مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص مجتمع | "الأمّ بتلمّ" مناسبة | من رُزق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حُبّها أذكار | شهر رمضان المبارك آخر الكلام | الأوراق المغلّفة الافتتاحية | ما أفضل أعمال شهر رمضان؟ القرآنُ مشروع حياة

تسابيح جراح: بقدمٍ واحدة سأكمل الدرب

لقاء مع الجريح المجاهد "نوح محمّد هدلا"

داليا فنيش


الاسم الثلاثي: نوح محمّد هدلا.
محل الولادة وتاريخها: مشغرة 6/11/1993م.
تاريخ الإصابة: 16/10/2017م.
نوع الإصابة: الرقبة والوجه -بتر الطرف السفليّ الأيسر.


ذات يومٍ، بينما كان "نوحٌ" في مهمّةٍ في منطقة الجنوب، تلقّى اتصالاً غيّر مجرى حياته: "سوف ينتقل عملك إلى سوريا". تملّكته فرحة لم تسعه مطلقاً، ولم يغمض له جفن تلك الليلة وهو يفكّر في هذا الخبر السارّ، فقد اختاره الله تعالى لنيل شرف المشاركة في معارك الدفاع عن المقدّسات في سوريا.. ومن يدري، فقد تكون فرصته للالتحاق بركب الشهداء؟! لكنّه تقلّد وسام شرف آخر، جعل منه شهيداً حيّاً.

* درب السعادة
هو "نوح محمّد هدلا"، الشابّ الذي نشأ في بيت عاشقٍ للمقاومة، وتربّى على قيم ومبادى كشافة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف. كان قد التحق بصفوف المقاومة الإسلاميّة في عمر ستّة عشر ربيعاً، بناءً على طلب والده، ذلك الوالد الملهم والداعم، الذي لمعت عينا "نوح" بالدموع ما إن أتى على ذكره، ليجد نفسه قد وُفّق ليسير في درب العشق والسعادة.

سار درب السعادة ذاك بـ"نوح" إلى حيث طالما أحبّ وتمنى، يقول: "أقسم أنّ عينيَّ لم يغمض لهما جفن تلك الليلة وأنا أفكر في هذا الخبر السارّ الذي كنت أنتظره بفارغ الصبر، وشكرت الله سبحانه وتعالى على اختياري للدفاع عن مقدّساتنا، ولعلّي سأكون من بين الشهداء الذين يختارهم الله لنيل هذا الشرف والوسام، وعلى الفور، خطر في بالي والدي؛ لأنّ أمنيّته كانت أن أدافع عن مقدّساتنا".

وبدأت مسيرته لستّ سنوات شارك خلالها في معارك وهجومات عديدة.

* مهمّة جديدة وحدس أمّ
تبلّغ "نوح" بمهمّة جديدة في سوريا، وكالعادة قامت والدته بتوضيب أغراضه، ودار حوار بينهما:
- أشعر بالقلق حيالك!
- وهل هي المرّة الأولى التي أذهب فيها إلى سوريا؟ ليس ثمّة ما يدعو إلى ذلك أبداً.
- ولكنّ قلبي يخفق بشدّة هذه المرّة، وينتابني إحساس غريب!
- هل يُعقل أن أستشـهــد؟! لا تـكتـرثــي لكلامي. إنّها مجرّد مزحة!

كالعادة، أنهت والــدتـه توضيــب أغراضـه وتجـهيـــز حقيبته، ولكنّها كانت هذه المرّة، على غير عادتها، لا تنفكّ تقول له: "انتبه لنفسك يا نوح.. كن شديد الحذر!".

* "للمرّة الأولى... بكت أمّي"
قبيل الانطلاق، اقترب منها مودّعاً، وراح يخفّف عنها ويقبّلها، قائلاً إنّه سوف يكون بخير، ويتّصل بها كلّما سنحت له الفرصة، ثمّ مسح دموعها بكفّيه، تلك الدموع التي رآها تنهمر للمرّة الأولى منذ أن بدأ عمله العسكريّ: "هول الدموع الغاليين، ممنوع ينزلو.. بتعرفيني بجنّ بس شوف هالعيون عم يبكو"، ثمّ غادر. لم تكن هذه المشاركة العسكريّة الأولى لـ"نوح" في سوريا، فهو يشارك منذ ستّ سنوات، ولكنّ المشاركة هذه المرّة الأخيرة كان لها وقعٌ خاصٌّ وغريبٌ على والدته، إنّه قلب الأمّ!

* "إنْ هبتَ أمراً فقعْ فيه!"
وصل "نوح" إلى سوريا في الوقت المحدّد من ذلك اليوم، فيما الاستعدادات جارية على قدمٍ وساق، فالأجواء محتدمة وملتهبة، ما يُنذر بمعركةٍ شرسةٍ وضاريةٍ ضدّ التكفيريّين، في إحدى المناطق الصحراويّة، حيث يفصل بينهم مسافة 10 كلم.

يروي نوح تفاصيل ذلك اليوم: "عند وصولنا إلى مكان العمل لم يكن الوضع على ما يرام، وأخذنا نستعدّ لأيّ خرق من قبل التكفريّين. كنّا مجموعة مؤلّفة من 4 شباب، والكلّ يريد أن يكون في الصفوف الأماميّة، وكانت المعركة في صحراء تبعد مسافة 10 كيلومترات فقط عن الإرهابيّين؛ لذلك قبل الهجوم قلت لرفيقي: سأتقدّم وأطبّق قول أمير المؤمنين عليه السلام: (إِذَا هِبْتَ أَمْراً فَقَعْ فِيهِ، فَإِنَّ شِدَّةَ تَوَقِّيهِ أَعْظَمُ مِمَّا تَخَافُ مِنْهُ)"(1).

* "يا زهراء أغيثيني"
تلقّى الإخوة إشارة انطلاق المعركة. وبينما هم يخوضون اشتباكاتٍ جريئة وبطوليّة، إذ بانتحاريّ تكفيريّ يفجّر نفسه بعددٍ من المجاهدين، فأصيب "نوح" إصابةً مباشرةً، وشعر بنفسه يُقذف في الهواء نتيجة شدّة الانفجار، يقول "نوح": "في هذه اللحظات لم أعرف ماذا حدث، كلّ ما شعرت به أنّي طرت، ولم أغب عن الوعي، أخذت أتفقّد جسدي وأحاول النهوض، وإذ بساقي غير موجودة، فقد ذهبت مع الريح -يقول ويضحك- فأخذت أنادي: (يا زهراء، أغيثيني). أقسم أنّي لم أشعر بأيّ ألمٍ بعدها".

* ولو بقدمٍ واحدة
تلقّى "نوح" العلاج الأوّليّ في سوريا، ليعود من بعدها إلى أحد مستشفيات بيروت لاستكمال العلاج. يقول: "استيقظت في مستشفى بيروت لأرى أهلي وخطيبتي متحلّقين حول السرير، وهم يبكون بشدّة. أخذت أمّي تقبّلني والدموع تنهمر منها، فقلت: تذكّري مصائب السيّدة الزهراء والسيّدة زينب عليهما السلام".

هناك، أُحيط به الكثير من الحبّ والاهتمام من قِبل عائلته، وبدلاً من أن يبثّ هؤلاء روح العزيمة والقوة في نفسه، كان هو من يخفّف عنهم، ويطلب منهم التحلّي بالصبر والقوّة، وعدم البكاء: "لمَ أنتم محزونون؟ كنت أتمنى أن أنال لقب شهيدٍ، ولكن ها أنا قد أصبحتُ جريحاً كأبي الفضل العبّاس عليه السلام، يجب أن تفخروا بذلك.. وأعدكم أنّني سأواصل عملي في الميدان، ولو بقدم واحدة!". أمّا والدته، التي صدق حدسها، فقد راح يمازحها كعادته، بروحه المرحة قائلاً: "ليست إلّا قدماً واحدة فقط، لا تحتاج كلّ ذلك"، حتّى كاد أن يُنسيها أنّه مصاب!

* السموّ على الجِراح
مضافاً إلى اقتدائه بالمولى أبي الفضل العبّاس عليه السلام، فقد تأثّر "نوح" بالشهيد "أبو حسن باز"، يقول: "قبل جراحي كنت متأثّراً جدّاً بشخصيّة الشهيد أبو حسن باز (بلال)، الذي جرح أكثر من مرّة ولم يبالِ، فلم تُؤثّر جراحه على عمله الجهاديّ، فكانت روحيّته ومعنويّاته عالية بعد إصابات عدّة، حتّى نال الشهادة. وأنا ماضٍ في دربه".

ويتابع بغصّة: "أثناء وجودي في المستشفى، حلّت الذكرى السنويّة الأولى لوالدي، فحزنت وبكيت كثيراً، فلو كان على قيد الحياة لفرح لنيلي وسام الجراح وبارك لي". وهكذا، تسلّح "نوح" بالمعنويّات والهمّة العالية للمضي قُدماً في هذه الحياة. فبعد أشهر من إنهاء علاجه، خضع لدوراتٍ مكثّفة باللغة الإنكليزيّة، وصيانة الهواتف وأجهزة الحاسوب، فالحياة لا تتوقف على أيّ عضوٍ من أعضاء الجسد، وقد ختم لقاءه بنا بقوله: "بهذا الوسام سأمضي قدُماً في حياتي، وسوف أتزوّج قريباً، وأنجب الأطفال، وأدفعهم نحو هذا الطريق، كما فعل والدي معي، وسوف تستمرّ القافلة!".

نوحٌ، ذلك المجاهد بقدمَيْن، يكمل اليوم درب جهاده بقدم واحدة، تحت عنوان الصبر والعزيمة والوفاء للنهج، وإرادة أقوى.



1- نهج البلاغة، الحكمة رقم 175.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع