صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

قصة: عندما سألوني عنك


(على لسان والدة الشهيد ياســـر شمص (آدم) الذي استشهد في معركــــة التــحرير الثانـي).
رقيّة كريمي


كانت تنظر إلى صورك الجميلة على الجدار، فيما أنا أراقبها بصمت، قالت: "أخبريني عن طفولة ياسر". كان كلامها كافياً لأعود إلى تلك الذكريات. أغمضتُ عينيّ وتذكّرت كلّ شيء. عينَيكَ الجميلتَين.. بشرتك البيضاء، وشعرك الأشقر، وشفتيك الحمراوين...

•"ليس لها إلّا الله"
سألتني الكاتبة الإيرانيّة: "هل كان يساعدُكِ في أعمال البيت؟".

لم يكن سؤالاً عاديّاً، فقد أعاد إلى مسامعي صوتك الجميل حينما عدتُ ذلك اليوم إلى البيت لأسمعك تنشد في المطبخ وأنت تغسل الصحون. لقد وجدتُ البيت حينها نظيفاً. لم تكن تساعدني أنا فقط، وإنّما الجميع. كنتَ تسير خمساً وأربعين دقيقة لتصل إلى بيت قريبتنا العجوز لتساعدها، وكنت تقول لي دائماً: "ليس لها إلّا الله".

•رائحة الرحيل
"كيف ذهب ياسر؟". سؤال آخر أعادني بالذكريات إلى تلك الليلة عندما دخلتَ البيت، وبدأتَ بجمع أغراضك. تعجّبتُ وقلت: "لماذا تجمع أغراضك باكراً؟ عادةً تجمعها في الصباح، ولماذا تستعجل الذهاب هذه المرّة؟". ابتسمتَ ولم تقل شيئاً. شعرتُ أنّك لن ترجع هذه المرّة.

احتضنتني قرب الباب. كنتُ أحبّ أن أشمّ رائحتك. كم كان صعباً عليّ أن أشاهدك وأنت تذهب. لم أقل شيئاً إلّا: "الله معك يا ولدي". بعد ساعة رجعت. ظننت أنّك لا تريد الذهاب. كدتُ أطير من الفرح. قلتُ لك: "ألا تريد الذهاب إلى المعركة؟"، ابتسمت وقلت: "بلى.. لكن أريد أن أودّع أبي. لا أحبّ أن أذهب قبل أن أودّعه". انتظرته ساعة، فلم يأتِ. سمعتُك تُكلِّم صديقك عليّ هاتفيّاً: "انتبه لأمّي كأنّك ياسر في غيابي". لم أستطع أن أتمالك نفسي. كنتُ أشمّ رائحة الرحيل. لم يكن لديّ حيلة إلّا أن أقف، وأبتسم، وأراقب ذهابك.

قبّلتَني مرّة أخرى، وعندما رأيتَ الدمع في عينَيّ قلتَ لي: "لا تقلقي.. أنا سأرجع"، ثمّ ذهبت. كنتُ أحصي خطواتك.

•كما وعدت
ذهبتَ يوم الثلاثاء ورجعتَ يوم الجمعة. رجعتَ كما وعدتني. كنّا نتابع معركة التحرير الثاني. كنتُ أدعو لك وللمجاهدين دائماً. لم أكن أستطيع النوم، وكذلك والدك الغارق قلقاً في صمته. لا أعرف كم كانت الساعة حين رأيتُ أمام الباب بعض الأصدقاء، كأنّهم كانوا يريدون أن يقولوا شيئاً ولم يستطيعوا ذلك. فهمت كلّ شيء من عيونهم. بدأتُ بالبكاء. لا.. كنتُ أصرخ. لم أكن أريد أن أصدّق.

أعرف أنّك تفضّل ألّا أصرخ، وأن أكون مقاومة وأصبر، ولكن... لم أستطع. أنتَ كنت حياتي كلّها. وقد رأيتُ حياتي كلّها قد ذهبت!

•ذكرياتك لا تفارقني
أتذكّر كلّ شيء عنك.. منذ طفولتك حتّى اللحظة التي فتحتَ فيها باب البيت وابتسمت لي للمرّة الأخيرة. كنتُ أتذكّر صلاتك الجميلة. كنتُ أُحبّ أن أشاهدك من قرب الباب. كنتُ أتذكّرك عندما تقرأ القرآن قرب النافذة كلّ يوم.

لا زلتُ أذكر عندما كنتَ تتوضّأ، فتبتسم لي وتقول: "الوضوء يزيل الغضب"، فأعرف أنّك غاضب من أحد ما. أتذكّر ضحكتك ومزاحك. أتذكّر عندما كنت تحتضنني وتمازحني.

•عندما تقدّمتَ للأمام
كانت الكاتبة الإيرانيّة تريد أن تبكي، ولكنّها كانت تتمالك نفسها بصعوبة، فتبتسم. سألَتْ: "كيف استشهد ياسر؟". سمعت من أصدقائك أنّك لم تكن في الصفوف الأماميّة، وأنّه عندما غلب العطش على الجميع، ولم يعد بإمكان الكثيرين منهم المشي بعد اجتياز طريق طويل، تقدّمتَ أنتَ إلى الصفوف الأماميّة، وكنتَ بين الذين اشتبكوا مع الأعداء، واستشهدتَ حين أصابك القنّاص في عنقك.

•وتحقّق حلمك
يوم تشييعك لم أذكر سوى حلمك الذي رأيته قبل شهرين من شهادتك، يوم قلتَ لي: "رأيتُ في منامي أنكِ استشهدتِ (ماما)، وكلّ المدينة شاركت في تشييعِك". كنتُ أفكّر في منامك وأنا أودّعك، وأرى كلّ المدينة تشارك في تشييعِك أنتَ لا في تشييعي!

•ما سمعته عنك
بعد استشهادك سمعتُ الكثير عنك. كيف لي أن لا أعلم أنّك تساعد الفقراء! وأنّك دفعت دَين رجل كان يريد أن يشتري شيئاً من الدكّان لأسرته الفقيرة، فقال له صاحب المحلّ: "دَينك أصبح كبيراً. لن أعطيك شيئاً إلّا بعد أن تدفع ثمن كلّ شيء أخذته". كان يهمّ أن يترك المحلّ حزيناً، لكنّك دفعتَ دينه كلّه. فاستغرب صاحب المحلّ ذلك، وقال: "لماذا تفعل هذا؟ هذا دينه هو!". فقلتَ له: "ولماذا لا أدفع؟ الحياة أقصر من ألّا يساعد بعضُنا بعضاً!".

ثمّ ابتسمتَ لهما وتركتَ المحلّ!

أخبرني صديقك عليّ بعد شهادتك كيف طلبتَ منه أن تذهبا إلى روضة الشهداء يوم الخميس. قلتَ له بعينين باكيتين: "تعالَ لنغسل معاً أضرحة الشهداء". أخبرني كيف حضنتَه هناك وبكيت، ثمّ قلتَ له: "ادعُ لي بالشهادة والسعادة". وعلمتُ أيضاً كيف ذهبت لزيارة السيّدة زينب عليها السلام طالباً منها أن تسهّل ذهابك للجهاد.

•رائحة وجودك
ابتسمت الكاتبة الإيرانيّة وسألتني: "هل تشعرين أحياناً بوجوده في البيت؟". وكيف لا أشعر بوجودك!؟ بعد أسبوع من شهادتك، وبعد أن وضعنا بدلتك المضرّجة بالدماء بين الأغراض، كنتُ كلّما آتي إلى غرفتك أشمّ رائحة عطر. في البداية، لم أعلم السبب. ظننتُ أنّ عطراً من عطورك قد عطّر الغرفة، لكنّني لم أشمّ هذا العطر سابقاً. فتحتُ الخزانة وإذ بها رائحة من بدلتك المضرّجة بالدماء!

كانت ضيفتنا الإيرانيّة تشاهد صورتك وتقول: "هنيئاً له الشهادة"، وكأنّها علمت بكلامك يوم قلتَ لصديقك عليّ في روضة الشهداء: "انظر يا عليّ، يوجد حائط بين جنّة الشهداء والمقبرة. فهنا مصيرهم معلوم بأنّهم مخلّدون في الجنّة، وهناك مصيرهم غير معلوم. فهل يجعلني الله من الشهداء؟ لا أدري!".

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع