب: صدمات وعلاج اعرف عدوك | ظاهرة الانتحار في الجيش الأميركيّ

أوّل الكلام: لحظة الأمان الحقيقي

الشيخ يوسف سرور

 



﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِين (الصافات؛ 102-111).

كان إبراهيم عليه السلام يرى العالم من حوله برزخ تحت نير عبوديةٍ أناخت قواه المعرفية، وأحبطت -أو كادت- قابليّاته وإمكانياته. كان العالم من حوله أسير الإذلال والقهر الذي يمارس عليه من قبل طغاة العصر، الذين لم يتوانوا عن ادعاء الألوهية. بل حصر الألوهية بهم، فقتلوا من المعارضين ما ضاقت به جوف الأرض، وناءت بظلمهم البسيطة. أجال إبراهيم بصره، سارحاً بفكره في آفاق هذا الوجود يبحث عن منقذٍ، عن منقذٍ لخلاص هذا العالم. فتوجه نحو ربه العظيم الذي كان بيده مقاليد السماوات والأرض ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (الأنعام؛ 79)؛ فدعا قومه إلى الله الواحد الأحد الذي فطر السماوات والأرض، فاصطدم بآلهة الزيف وقوى الظلام، حيث حاجّهم بالمنطق السليم واللسان القويم، وبهت الذي كفر، لكنهم أصروا على غيّهم، فضرب إبراهيم بقوة، محطماً أصنامهم ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ (الأنبياء؛ 68)، ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُم (الأنبياء؛ 58) و ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (الأنبياء؛ 69).

أكد إبراهيم قوة المنطق، وأثبت ذلك بالبرهان العقلي، وتحقق الدليل مشفوعاً بالفعل الإلهي الصرف، مضيفاً إلى أسباب الصراع سبباً يعطل كل الأسباب الظاهرية. يئس إبراهيم من قومه، فأخذ يجول نواحي الأرض من أجل أن يجد لدعوته سبباً من قبول فئة قوية لدعوة الحق، فتوجه من بابل إلى بلاد كنعان، إلى فلسطين، إلى مصر حيث كانت القوى المعروفة في ذلك الحين تتمركز في تلك البلاد. لكن، وجد أمامه أبواباً موصدة في أحسن الأحوال. ولما وجد أن إيمانه لن يجد بيئة تحتضنه من أهل ذلك الزمان، يمّم شطر أرض ليس فيها أحد من البشر يخشى على الدعوة من سطوته وبطشه، ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ (،إبراهيم؛ 37) وذلك ليؤسس لمجتمع يشكل النواة التوحيدية في هذه الأرض. ومن هذه البقعة التي اعتزلت فيها كل قوى الباطل والشر، وفي هذه اللحظة التي أعلن فيها يأسه من كل أسباب الآفاق، عاد إلى اللحظة التي بدأ، عاد إلى المبدأ. رجل أعزل مع عائلة عزلاء، إلا من حسن التوكل وصدق الارتباط بمبدأ الوجود، كل ذلك في سبيلك يا جبار السماوات والأرض. وكان قلب إبراهيم مع ذلك يحترق حسرة على العباد، حبّاً لهم ورأفه ﴿ِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (التوبة؛ 114).

مع ذلك فإن الله أراد أن يمحّص عبده أكثر -لمهمة كبرى- فأمره أن يذبح ولده. صحيح أن إبراهيم اعتزل الدنيا وأهلها، لكنه بقي معه ولده وأهله، أراد الله تعالى من إبراهيم أن يثبت أن هذا الولد الذي بذل في سبيل حفظه كل هذا العناء وهذا التطواف -أن هذا- خالصاً له تعالى، فأمره بذبح ولده. إبراهيم الأواه الحليم، لم يقل لولده أريد أن أذبحك، أراد أن يكون فعله فعلاً مشتركاً، والخلوص من الحلقة الأضعف، من الولد، "فقال: يا أبتِ افعل ما تؤمر". إزاء هذه الملحمة الأسطورية -في مستواها- الحقيقية، حيث ابتلاء أكبر بعدُ، وفي لحظة الذروة، ذروة البلاء، ذروة الإخلاص، ذروة الصبر، ذروة العطاء... جاء الخلاص الإلهي ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم ليكون هذا نقطة الانطلاق في فكرة التوحيد الحقيقية، وفي تجربة التوحيد الأصفى والأصدق. فكان إبراهيم إمام التوحيد وأبا الأنبياء، إن بلاءات الأمة ومشكلاتها، بدءاً من التمزق والتشتت، إلى التخلف والفقر، إلى الإستلاب الثقافي، إلى اغتصاب الأرض والعقول والهواء والفضاء -إن هذه البلاءات- لا خلاص منها ولا مناص إلا بقبول الابتلاء الإلهي صبراً واحتساباً والاحتكام إلى أمره تعالى إخلاصاً في النية وتوجهاً فعلياً إليه تعالى... وفرصة الحج حجا ًإبراهيمياً هي لحظة الأمان الحقيقي في لحظة الإيمان الحقيقي.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع