أذكار | أذكار لطلب الرزق مع الإمام الخامنئي | سيّدة قمّ المقدّسة نور روح الله | الجهاد مذهب التشيّع‏* كيـف تولّى المهديّ عجل الله تعالى فرجه الإمامة صغيراً؟* أخلاقنا | الصلاة: ميعاد الذاكرين* مفاتيح الحياة | التسوّل طوق المذلَّة* الإمام الصادق عليه السلام يُبطل كيد الملحدين تسابيح جراح | بجراحي واسيتُ الأكبر عليه السلام  تربية | أطفال الحرب: صدمات وعلاج اعرف عدوك | ظاهرة الانتحار في الجيش الأميركيّ

مناسبة: بنت الهدى‏: رائدة الإلتزام، لؤلؤة الشهادة

تحقيق: ولاء إبراهيم حمود


 

للَّه أيام الجهاد المرِّ ما ضاعت سدى‏ ل

لَّه يا بنت العفاف الطُّهر يا بنت الهدى‏

في مثل عمقك يا سماء ومثل طهركَ يا ندى‏

يا بضعة الزهراء يا صوتَ العقيلة والصدى...


بهذه الأبيات التي ردّدتها أصداء ذاكرتي، يوم إعدام الطاغية، أقدم للقراء تحقيقي عن القيمة الفنية والتربوية لأدب الشهيدة السعيدة آمنة حيدر الصدر (بنت الهدى)، رفيقة درب الجهاد للشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر رضي الله عنه، وشقيقة استشهاده الفاجع. من جديد قرأت سيرتها بعد أن كنت قد أشبعت سني صبايَ الأولى بكتاباتها الخالدة في وجداننا. رأيت فيها شبهاً من آسية كفيلة موسى، رأيتها أماً طاهرة لأخيها المفكر الشهيد ولأجيالٍ اقتفت خطاهما علماً ومقاومةً واستشهاداً. بعد آسية، أغرق اللَّه سبحانه فرعون في بحر آثامه. وبعد بنت الهدى، سلَّط اللَّه على الطاغية طغاةً مثله. المهم أنه وكما يمضي الطغاة مضى، فرعون آخر، التفَّت جرائمه حبلاً غليظاً حول عنقه. وبقيت بنت الهدى رمزاً لكل مجاهدةٍ، أبية، ومنارةً لأجيالٍ تبحث عن هوية. وقد أضافت شخصيات هذا التحقيق إلى رؤيتي رؤىً جديدة. أعتذر منكم ومنهم ومن الشهيدة عن تقديمها إليكم مختصرةً، فجميعهم قالوا الكثير بكثير من الوجدانية عن رائدة الأدب الإسلامي الملتزم، وحورية مقاصير الشهادة في جنان اللَّه...

* الهاجس الرسالي‏
رأت الحاجة زينب جمعة (دكتوراه في اللغة العربية وآدابها وباحثة في شؤون المرأة) أنه لا يمكن الفصل بين نتاج الشهيدة الأدبي وبين أدبياتها في الحياة، حيث انطلقت من التزامها الصادق بكل ما كتبت حتى ختمت حياتها الشريفة بشهادةٍ عزَّ نظيرها، لأن الهاجس الرسالي كان حاضراً في كل إنجازاتها لا الهاجس الأدبي. ولاحظت أن تجربتها الأدبية كانت قابلةً للتطور لو استمر بها العمر، كالكثير من الأدباء. كما لاحظت أن الشهيدة قد اعتمدت العاطفة الإنسانية سبيلاً للدعوة إلى الالتزام، حيث توجهت في قصصها الهادفة إلى الفتيات لا إلى الفتيان. وقد شكلت هذه القصص مادةً ثقافيةً هامةً لهن. وقد ملأت في الساحة الأدبية الإسلامية فراغاً لم يسبقها إليه أحد. وتضيف: "كنا نقدم هذه الكتب هدايا إلى الناشئات، فكن يقبلن عليها بحماسة، وقد وجدْن فيها ما يرضيهن، ويوجههن إلى معرفة الطريق الصحيح، إلى طاعة اللَّه".

* النموذج الفذ
وتحدثت الحاجة عفاف الحكيم عن الشهيدة السعيدة كنموذج نسائي أحدث تطوراً في فكر المرأة المسلمة في المنطقة، التي كانت متعطشة إلى هذا النموذج الفذ، المتعاطف مع الناس، المتفاني في خدمتهم. فمن عملها في الحوزة في النجف، إلى مدارس الزهراء في بغداد، حركة أسبوعية دائمة، تدفعها إلى الأمام وحدة الهدف، فضلاً عن الحلقات الثقافية في بيوت العائلات، إلى إصدار الكتب لتحصين الساحة الإنسانية، لا النسائية فقط. ذكرت الحاجة عفاف أنها التقتها للمرة الأولى، بعد أن قرأت لها مقالاً في مجلة الأضواء، فزارتها في العراق، وحدّثتها طويلاً عن نشاطاتها واهتمام أخويها السيد إسماعيل والسيد الشهيد بها، واللذيَن أشرفا على تدريسها في المنزل. وكانا يهديانها دفاتر وكتباً وأقلاماً. وعن أدبها وتأثيره في الأجيال، قالت الحاجة عفاف كتبها لاقت رواجاً "حتى أننا لن نجد مكتبةً في بيت إسلامي قد خلت منها".

* الشهادة الحية
"هكذا شاركت الشهيدة أخاها حتى الشهادة" يقول السيد عبد الودود الأمين (باحث في الأدب الإسلامي وكاتب في أدب الأطفال). ويضيف "هي رائدة القصة الإسلامية من الخمسينات، وبتوجيه من أخيها الشهيد الذي أدرك تأثيرها في توجيه الشباب المسلم. ولم يسبقها إليها إلا نجيب الكيلاني في "غادة جاكرتا". كانت تجربتها ناجحة وهي تؤسِّسها وتتعلمها في آن. وقد تأثر بها الكثيرون واعتبروها أستاذة، ولم يمنعها شي‏ء من المباشرة، أو ضعف الحبكة الفنية، عن إيصال هدفها الرسالي. كانت طوع بنان الشهيد، متمثلة موقف "السيدة زينب"، فقد اعتقلت لأنها لم تسكت، فصرختها وكتبها أمانة للأجيال، تتوجها الشهادة الحية".

* هودج الإيمان والثقافة
ويذكر السيد أبو عاصم الموسوي (مدير معهد تطوير اللغة العربية في العراق) أن الشهيدة بنت الهدى، قد درست التاريخ الإسلامي بعمق، وجعلته فعلاً يحرِّك الحاضر البغيض. وحاولت جاهدةً امتلاك أدوات تعبيرها، لكي توجهه نحو مستقبلٍ واعد، واستطاعت أن تتميز في بيئتها النجفية شاعرةً وأدبية، عقدت الحلقات التغييرية في الوسط النسوي بطابع أدبي أخاذ، ورائدٍ في مضامينه. إلتمس أحد الإخوة التجار يدها من أخيها الشهيد، فردَّته بلطف كي لا تؤخرها اهتماماتها الكبيرة عن حقه قائلةً له: "دعني في هودجي هذا، هودج الإيمان والثقافة، فهو يحتاجني". وفت بنذرها، وقضت نحبها، شهيدةً دامية الوريدين، لم تنفرج شفتاها إلا عن كلمة اللَّه أكبر، وبقيت أمثولةً لكل بنات الهدى وأبنائه.

* الصوت النابض بالحياة
وتحدَّثت الحاجَّة أُم زهراء الحكيم خاتون (مديرة حوزة بعلبك) عن علاقتها بالشهيدة، حيث "تعرفت عليها قبل سنتين من استشهادها، كان اللقاء الأول بمعية الشهيدة أم ياسر الموسوي رضي الله عنه، واهتمت كثيراً عندما علمت أننا ندرس معاً في الحوزة. وقد اعتذرت عن عدم تدريسنا خوفاً علينا". وتضيف "قد لا يجد البعض أدب الشهيدة متميزاً فنياً وشكلياً، ولكن تقييم أدبها الرسالي يجب أن يتم من خلال ملاحظتنا نجاح الهدف الذي وضعته له. وقد نجحت الشهيدة في تقديم المنظومة الأخلاقية الإسلامية في الحياة، إلى أوسع شريحة في المنطقة. كانت حريصة على الدعوة الميسَّرة إلى دين اللَّه إلى من يجهلنه: كانت فريدة، متميزة، جمعت بين جهاد العلم وجهاد الشهادة. ويختلف كثيراً شعور من يقرأ أدبها عمن يعايشها مباشرةً، حيث تتأثر روحه بنبض أحاديثها، بهيبة صمتها. ستبقى الشهيدة في نظري كما رأيتها للمرة الأولى أُماً بتولاً أشعرتني بأمومتها الطاهرة، كما أشعرتني بالنضج. وستبقى كتبها نصَّها الجهادي، صوتها النابض بالحياة كوردةٍ فوق غصنها، مؤثرةً متجددةً لا كوردةٍ مقطوفةٍ لتذبل في إناء".

* ثورة فكرية
أما الحاجَّة أميرة برغل (ماجستير في التربية مستشارة متخصصة في الشؤون التربوية في مدارس المصطفى صلى الله عليه وآله) فقد أكدت ريادة الشهيدة الأدبية، مستشهدةً بقولٍ لها عن أهمية القصة في التبليغ مؤكدةً نجاحها التام في بلوغ أهدافها النبيلة كتابةً واستشهاداً. ورأت أنه يمكن تلخيص أثرها التربوي فيما يلي:

الواقعية: علاجها لقضايا من واقع الحياة (الشباب، الزواج) وتقديمها حلولاً مناسبة لقيمنا وعصرنا...
الأصالة: تقديمها حلولاً مستمدة من مفاهيم الرسالات الإلهية الأصيلة، دون المفاهيم المادية أو التقليدية.
العلمية: أسلوبها المنطقي، البعيد عن الوعظ، المستند إلى استدلالٍ علمي وعقلي، جعلها أكثر إقناعاً للفئات الشابَّة الجامعية.
الإنسانية: توافقها مع الفطرة الإنسانية، في تقديم الأطروحة التي تحقق التوازن النفسي في دعوتها إلى الترفع عن الدوافع الحيوانية المحضة، دون تنكر لحاجات الإنسان الطبيعية.
الثورية: وهي القيمة الكبرى لكتاباتها، حيث فجرت الشهيدة ثورة فكرية حقيقية لدى الشباب على عدة أصعدة:
نقض الفكرين (الديني المتخلف والمادي المتغرب)، نقض تخلف العادات المتعلقة بالزواج والعلم، والنظرة المتخلفة إلى المرأة، ومحاربة العبادة كطقوس جامدة، بل انفتاحها على معايير الإيمان الحقيقي الذي يفتح باب التوبة للجميع.

* ما أحوجنا إليها!
ورأت السيدة رباب الصدر شرف الدين في شهيدتنا الخالدة، حبَّة مرصَّعةً في سُبْحةٍ لن تنقطع. "وما أحوجنا اليوم إليها، علَماً نسائياً مجاهداً. هي واحدة من قليلات شاركْن سيدنا الشهيد الصدر مسيرته الجهادية في مكابدة الفقر والصراع مع السلطة. وسيتردد صدى صرختها صباح السابع عشر من رجب طويلاً في الآذان والأفئدة "الظليمة، الظليمة يا جداه... يا أمير المؤمنين"". لم تتوقف السيدة رباب عند مسيرتها الجهادية، كتابةً وتعليماً، فهي متاحة لمن شاء الاقتباس من مكامن تلك الشخصية الفذة، لكنها احتفظت للشهيدة بالبعد الإنساني في علاقاتها الممتازة مع العائلة والصديقات وكل من حولها. حفظت لها ذلك الحرص على أناقة التعامل وأناقة الفكر، وأناقة المظهر الذي لم تتورع عن استجلاب مستلزماته، موجِّهة بذلك رسالة متكاملةً تتصل بالعقل كما بالقلب كما بالعين. وتلاحظ السيدة رباب (التي تتصل بها قرابةً وجهاداً) أنها نسجت شهادتها بوعي وإرادةٍ تتويجاً حتمياً لمن أراد الحياة بكرامة فكانت له كل الكرامة في الحياة الباقية. وليس عسيراً على المتجول في أروقة ما كتبته آمنة الصدر، أن يعثر على مسحة المرارة التي كابدتها، وهي تنتظر استفاقة من نائمين، صرخةً من ساكتين وإن لم يتح لها أثناء عمرها أن تأنس إلى ينبوع غرسة مما زرعت، إلا أنها على موعدٍ مع الهناء، إذ يخبرها اللاحقون من الشهداء الأبرار عن مساحات الخضرة الآخذة في الإمتداد. وبعد جزيل شكري لكل شخصيات هذا التحقيق على ما قدموه في محراب بنت الهدى الخالد، أرفع إلى روحها الطاهرة هذا الجهد المتواضع. مني ومنهم تحية أقل الوفاء والعرفان، لعظيم ما قدَّمت وما لأجله كتبت واستشهدت، لتبقى بيننا، شعلة الدروب المظلمة، وكلمة الحق في وجه السلطان الجائر، ومثلاً أعلى لأجيال عايشتها، وأخرى قرأتها وقادمةٍ ستبحث عنها. ولهذه الأخيرة أترك أبيات "بنت الهدى" حُسْنَ ختامٍ، فهي منها ولها أصدق تعبيرٍ عنها... والسَّلام من اللَّه عليها وعليكم.
 

قسماً وإن ملئ الطريق بما يعيق السير قدما

لن أنثني(*) عما أرومُ وإن غدت قدمي تدمى

أنا كنت أعلم أن درب الحق بالأشواكِ حافل‏

فالحق يخلدُ في الوجود وكلُّ ما يعدوه زائل

سأظل أشدو باسم إسلامي وأنكرُ كل باطل‏

فلطالما كان المجاهدُ مفرداً بين الجحافل‏


(*) لن أنثني من مجموعتها القصصية الكاملة المجلد الثاني ص‏378 - 379. دار التعارف للمطبوعات.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع