صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

بقية الله: الموقع، والمستقبل

الشيخ حسين كَوراني


حين تواصلت شعوب العالم مع خطاب الإمام الخميني، كان ليل كامب ديفيد قد بدأ يتمدد ملقياً بظلامه الداجي، ولم يكن يخطر ببال أحد أن فجر الخميني سيلقف ما صنعوا، ليتنفس للأمة صبحٌ لم تألف مثله منذ قرون، والمأمول تواصل نوره المتوهج حتى ظهور بقية الله عجل الله تعالى فرجه الشريف.

وكان أهلنا في لبنان في طليعة المصغين بشغاف القلب وحبات المهج إلى روح الله الخميني بلغته المحمدية الأصيلة، فبدأوا معه السفر إلى الله تعالى على بساط القرب والمودة والرحمة والعدالة في انتظار بقية الله في الأرضين. قبل هذا الإصغاء، وكما هو الحال آنذاك في العالم العربي عموماً، ماعدا استثناءات يسيرة، لم تكن العلاقة بإمام الزمان لتبلغ معشار ما بلغته الآن، كذلك كان الحال في لبنان، مع فارق سلبي منشأه أن بعد المسلمين عن دينهم في لبنان كان أشد من بعد أي شعب من شعوب العالم العربي عنه، وربما أمكنت المقارنة آنذاك بين لبنان وبعض البيئات العربية في شمال أفريقيا، متماهياً في ذلك مع بعض مراتب التغريب الذي مارسته بعض الطبقات الحاكمة في لبنان. على رغم وجود واحات آنذاك في لبنان متميزة في هذا المجال وغيره، إلا أنها لم تكن لتغير معادلة الوضع العام السائد في حينها، وهي معادلة القطيعة الجاهلة بإمام الزمان أرواحنا فداه.

وكانت هذه الظاهرة السلبية آنذاك من أبرز ملامح الخلل الكبير في المشهد الثقافي في الوسط الديني، وكانت وحدها تكشف عن عمق الحاجة إلى الأصالة التي كانت في أحسن حالاتها لاتتجاوز بعض العلماء ودوائرهم. ومن حسن التوفيق الإلهي أن تواصل أهلنا في لبنان مع الخطاب الخميني قد اقترن بتصاعد العدوان الصهيوني على لبنان، فإذا الجهاد الأكبر والأصغر وبأجلى الصور في متناول أهلنا الطيبين الذين ترتكز ثقافتهم الشعبية الإعتيادية إلى ما أسسه في وعي الأجيال علماء الأمة الذين قدر للأرض التي عرفت باسم لبنان أن يكون لها منهم النصيب الأوفى. في هذا الجو وامتداداته الأولى انطلقت فكرة مجلة "بقية الله". وسيبقى لزاماً على المعني بتوثيق مراحل الحركة الثقافية في لبنان، أن يقف عند هذا المفصل الخميني الكبير بين عهدين ثقافيين مختلفين جذرياً. وبديهي -وإن لم يكن مصب الكلام- الوقوف كذلك عند تجليات هذا المفصل الثقافي الأساس في ميادين العمل الإسلامي بكل مظاهره العسكرية والسياسية والأمنية والإجتماعية.

لولا تواصل أهلنا مع الإمام الخميني لما كانت " المقاومة الإسلامية" وكل حديث غير ذلك يفتقر إلى الدليل. ولولا البعد العقيدي والثقافي في هذا التواصل، لما أمكنه أن يؤتي أكله كل حين بإذن الله. ولولا اقتران الجهاد الأكبر بالأصغر، لما أتيح للبعد العقائدي والفكري أن يحفر بهذا العمق الضارب إلى أقصى الغيب في وجدان أهلنا والعقول والقلوب. لا يمكن إدراك حقيقة هوية "بقية الله" بمعزل عن التحول الخميني في لبنان. ولا يمكن إدراك المسؤولية التي تضطلع بها "بقية الله" إلا من قلب وعي الفوارق الفارقة والهائلة بين ماكان عليه أهلنا في لبنان، وبين ما جسده شهداء المقاومة الإسلامية، الأحياء عند ربهم، والأحياء المنتظرون. ودارت دورة الزمن الخميني، وثقافة "العهد البائد" التي كانت طافية على السطح قبل الثقافة الخمينية الأصيلة، لاتقوى على المواجهة، ولم تكن تسمع منها إلا همساً. وتضافرت عوامل عدة لتشترك معاً في رسم مشهد ثقافي أصيل:

1- المحمدية البيضاء النقية في الطرح الخميني الشامل لأبعاد الإسلام كما هي.

2- طلائع حرس الثورة الإسلامية، تلقن القلوب المتلهفة -عملياً، ولا تهمل البعد التعليمي- حقائق الإيمان والولاية من خلال معسكرات التدريب التي تخرج كواكب المجاهدين الإستشهاديين.

3- أجواء الجبهة والمواجهة والوطيس، حيث تتراجع الدنيا إلى حجمها الحقيقي، ويتاح التعامل بالعقل الصافي والقلب السليم مع الواقع كله، بلا تلبيس ولا تدليس.

4- فرادة الدروس العملية التي تمثلت في سيرة المجاهدين الذين نفروا خفافاً إلى ساحات الجهاد فصنعوا فيها على عين الله تعالى صناعة لاتعرفها عادة الحوزات، وكل المعاهد، ورجعوا بين الجولة والجولة إلى أهلهم لينذروهم لعلهم يحذرون.

5- فرادة الدروس التخصصية الأرقى التي هي عبارة عن لغة الدم الكربلائي يغرس في العقول اليقين وحب الله تعالى، في مدرسة حب لقائه تقدست آلاؤه، فإذا كل شهيد عالم ومعلِّم.

6- الخطاب التبليغي الذي صيغ من لهيب توثب الروح الخمينية، في محرابٍ أصرَّ أبو مصطفى على تبيين عظيم شموله لكل ميادين الحرب على الشيطان وأوليائه من المسجد إلى محراب مواجهة كل أبالسة الأرض، مواجهة متعددة المرامي والأهداف، تستلزم التدريب على كل أسلحة اليقين المترامية من تقوى الله تعالى بشق تمرة إلى ساحات تقواه عز وجل بتقديم الروح على طبق الحب الحسيني على أعتاب المصطفى الحبيب قربة إلى الله تعالى، لرفع نير الطواغيت وتحطيم إصرهم والأغلال.وقد أسهمت في بلورة هذا الخطاب التبليغي الأصيل في لبنان طلائع حوزوية لم تشبها لوثة الإنفصال عن حمل هموم المسلمين، كما لم تشبها لوثة مرض البعد الواحد من أبعاد الإسلام، يعزز مضاء حدها في رحلة الجهادين المتصاعدة وعي الواقع وأنه غيب وغيب وغيب إلى مالانهاية، يقول للمسلم: و"لاتنس نصيبك من الدنيا". " الدنيا مزرعة الآخرة". ويقول: أمراء الجنة هم رواد خدمة الخلق، والتضحية بالأنفس لرفع الظلم عنهم. فإذا بجنة الآخرة لاتنفصل عن جنة الدنيا! وكان لابد في حمى هذا المعترك الجهادي الفريد من وسائل إعلام تتحدث بلغة المجاهدين والشهداء التي حملها الخطاب التبليغي الخميني بامتياز، فكانت جريدة "العهد" إن العهد كان مسؤولا، وكانت "إذاعة النور" وكانت "قناة المنار" وكانت مجلة "الوحدة الإسلامية" وكانت -في أول التسعينات- مجلة "بقية الله" وكانت "الدورات" وهي المعلم الثقافي الشامخ، وكان الشريط يحمل الدرس بلا مواربة، واللطمية بلا مزامير الشيطان، ويحمل نماذج كانت في الغالب مغيبة من الدعاء -التوسل، والندبة بالخصوص- وحرارة في التفاعل مع مجالس العزاء، كان أهلنا في كل المراحل يبحثون عنها، وكانت "النخب" المعنية تحول بينهم وبينها. وكانت مادة كل هذه الوسائل عبارة عن نتاج المحراب في المسجد المتراس، والجبهة المحراب!

7- وطبيعي أن لكل من هذه الروافد في الخطاب التبليغي الخميني حديثاً ذا شجون، يستعرض التحولات الطارئة التي تفرضها الرمال الثقافية الأشد ضراوة من الرمال السياسية في لبنان، ويقف عند المنعطفات الثقافية الحادة التي أملت ذلك التحول الذي قد يبلغ الإستبدال، إلا أن مايعنيني هنا هو حديث "بقية الله".

8- كانت "بقية الله" وما تزال علامة فارقة مضيئة في المسار الثقافي الخميني الأصيل، ورغم أنها بحكم الطبيعة البشرية لم تخل من التباسات وإشكاليات إلا أنها حافظت بامتياز على أصل اللغة الخمينية وارتفاع وتيرة الأصالة، ورباطة الجأش، واليقين الثقافيين، رغم تعاقب الإدارات، وتنوع المشارب الحاد أحياناً.

ولدى رصد مرتكزات وحدة مسار "بقية الله" وأسباب تجنبها الإستبدال الذي ضرب غيرها –عموماً- نجد التالي:
أ- الوسطية: فهي تلتزم الحد الواصل بين النخبوية والجماهيرية، ولاتخفي التزامها الجماهيرية كأصل تقرن به من النخبوية ما أمكن.
ب- مجلة المقاومة: حيث التزمت ومازالت أن تكون زاد المجاهد، وانعكاس نبضه وخفقة القلب، فإذا هي الأشد التصاقاً بمعاناة المجاهدين، ودماء الشهداء، والأقوى حصانة، والأبعد بالتالي عن أن تضربها لوثة التغريب وجمرته الخبيثة التي تضرى في لبنان، كما مرت الإشارة.
ج- الإخراج الفني المحبب، الذي أضفى على المجلة حلة زاهية متناسقة، تشد القاريء إليها، دون أدنى إحساس بأنه يخضع للقصاص، كما هو الحال مع بعض المطبوعات.

ومن الواضح أن الثقافة الإسلامية وهي بالغة التخصصية والنخبوية، تأبى أن يكون مصب خطابها الأساس "نخبوياً " بالمعنى المتعارف، بل تصر على أنها ثقافة جماهيرية للناس جميعاً، فهي ثقافة تغييرية هادفة، ومتى كانت "النخبة الظواهرية، نخبة الألفاظ المنحوتة بلاجوهر" تقوى على التغيير، أو تصدق في التزامها الثورة. ومتى كانت النخبوية التخصصية المرتكزة إلى محتوى وجوهر، تغني عن الخطاب الجماهيري الذي لاتحول بينه وبين القلوب اللفائف والحجب. أليس الجمع بين الخطابين، كلٍّ في مجاله، مع التركيز على الجماهيري، من سمات الخطاب الخميني؟ كانت الوسطية إذاً عامل قوة لـ "بقية الله" وما تزال. كما أن من الواضح أن جوهر الحالة الإسلامية في لبنان في هذا العصر الخميني، هو جهاد المقاومة الإسلامية، ومن الطبيعي أن يتناسب عمر الحراك الثقافي الملتزم لهذا الجهاد، ويشتد ساعده، ويتجذر، مع عمر المقاومة واشتداد ساعدها والتجذر. هكذا يمكن أن ندرك لماذا كان بعض المخلصين الحيارى بين ثقافتين -وهم الأكثرون- يشيرون بازدراء من تشفق عليه ولا يستفزك، إلى: ثقافة "بقية الله". وهكذا يمكن أن ندرك أن "بقية الله" بقية السيف من وسائل إعلام الثقافة الخمينية في لبنان.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع