صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

عيد الله الأعظم: فهذا عليٌّ مولاه

الشيخ مصطفى قصير (رضوان الله عليه)


سُئل الإمام الصادق عليه السلام: هل للمسلمين عيدٌ غير يوم الجمعة والأضحى والفطر؟ قال: "نعم، أعظمها حرمةً، قال: وأيّ عيد هو، جُعلت فداك؟ قال: اليوم الذي نصّب فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمير المؤمنين عليه السلام، وقال: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه، فقال: وأيّ يوم هو؟ قال: وما تصنع باليوم إنّ السنة تدور، ولكنّه يوم ثمانية عشر من ذي الحجّة". وقال: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصى أمير المؤمنين عليه السلام أن يتّخذوا ذلك اليوم عيداً، وكذلك كانت الأنبياء تفعل، كانوا يوصون أوصياءهم بذلك فيتّخذونه عيداً"(1).

•عظمة يوم الغدير
لقد اكتسب يوم الغدير عظمةً من الحدث العظيم الذي وقع فيه، واتّخذ طابعاً دينيّاً؛ لِمَا لذلك الحدث من ارتباط وثيق بالدين، وقد أكمل الله تعالى دينه فيه، وأتمَّ نعمته على المؤمنين.

وقد تنبّه أهل الكتاب إلى أهمّيّة ذلك الحدث ودوره في حفظ الرسالة وحصانتها ودوامها، فقد روي أنّ اليهود قالت لعمر بن الخطّاب: "إنّكم تقرأون آية في كتابكم لو علينا -معشر اليهود- نزلت لاتّخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: وأيّ آية هي؟ قالوا: قوله عزّ وجلّ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ (المائدة: 3)..."(2).

وخطب أمير المؤمنين عليه السلام لصلاة الجمعة يوماً، وقد اتُّفق أن كان الغدير يوم الجمعة، فقال: "إنَّ الله عزّ وجلّ جمع لكم -معشر المؤمنين- في هذا اليوم عيدَين عظيمَين كبيرَين..."(3).

وقد روى الخطيب البغداديّ بسندٍ رجالُه كلّهم ثقات -عندهم- عن أبي هريرة: "من صام يوم ثماني عشرة من ذي الحجّة كُتب له صيام ستّين شهراً، وهو يوم غدير خمّ، لمّا أخذ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بيد عليّ بن أبي طالب فقال: (ألستُ وليّ المؤمنين؟)، قالوا: بلى، يا رسول الله، قال: (مَن كنت مولاه فعليٌّ مولاه)"(4).

•لماذا الغدير؟
لا شكّ في أنّ الشريعة قد اكتملت وتمّ تبليغها من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنّ حفظ الرسالة واستيعاب تفاصيلها كلّها على مرّ العصور والأزمان، أمرٌ عسيرٌ جدّاً بالنسبة إلى عوامّ الناس، فكان لا بدّ من اعتماد أفراد مخصوصين؛ كي يرجع إليهم الناس في كلّ عصر، وهؤلاء هم الأئمّة الهُداة عليهم السلام، موازين الحقّ والعدل، ومعادن الحكمة والعلم.

ولا شكّ في أنّه لا يمكن أن يُترك أمر اختيار هؤلاء الأئمّة وتعيينهم إلى الناس أو إلى الظروف؛ لأنّ الإمام سيكون ميزان الحقّ، وميزان الحقّ يفترض به أن يكون من الدقّة بحيث لا يمكن أن يفارق الحقّ، ولا أنْ يحيد عنه. وهذا يعني أنّه لا بدّ من أن يكون معصوماً؛ من أجل ذلك، حرص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على إعداد الإمام عليه السلام من بعده منذ اللحظات الأولى لنزول الوحي، وتحمّله أمانة النبوّة ومهمّة تبليغ الرسالة. وقد ظهر هذا الاهتمام جليّاً في أوّل اجتماع عقده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من الله تعالى لدعوة عشيرته الأقربين، حيث سألهم السؤال المشهور: "فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصي وخليفتي فيكم"(5)، فلم يلبِّ نداءه غير عليّ عليه السلام الذي فاز بالشرف العظيم منذ تلك اللحظات.

•تعيين الإمام بالتنصيب الإلهيّ
ونظراً إلى أهمّيّة الوصاية وخطورة الإمامة، جعل الله تعالى النصّ على عليّ عليه السلام بالإمامة والخلافة ركناً أساسيّاً في تبليغ الرسالة، بحيث يكون الإخلال به إخلالاً بتبليغ الرسالة، فقد روي -مستفيضاً- نزول آية التبليغ في هذا الشأن. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ (المائدة: 67). وهذه الآية قد نزلت في آخر سنة من حياة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم حين كان في حجّة الوداع، وذلك بعد أن كان قد بلّغ الناس كلّ ما نزل عليه من القرآن الكريم ومن الأحكام الشرعيّة، فجاءه الأمر الإلهيّ بوجوب تبليغ أمر مهمّ يعادل تبليغُه الرسالةَ بتمامها، وتركه تبليغه يعادل ترك تبليغها بتمامها، ولم يكن ذلك الأمر سوى الولاية التي أعلنها يوم الغدير في طريق العودة من حجّة الوداع؛ إذ جمع الناس الذين كانوا يُعدّون بعشرات الآلاف، وأمر بإرجاع المتقدّم منهم وانتظار المتأخّر، وقام فيهم خطيباً، فنعى نفسه إليهم، ورفع عليّاً عليه السلام ليراه جميع الناس وأخذ بيده، وقال: "فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه كيفما دار"(6). بعد هذا البلاغ والإعلان، نزلت الآية المباركة: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾ (المائدة: 3).

•مخالفة الوصيّة
وقد حالت الظروف السياسيّة الصعبة دون تحقيق أمنيّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتنفيذ وصيّته، فتخلّف الناس عن مؤازرة الإمام عليّ عليه السلام، ولم يمكّنوه من الإمساك بزمام الأمور. ولكن كيف سكت هذا العدد الهائل من الناس على مخالفة الوصيّة ولم يحرّكوا ساكناً؟ وما موقفهم الحقيقيّ تُجاه هذه القضية؟

ويكمن الجواب في أنّ الواقع السياسيّ -آنذاك- كان معقّداً جدّاً، حيث بقي أمير المؤمنين عليه السلام مبعَدَاً عن موقعه الذي أقامه فيه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى عام 35 للهجرة، كما تُبيّن الوقائع التاريخيّة المُرّة.

•شواهد على الولاية الكبرى
قد يناقش بعضهم في دلالة حديث الغدير على الإمامة الكبرى، متمسّكاً بأنّ لكلمة "المولى" معانيَ عدّة؛ منها: الصديق، والناصر، والمحبّ... وتواتر الحديث يثبت صحّته على مستوى الصدور عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يثبت دلالته على المطلوب ما لم يكن نصّاً صريحاً!

والواقع أنّ حديث الغدير صريح جدّاً بأنّ المراد منه هو الولاية الكبرى التي كانت ثابتة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وتوجد شواهد عدّة على ذلك:

1- إنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد جمع الناس في حرّ الظهيرة وتحت الشمس الحارقة؛ لأجل أمر مهمّ جدّاً يستوجب ذلك، يرتبط بمصير الرسالة من بعده، وبمصير الأمّة التي كان لها كالأب الرحيم، وكان حريصاً على ما يُصلح أمرها، ولا يصحّ أن يدّعي مدّعٍ أنّ الاجتماع الهائل كان لمجرّد تبليغهم أنّ عليّاً ناصرهم ومحبّهم وصديقهم.

2- قدّم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مقدّمات عدّة لها مغزىً معيّن: فنعى نفسه إليهم، وأخبرهم بأنّهم ربّما لا يرونه بعد عامهم هذا وبعد لقائهم هذا، ثمّ قال لهم مقرّراً: "ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟" فقالوا جميعاً بصوت واحد: بلى، يا رسول الله، فقال: "مَن كنت مولاه فهذا علي مولاه"؛ وهذا يدلّ على أنّه يريد أن يعطيه ممّا كان ثابتاً له من الولاية بالقرآن الكريم؛ حيث يقول: ﴿النبيّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾ (الأحزاب: 6).

3- أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الناس بعد ذلك -كما في بعض الروايات- أن يسلّموا على عليّ عليه السلام بإمرة المؤمنين؛ أي أن يقولوا له: (السلام عليك يا أمير المؤمنين). وهذا تطبيق مباشر لمعنى الولاية في حديث الغدير.

4- إنّ عليّاً عليه السلام قد احتجّ على إمامته بحديث الغدير في أكثر من مورد، وكان آخرها وأهمّها مناشدته الناس في رحبة الكوفة أيّام خلافته؛ إذ ورد أنّه عليه السلام قد طلب ممّن سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (مَن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه)، أن يقوم فيشهد. ويروى أنّه قد قام اثنا عشر بدريّاً، فشهدوا بذلك، وكان سبب المناشدة بُعْد العهد بوفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ودخول الكثير من الناس إلى الإسلام لم يشهدوا الحادثة، وفرض الحصار على مثل هذه الأحاديث، فأراد عليه السلام أن يحتجّ بشهادة الصحابة الأوائل بذلك، ليُبدّد الشكّ والتردّد فيهم حيال شرعيّة مواقفه عليه السلام من معارضيه والخارجين عليه.


1.الكافي، الكلينيّ، ج1، ص204.
2.مسند أحمد ابن حنبل، ج1، ص28.
3.راجع: مصباح المتهجّد، الطوسيّ، ص754.
4.الأمالي، الصدوق، ص50.
5.الروضة في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام، ابن شاذان، ص70.
6.معاني الأخبار، الصدوق، ص67.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع