أذكار | أذكار لطلب الرزق مع الإمام الخامنئي | سيّدة قمّ المقدّسة نور روح الله | الجهاد مذهب التشيّع‏* كيـف تولّى المهديّ عجل الله تعالى فرجه الإمامة صغيراً؟* أخلاقنا | الصلاة: ميعاد الذاكرين* مفاتيح الحياة | التسوّل طوق المذلَّة* الإمام الصادق عليه السلام يُبطل كيد الملحدين تسابيح جراح | بجراحي واسيتُ الأكبر عليه السلام  تربية | أطفال الحرب: صدمات وعلاج اعرف عدوك | ظاهرة الانتحار في الجيش الأميركيّ

أمراء الجنة: آباءٌ وأبناء في وعدٍ صادق‏

نسرين إدريس

 




عندما كتبتْ الحرب سطورها على صفحات تاريخنا، كان للمقاومة كلام آخر يحكي قصصاً خالدة للأجيال، فهي "لا توفر أولادها ولا حتى أحفادها للمستقبل"، لقد وقف آباءٌ إلى جنب أبنائهم، يذودون عن حرية الوطن وكرامة الأمّة..

* أحمد حسن عنيسي 1958 علي أحمد عنيسي 1988 شحور
لو أنّ علياً انتظر قليلاً، لكان حمل شهادة نجاحه في الصف الثالث الثانوي ملوحاً بها لوالده ليبارك له. ولكنه آثر في تلك اللحظة أن ينال شهادةً من نوع آخر، مهرها والده أيضاً ببصمةٍ حمراء. من في صور لا يعرف الحاج أحمد عنيسي وولده علياً؟ ذلك المسجد الذي يعرفُ الفجرَ من ترنيم صوتيهما بدعاءَي العهد والصباح، قبل أن ينطلق الأب إلى عمله، والابن إلى مدرسته، لا يزالُ يحتفظُ بسرّ شذى دموع الحاج أحمد الطاهرة في الليل، وهي تسأل اللَّه الشهادة. وكلما أشرقت الشمسُ ومدّت الدنيا زبرجها وزخرفها ناحيته، حمد اللَّه مشيحاً وجهه عنها: "ما عند اللَّه خير وأبقى". وعلي يمشي خطاه الثابتة بتؤدةٍ. ينظرُ إلى غده المحفوف بصوت الرصاص بشجاعة الشبِل الذي تدرّب على يد والده الأسد، ينتظرُ الإذن لأي عملٍ، ليسابق قلبه يديه. وما إن زمجر نفير الحرب، حتى التصق كتفه بكتف والده، متنقلَين من مكانٍ لآخر، الصواريخ على الكاهل، والقلبُ فوق الغيم. وعندما استخار الحاج أحمد اللَّه بإطلاق صلية الصواريخ التي أصابت قاعدة "روشبينه" العسكرية الجوية، قبّل علي يده لينال مزيداً من البركة والرضا، وبقي مع المجاهدين لحظة بلحظة، يؤمّن الماء والطعام لهم، ويتعلم منهم القواعد الأولى للحرب التي كانت الأخيرة له. كان الصيدُ ثميناً، والشبكة التي جرّب العدو الصهيوني أن يحكم إغلاقها على خناق المجاهدين، لم تستطع خنق الأنفاس الأخيرة للمجموعة التي ظلّت ترمي الصواريخ حتى الاستشهاد. في الثاني والعشرين من شهر تموز، وبعد قيام المجموعة بإطلاق الصواريخ تحت عيون طائرات الاستطلاع والطائرات الحربية، التي حرقت المنطقة بصواريخها، سكتْ الحاج أحمد عنيسي عن ترديد "يا مهدي أدركنا"، وقد مددَ جسده بالقرب من ولده علي، ليعرجا سوياً إلى حيث وعد اللَّه. لقد حلّت اللحظة التي انتظرها الحاج أحمد طويلاً، وأدرك أنها آتية لا محالة. فعند اللقاء الأخير مع سماحة الشيخ حسين كوراني، حضنه طويلاً، وطلب إليه أن يدعو له بالشهادة، بينما سأل أحد الشبّان علياً قبل الحرب بحوالي الأسبوع عن سبب ثقته بنفسه، ابتسم له قائلاً: "عندما أستشهد ستعرف لماذا"، وأينما وُجد كان يردد أنه مستعد للشهادة، وقد نالها في حرب المصير، الحرب التي رسمتْ خارطة الشرق الأوسط (الجديد).

* عبد الأمير حسين الدبس 1961 محمد عبد الأمير الدبس 1987 بلاط
وفي مشهد آخر، وقف الجندي في الجيش اللبناني عبد الأمير الدبس مؤدياً تحيته الحمراء بالقرب من ولده الذي رفع قبضته عالياً منذ أن أعلن سماحة الأمين العام: "أردتموها حرباً مفتوحة.."، فصرخ بكل جوارحه: لبيك يا نصر اللَّه.. إنها تلبيةُ الروح، لشابٍ لم يستطع أن يرى حياته إلا في طريق المقاومة. محمد عبد الأمير الدبس، الذي عمد إلى تربية نفسه ليكون مجاهداً، ولم يترك لها الحبل على غاربه. كانت تلك المرة الأولى التي تسقطُ فيها محاذير السرية عنده مع والده، فكلاهما يحارب خلف متراسه، والحربُ مفتوحة. كانت نقطة تجمّع المجاهدين بالقرب من منزل الحاج عبد الأمير، وكلما عاد إلى هناك تفقّد ولده ورفاقه، فيما كانت الأم تؤمن لهم الطعام والماء، قبل أن تضطر للمغادرة مع أولادها الصغار. منذ اللحظة الأولى، لبسَ محمد الجعبة، وحمل سلاحه، وهو الذي لم يتمنَّ أكثر من ذلك، فلقد شغل باله منذ نداوة عظمه أن يلتحق بالمجاهدين ويكون فرداً منهم، لا بل خادماً لهم، فلم تعنِ له الدنيا سوى طريق يجب اجتيازها، فلم يحمل من الزاد سوى حديث البندقية، وهمس الرصاص. ولكي ينجح في الوصول إلى حيث يريد، ربّى نفسه تربية المجاهدين ليكون في يومٍ من الأيام شهيداً في سبيل اللَّه. لقد مزجَ حبّه لعائلته بطاعة ورضا، ولم يعصِ لوالديه أمراً، إلا عندما قرر الالتحاق بالدورة العسكرية الأولى، حيث خشي أن يمنعه والده من الذهاب، فحملَ حقيبته وغادر تاركاً لأخيه الأصغر منه مهمة إخبار والديهما. ولا شكّ في أن الأب عندما علمَ جنّ جنونه، ولكن ليس بسبب التحاق ولده بالدورة، بل لأن ولده ظنّ للحظة واحدة أنه يمكن أن يمنعه، وهو الذي يعرفُ ماذا يعني له الوطن، ماذا يعني له الترابُ الممزوج بدماء الشهداء، وهو الذي اختار أن يلتحق أولاده الخمسة في كشافة الإمام المهدي عجل الله فرجه منذ صغرهم، لكي يكونوا مقاومين يقاتلون الصهاينة في شبابهم. كان محمد الجندي الجاهز لأداء أي تكليفٍ في أي مكان، فما طلب الأخوة منه شيئاً إلا وجدوه مستعداً، وعكس ذلك مدى التزامه العميق بالنهج الذي اختاره، فهو بين صور مكان سكنه، وقرية بلاط مسقط رأسه، يتنقلُ دون كللٍ أو ملل، واضعاً نصبَ عينيه هدف التأثير الواضح على مجتمعه ليكون الداعيةَ إلى اللَّه بغير لسانه.. ابن التسعة عشر عاماً وقفَ في الحربِ وقفة الرجال، وكانْت السعادةُ ترسم نوراً على وجهه. وبقي هناك مع والده وأخيه، فكان يوصل الطعام للمجاهدين تحت القصف العنيف، وفي اليوم الأخير للحرب، اتصلت به والدته، كان الهاتف مع أخيه في الوقت الذي كان هو يفتح الباب ليخرج من المنزل، عادَ مسرعاً عندما سمع رنين الهاتف، وحمد اللَّه وهو يخبرها أن له نصيباً بالحديث معها. كلمة وخزت قلبها وهي تطلب إليه أن ينتبه إلى نفسه، فطمأنها، وعبّر عن شوقه الكبير لأخذ أخته "الرضيعة" "رغد" بين ذراعيه لشدّة تعلق قلبه بها. ولكن محمداً وأباه لم ينتظرا عودة العائلة.. ففي يوم الأحد، وبينما كان وأبوه وأخوه، وبعض الرفاق في البيت، قُصف المنزل، فطار الوالد في الهواء واستشهد على الفور، بينما حُبس أخوه تحت الردم، وجرّب محمد أن ينقذه فلم يستطع، فصرخ: "يا صاحب الزمان عجل الله فرجه"، فسحبه من تحت الأنقاض، وتوجها للبحث عن الوالد وإنقاذ بعض الشباب، وهما يصرخان: "يا زهراء، يا صاحب الزمان"، ثم توجه أخوه إلى ثكنة الجيش حتى يساعدهم في البحث عن الوالد، وبينما محمد يبحث عن والده قصفته طائرة الاستطلاع فاستشهد في الثالث عشر من شهر آب.

* أحمد محمد عبد اللَّه 1956 محمد أحمد عبد اللَّه 1985 كفر شوبا
بين ألسنة النار، وتحتَ مطرِ لهيبِ آب المشتعلِ بالقذائف، لم يغادر الحاج أحمد عبد اللَّه قريته كفر شوبا، بل بقي هناك مرابطاً للدفاع عنها، ثابتاً في مكانه، لم تزحزحه فلول اللائمين له، ففي الحربِ تسقطُ حسابات الطوائفِ، وتمتزجُ الانتماءات، لتصبحَ الهوية اللبنانية، هي الانتماء الوحيد، وهو الرجل الذي ذاق طعم الظلم في معتقل الخيام عام 1999، حيث تعرّف إلى شهيد الوعد الصادق راني بزي الذي سلك معه في طريق المقاومة. وفي التحرير ذاق أحمد طعم الحرية الشريفة، فخرج من ظلمات المعتقل إلى نور الالتحاق بحزب اللَّه، فخضع للعديد من الدورات العسكرية وشارك في مهماتٍ جهادية مختلفة. ومع السلاحِ الذي حمله، كان ولده محمد يقفُ بالقرب منه، ليسَ تبعيةً فوضوية، بل اختياراً واضحاً لنهجٍ وخطٍ لبنانيٍ أصيل. فمحمد، كأغلب الشبّان الأوفياء لوطنهم، يقفون كالطود الشامخ في زمنِ الحرب، ليدافعوا عن أمتهم وكرامتهم، ولا يُفترُ الغدرُ من عزيمتهم، ولا يزيدهم التآمر إلا ثباتاً. مع مجموعة من المجاهدين بقوا هناك ورابطوا، يدهم لم تترك الزناد ليحرسوا الليل بعيونهم التي لا تنام. كان أحمد وولده يخدمان المجاهدين دون كللٍ أو ملل، وقد استغلّ محمد فرصة وجود شهيد الوعد الصادق نادر الجركس معهما ليتعلم الكثير منه من شؤون الدين والجهاد، وهو الذي كان يتمنى الشهادة من كل قلبه، فكان له ما أراد ليرتفع مع والده شهيدين إلى الجنّة بتاريخ الثامن من شهر آب.

* محمد عبد الرسول مونس‏1948 حسان محمد مونس‏1976 الحلوسية
وفي مجمع الإمام الحسن عليه السلام في الرويس، كان الحاج محمد عبد الرسول مونس يمدُّ يديه اللتين ترك العمر آثاره عليهما، يتفقد جدران المنزلِ، يستأنسُ ببعض الهدوء الذي استحضرته ذاكرته من الأيام السابقة قبل أن يغزو زعيقُ الطائرات سماء الوطن. كان صوتُ ابنه حسّان يتناهى إليه وهو يهيئ نفسه لترك المنزل. إنه "الصادق الأمين"، هكذا كان يناديه الأخوة في مركز عمله، العملُ الذي اختاره منذ أكثر من عشرين عاماً، فكان نعمَ المجاهد الصامت، والمحافظ الوفي. كان الأب والصديق، والمجاهد الصابر، لا تفارق البسمة محياهُ الأشيب، ولا ترى في عينه إلا نظرات الطيبة والحياء، وهو يتنقلُ بهدوءٍ وسكينة واضعاً يده على قلبه المتعب بين فترة وأخرى. وبعد كل تلك الأيام، كبر أولاده، ومشوا في الطريق الذي اختاره؛ سبيل النجاة. تذكّر في لحظة واحدة اجتياح العام 1982، عندما قرر بعضُ الشبّان محاربة العدو، وقد أداروا ظهورهم لكل المتخاذلين، وكان هو واحداً منهم. لكم تمنّى أن يكون مع الأخوة في الجبهة الأمامية، ولكنّ الزمن الذي ألقى بسنواته على كاهله، منعه من ذلك، فكان يقوم ببعض الأعمال التي توكل إليه بغبطةٍ كبيرة، لأنه أدرك أن هذه الحرب حربُ صاحب الزمان عجل الله فرجه. قبل الحرب كان ولده حسان يتهيأ للانتقال إلى بيت الزوجية، ولكن الحرب فرضت عليه أن يتهيأ لها، فكان على قدر المواجهة، وقد استغلَّ ووالده الوصول إلى اتفاق وقف إطلاق النار، ليعودا إلى المنزل، وطمأنا العائلة أنهما لن يتأخرا. ولكنهما لم يعودا، ولم يُعثر على جسديهما تحت الدمار المرعب الذي تعرض له مجمع الإمام الحسن عليه السلام حيثُ استشهد عشرات المدنيين، الذين استهدفوا بصواريخ عنيفة هزّت العاصمة بيروت. هو إرثُ جنّة عرضها السموات والأرض، بدأ مع الرصاصة، ولكنه لن يختم أبداً بقطرات الدماء.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع