أذكار | أذكار لطلب الرزق مع الإمام الخامنئي | سيّدة قمّ المقدّسة نور روح الله | الجهاد مذهب التشيّع‏* كيـف تولّى المهديّ عجل الله تعالى فرجه الإمامة صغيراً؟* أخلاقنا | الصلاة: ميعاد الذاكرين* مفاتيح الحياة | التسوّل طوق المذلَّة* الإمام الصادق عليه السلام يُبطل كيد الملحدين تسابيح جراح | بجراحي واسيتُ الأكبر عليه السلام  تربية | أطفال الحرب: صدمات وعلاج اعرف عدوك | ظاهرة الانتحار في الجيش الأميركيّ

المؤمن إلفٌ مألوف‏

الشيخ مصطفى قصير(*)

 



الإسلام له نظرتان، الأولى إلى الفرد باعتباره مسؤولاً عن مصيره، وعن بناء حياته الأخروية الدائمة والخالدة، وعلى أساس هذه النظرة تُبنى منظومة القيم والأحكام الشرعية الخاصة بالفرد. والنظرة الثانية إلى المجتمع ككل، بجميع أفراده وبما يربطهم من علاقات وأواصر وبما يتحمله الأفراد من مسؤوليات تجاه الآخرين وتجاه المجتمع بصورته الكلية. وعلى أساس هذه النظرة، تُبنى مجموعة من القيم والأحكام الشرعية، التي لها أبعادها الإجتماعية. ولذلك، أخذت القيم الاجتماعية حيزاً واسعاً في منظومة القيم الإسلامية والتشريعات العبادية والسلوكية والحقوقية، بل ربما يقال إنّ أيّ تشريع عبادي بما له من دور في صقل شخصية الفرد وتكريس حالة الارتباط بالله والعبودية له يتناول في جوانبه الأخرى البعد الاجتماعي، كالصلاة التي تحث الشريعة على إقامتها في المساجد، وعلى شكل جماعات الحج بكل مناسكه، والواجبات المالية من زكاة وخمس وصدقة وكفارة وما شابه. وقد نشأت منذ القديم نزعة تميل إلى الاعتزال والابتعاد عن الناس في الكهوف والجبال والصحارى، والانشغال التام بالنفس وبنائها وتزكيتها والتحلل من المسؤوليات الاجتماعية. هذه النزعة التي تمثّل تطرفاً وانحرافاً، نشأت من النظرة المجتزأة إلى بعض النصوص القرآنية والروايات عن أهل بيت العصمة والطهارة، ومن هذه النصوص والروايات:

1- قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ (المائدة: 105). فهذه الآية وردت في سياق قول الكافرين "حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا"، وهي تنهاهم عن التأثر السلبي بانحراف الآخرين والاستيحاش من قلة أهل الهداية، وليست في سياق الحث على الاكتفاء بتحصيل الهداية الذاتية والتخلي عن المسؤولية الشرعية تجاه هداية المجتمع وصلاحه.

2 - روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله: أنّه قيل له أي الناس أفضل؟ قال: "رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد الله ويَدَعُ الناس من شره"(1). ومنه ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "من خالط الناس نال مكرهم، ومن اعتزل الناس سلم من شرهم". ومثله: "من انفرد عن الناس صان دينه" وغيرها. ويبدو أنّ هذه النصوص في مورد الخوف على النفس من الإنحراف، وعندما لا يكون الإنسان قادراً على أداء دور فاعل في مجتمعه. وعليه حينئذ أن يفرّ بدينه، وأن يرجح الاعتزال ليتمكن من عبادة ربه عن هذا الطريق وحفظ نفسه من الانحراف. وإلا فإنّ بعض ما يؤديه الإنسان في مجتمعه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإصلاح الآخرين وخدمتهم وقضاء حوائجهم التي فيها لله رضا، ودفع الظلم عن المظلومين ومؤازرة المستضعفين في وجه المستكبرين، وجهاد أهل الباطل من المعتدين والطغاة والجائرين، لا يمكن أن تقاس نهائياً بشي‏ء مما يستفيده الإنسان في عزلته، حتى العبادة المستحبة المندوب إليها بعد أداء الواجبات. وقد ورد أنّ "عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة"، و"عالم يُنتفع بعلمه أفضل من عبادة سبعين ألف عابد"، وأنّ "صبر المسلم في بعض مواطن الجهاد يوماً واحداً، خير له من عبادة أربعين سنة". كما أنّ ما ورد من الأجر المضاعف لصلاة الجماعة عشرات المرات بل مئات المرات في بعض الأحيان، والحضور في المساجد، كل ذلك يؤكد أنّ الدين لا يرجح الاعتزال والابتعاد عن الناس بالمطلق. فالموقف الأسلم أن ننظر إلى الدين الإسلامي في مجالاته كافة، وأن نأخذ نصوصه المختلفة والمتنوعة كاملة، وأن لا نقتصر على بعد واحد من أبعاد اهتماماته. ومن جملة ما اهتم به الإسلام الأخلاق الاجتماعية التي برزت في نصوص عديدة، وسلّطت الضوء على جملة من التوجيهات ذات البعد الإجتماعي.

1- فمن صفات المؤمن حسبما ورد في الحديث عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: "المؤمن إلْفٌ مألوف، ولا خير فيمن لا يألَف ولا يُؤلف". وهو تعبير موجز جداً يصور البعد الاجتماعي في صفات المؤمن وارتباطه بالآخرين وعلاقته بهم وعلاقتهم به.

2- الاهتمام بأمور المسلمين وتحمّل المسؤولية تجاه المجتمع: فعن الرسول صلى الله عليه وآله: "من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم"(2). وهذا ينسجم تماماً مع ما ورد من تشبيه المجتمع الإسلامي بالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، وبالبنيان يشد بعضه بعضاً. ومن الواضح أن ذلك لا يتحقق إلا بتوفر الاهتمام، والحب، والحس الاجتماعي، والشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين. وكل هذا يحتاج إلى مخالطة وتواصل وحضور اجتماعي، فالمنعزل والمبتعد عن مجتمعه لا يمكنه أن يتحسس آلام أفراده ويتعرف على حاجاتهم، بل يفقد تدريجياً الإحساس بالمسؤولية والاهتمام على فرض وجوده سابقاً.

3 - العمل على ما فيه نفع المؤمنين وقضاء حاجاتهم: وقد ورد في هذا الموضوع عدد كبير من الروايات منها: عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "الخلق كلّهم عيال الله، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله"(3). عن علي بن الحسين عليه السلام: "من قضى لأخيه حاجة فبحاجة الله بدأ، وقضى الله له بها مئة حاجة في إحداهن الجنة، ومن نفّس عن أخيه كربة نفّس الله عنه كرب القيامة بالغاً ما بلغت، ومن أعانه على ظالم له أعانه الله على إجازة الصراط عند دحض الأقدام ، ومن سعى له في حاجة حتى قضاها فيُسَرُّ بقضائها، كان إدخال السرور على رسول الله صلى الله عليه وآله، ومن سقاه من ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم، ومن أطعمه من جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن كساه من عري كساه الله من استبرق وحرير..." إلى آخر الحديث(4). وفي هذا المعنى روايات كثيرة من أرادها وجدها في مصادر الحديث، وخاصة ما ورد في موضوع عيادة المرضى، وتشييع الجنائز، وإغاثة الملهوف، والمواساة في المصائب... ومن الجدير بالذكر أنّ ما ورد في هذه الأمور يتجاوز المجتمع الخاص بالمؤمنين إلى المجتمع بكامله، حتى المخالف بالمذهب والقناعات.

4 - التكافل الاجتماعي في المجال الاقتصادي والثقافي: فقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وآله: "ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع"(5). ولعل العبادات المالية تؤدي دوراً مهماً في تحقيق التكافل الاجتماعي، فلو أدى كل الناس ما عليهم من فرائض في أموالهم، لَسُدَّ النقص الحاصل عند الفقراء والمساكين، ولأغناهم عن المسألة، ولأدّى ذلك إلى تمويل مشاريع الرفاه الاجتماعي بالكامل، فضلاً عما يتركه ذلك في نفوس المؤدين للحقوق والمستفيدين على السواء من شعور بالألفة والمودة والرحمة والتقارب. والتكافل الاجتماعي يتجاوز المسألة المعيشية إلى المسألة الفكرية والثقافية والسلوكية، والتي يعبّر عنها بنظام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الفريضة التي لو عُمل بها بما تستحق لأقيمت كل الفرائض الأخرى ولعمّ الصلاح. وأخيراً، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الإسلام يريد للمجتمع الإسلامي، أن يكون متماسكاً قوياً محصناً في مقابل الأعداء الذين يريدون به كيداً، والذين يسعون لتفكيكه وإثارة الفتن والنزاعات والتفرقة بين أبنائه. ومما لا شكّ فيه أنّ بناء المجتمع القوي المتماسك لا يتأتى من خلال الاعتزال، فالمجتمع لا يتكوّن من أفراد مشتتين، بل من أفراد تربط بينهم أواصر المودة والألفة، ويجمعهم هدف واحد، أيديهم متشابكة متعاونة، وهذا ما يزعج الأعداء دائماً، فهم يتمنّون أن يروا المسلمين أفراداً لا يحس أحدهم بالآخر، ولا يعنيه ما يصيب الآخر. ومن المؤكد أنّ بناء المجتمع القوي والمتماسك والمنيع لا يتأتى إلا بالاهتمام التام بالتكامل والتكافل والحضور الاجتماعي والشعور بالمسؤولية، والالتفاف حول القيادة العادلة والعالمة والأمينة على الدين والدنيا معاً، لأنّ وحدة القيادة والانقياد يمنح الأمة قوة لا تقاوم، قوة نريدها للدفاع عن مبادئنا ومقدراتنا وأرضنا واستقلال ساحتنا وعزتها وشرفها، وليست القوة من أجل الظلم والعدوان والسيطرة والاستبداد. حمى الله هذه الأمة وقادتها الربانيين ومجاهديها المخلصين، ومنّ عليهم بالنصر المؤزر.
 


(*) المدير العام للمؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم.
(1) مستدرك الوسائل 11 393).
(2) الكافي: 2 131.
(3) الكافي: 2 149.
(4) وسائل الشيعة: 16 342.
(5) الكافي: 2 668.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع