إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد

دعاء الافتتاح (8): ويستُرُ عليَّ وأنا أعصيه


د. يوسف مَدَن


وصلنا في مبادئ قيم تنظيم السلوك، في العدد السابق، إلى المبدأ السابع، وشرحنا كيف أنّ هذه القيم تعمل على ضبط السلوك في اتّجاه واحد... ونكمل في هذا العدد مع المبدأين الثامن والتاسع.

*المبدأ الثامن: مبدأ السّتر الأخلاقيّ والسَّيكولوجيّ
إنّ ستر الجسد ضرورة إنسانيّة لتحقيق غايات مختلفة، منها ستر ما أمر الله سَتره أو حماية الجسد من البرد والحرّ. ولكنّه قد يكون أمراً أكثر سهولة من ستر فضائح النفس حين تعتاد على الرذائل ومعاصي الله علانية وأمام الملأ. لكنّه، وعلى الرغم ممّا يترتّب على ذلك من ضغوطات، فإنّه يشكّل ضرورة لتنمية علاقة نفسيّة إيجابيّة بين الإنسان وربّه.

*الستْر الأخلاقيّ أمن نفسيّ
لهذا، أقرّ الإنسان بأهمية تحقيق "الستر الأخلاقيّ" والمحافظة عليه لتحقيق الأمن النفسيّ للفرد وحفظ ذاته من مخاطر المتصيّدين للعيوب في السرِّ والعلن، ووضع له في التشريع الإسلاميّ قواعد وضوابط. وما اعتدنا عليه، أحياناً، في حياة بعض الحَمقى أنْ يقودهم الجهل فرداً أو جماعة إلى فضْح أنفسهم بنَقل أسرارهم المستورة للآخرين بصورة علنيّة أو وقحة. وذلك عندما يقومون بجهلهم بكشف قبائح أعمالهم أمام الملأ، ويحمل كشف أسرارهم للآخرين إلى الحديث عنه في السر والعلن، ويجعل من حماقته مجالاً لهتك عوراته.

*تَستر على قبيح عمليّ
الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف يلفت نظرنا إلى الإجراء الإلهيّ الحكيم بـ"ستْر عيوبنا" وإخفاء قبائح أعمالنا عن الأنظار، والكفّ عن فعل معاصينا في العلن، وجعل عجل الله تعالى فرجه الشريف من (هذا الستر) ما يستوجب الثناء على الله سبحانه، وحمده عزَّ وجلَّ من قبل عباده. ويمكن تأمّل أكثر من جملة صاغها الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف في دعاء الافتتاح تؤكّد على ضرورة "الستر الإلهيّ" لنا، وأهميّته في حماية أنفسنا من آثار معاصينا وسيّئاتنا بصورة علنيّة.

فعمليّة "الستر الإلهيّ" هي من أعظم النعم الإلهيَّة على حدّ تعبير الإمام، إذ قال عجل الله تعالى فرجه الشريف: "اللَّهم.. إنّ عفوك عن ذنبي، وتجاوزك عن خطيئتي، وصفحك عن ظلمي، وسَترك عن قبيح عملي، وحِلمك عن كثير جرمي، عند ما كان من خطئي وعمدي.. أطمعني في أن أسألك ما لا أستوجبه منك، الذي رزقتني من رحمتك، وأريتني من قُدرتك"(1).

وقوله كذلك في مقطع آخــر: "الحمد لله الذي يجيبني حين أناديه، ويستر عليَّ كل عورة وأنا أعصيه، ويُعَظِّم النعمة عليَّ فلا أجازيه، فكم من موهبة هنيئة قد أعطاني، وعظيمة مخوفة قد كفاني، وبهجة مُونقة قد أراني"(2).

*المجازاة بالطاعة والعبادة
وكان من المنطق على الناس أن يستجيبوا لهذا الفعل الكريم بستر معاصيهم عن فضائح المتصيّدين، بردِّ الجميل، ومجازاة الله بطاعته وعبادته على أتمّ وجه، فهذا الستر يستوجب الشكر؛ لأنّ عملية الستر وفّرت للناس حمايةً وأمناً لهم، "وعرّفتني من إجابتك، فصرت أدعوك آمناً، وأسألك مستأنساً لا خائفاً ولا وجلاً".

وسواء كان هذا أو ذاك، فعملية "الستر الإلهيّ" وما يصاحبها من مشاعر الأمن والشعور بالعظمة الإلهيَّة ينمّي علاقة العبد بالله، وتحسّن من واقع الصحّة النفسية في حياة الإنسان حيث تبقى هذه العلاقة حميميَّة بينه وبين ربّه.

*المبدأ التاسع: الإثابة واستخدام العقوبة
أشار علماء السلوك إلى أهميّة عنصر تدعيم السلوك (إنسانيّ وغير إنسانيّ) بأثرٍ حسن وإثابة مُجزية، وهو من أقوى العناصر اللازمة لبناء العادة، فلا يكفي تكرار السلوك من قبل الأفراد لتكوين العادة الحسنة إذا لم يتبع كلّ استجابة سلوكية صادرة عنهم تدعيمٌ إيجابيّ، فالمكافأة تؤدّي إلى تكوين السلوك المرغوب فيه(3).

وهذا المبدأ - كمخزون فطريّ - يميل بالإنسان إلى البحث عن إثابة مريحة، والإثابة وراء كل أنماط استجاباته السلوكية. وليست الإثابة بالضرورة ماديّة. وقد عرض دعاء الافتتاح نماذج من التدعيم الإيجابيّ والسلبيّ، فإذا وعد فلان من الناس بدخول الجنَّة فقد حصل على تدعيم إيجابيّ، وحين يبشر بعدم دخول النار فقد حصل على تدعيم سلبيّ.

وتأخذ الإثابة كما فهمنا من بعض إشاراتها في جمل هذا الدعاء مسارين أو نوعين هما:

أوّلاً : التعزيز أو التدعيم الإيجابيّ
نجد أنّ صيغ الإثابة الملحوظة بطابعها الإيجابيّ، أو ما يعرف بالتدعيم الإيجابيّ- بوجه عام- اثنتان، هما:

1 - الرزق والنعم، وهو لفظة على إطلاقها تعني لنا (نعم الله)، وما بَسَطه للناس وتفضّل به من خيرات وحاجات سواء ماديّة أو معنويّة على جموع عباده بصرف النظر عن كونهم من عباد الله الطائعين أو من العصاة المسيئين، والمذنبين. ويُلحظ أن الإمام المهديّ وصف الله سبحانه "بالرازق، وباسط الرزق، وكثير العطاء والباسط بالجود، والوهَّاب، وصاحب الجود والتفضّل والمنّ"، وتعبّر كلها عن توفير مختلف الحاجات للإنسان وتأمينها من الله عزَّ وجلّ، وتدخل هذه الصيغة في نهاية الأمــر ضمن ما يسميه علماء المدرسة السلوكية بـ"التدعيم الإيجابيّ".

2 - الثناء والحمد، وهي صيغة تكررت مراراً في الدعاء (الثناء، بحمدك، الحمد لله، أثني عليه حامداً، وأذكره مسبحاً) تعبيراً عن شكر الإنسان لربّه على ما أنعم ورزق. وتُدرج هذه الصيغة كإثابة أو تدعيم إيجابيّ أيضاً.

ويُلحظ كذلك، أن الصيغتين السابقتين تعبّران عن حركتين .. أولاهما هابطة من الله تجاه النَّاس، وهي ما توافَرَ من رزقه تعالى لهم، والأخرى حركة شكر من الناس المؤمنين والمنتظرين للإمام المهديّ ولظهوره، ولم يذكر دعاء الافتتاح الإثابة الأخروية مباشرة، وهي دخول الجنَّة.

ثانياً: التعزيز أو التدعيم السلبيّ
وهو بمثابة إثابة فعَّالة ترفع الضغوط والمتاعب، أو تزيح عقوبات وموانع وعوائق منفّرة. وتوحي كلمات الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف في ذكر بعض المواقف الجميلة بتقديم أمثلة فعلية، كما في شكره وحمده لله على تفريج الكرب، وإزاحة آلام مترتّبة عن حلقات البلاء، أو ستر عيوب وفضائح عن بعض المسيئين، وتعني هذه جميعاً خفض التوتّر النفسيّ عن أصحابها، وبالتالي تحسّسهم الرضا الداخليّ، وربما الإحساس بالسعادة، كما إنّ تغيير خوف الفرد أمناً، أو سؤال الله مستأنساً لا خائفاً ولا وجلاً هو مثال حيّ على رغبة الفرد في تجنّب كلّ شيء يسبّب له الألم. وقد يتحسّس البعض هذا التحوّل النفسيّ إثابة إيجابية.

لقد أشار دعاء الافتتاح للعقوبة في عبارة الإمام المهدي "وإنّك أشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة". وممّا لا شكّ فيه أنّ الكلمات السابقة توحي بعقوبة أخروية، بيد أن دلالتها الدنيوية ذات مغزى "سيكولوجيّ" يؤدّي إلى تصحيح سلوكنا، وتوجيه مشاعرنا نحو الاستقامة. "وأيقنت أنّك أنت أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة، وأشدّ المعاقبين في موضع النكال (أي العقوبة) والنقمة"، فكلاهما.. إثابة الفرد وعقوبته.. وجهان لهذا المبدأ التربويّ الهـامّ.


1- إقبال الأعمال، ابن طاووس، ص328.
2- م.ن، ص328 - 329.
3- العلاج النفسي وتعديل السلوك الإنساني بطريقة الأضداد، د. يوسف مَــدَن، ص416.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع