سماحة الشيخ حسين كوراني
آثار توقيع الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف لسفيره الرابع الذي أعلن فيه ابتداء الغيبة الكبرى، جدلاً كبيراً حول إمكانية رؤيته عجل الله تعالى فرجه الشريف في عصر الغيبة الكبرى وعدمها.
فطائفة ذهبت إلى إمكانية الرؤية، وأخرى ذهبت إلى تحققها ووقوعها، وثالثة أنكرت إمكانية الرؤية وشكّكت في وقوعها. وتعاطت مع المسألة باستخفاف كبير، ونبذتها في دائرة الإهمال.
فهل يمكننا رؤية الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف في عصر الغيبة الكبرى؟ أم أن ذلك غير ممكن؟ وهل يمكننا الجمع بين قصص اللقاء الكثيرة والصحيحة السند وهذا التوقيع؟
هذا البحث يتكفّل الإجابة عن هذه الأسئلة وتقديم التفسير الوجيه بشأنها.
روى الشيخ الصدوق وغيره أن السمريّ آخر السفراء الأربعة عليهم الرحمة والرضوان أخرج إلى الناس توقيعاً (رسالة من صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف) هذا نصّه:
بسم الله الرحمن الرحيم
"يا علي بن محمد السمريّ أعظم الله أجر إخوانك فيك فإنك ميّت بما بينك وبين ستة أيام، فاجمع أمرك، ولا توص إلى أحد يقوم بمقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة الثانية (في بعض النسخ "التامة")، فلا ظهور إلاَّ بعد إذن الله عزّ وجلّ، وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي شيعتي من يدّعي المشاهدة، ألا من ادّعى المشاهدة قبل خروج السفيانيّ والصيحة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العليّ العظيم".
وبناءً على ما ورد في هذا التوقيع المقدس فهل يصح القول بأن رؤية الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف ومشاهدته في عصر الغيبة الكبرى أصبحت ممتنعة؟
في معرض الإجابة لا بد من التفريق بين نوعين من الرؤية والمشاهدة، فإذا كان المقصود بهما نحواً من الصلة المستمرة بالإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف بحيث يعرض الناس مشاكلهم عليه وهو يعرضها بدوره على الإمام المنتظر صلوات الله عليه فهذا ما يحكم باستحالته قطعاً قبل خروج السفياني والصيحة كما نص الحديث صراحة.
وأما إمكان الرؤية والمشاهدة في عصر الغيبة الكبرى غير المقترنة بنيابة خاصة فلا بد من استيفاء البحث حقه وملاحظة أقوال العلماء فيه.
فقد صرّح جمع من كبار العلماء رضوان الله عليهم بإمكان ذلك، وتدل نصوصهم بكل وضوح على أن التشرف بلقائه (عليه السلام) ممكن، بل صرّح أكثرهم بوقوعه، وإليك جانباً من أقوالهم:
1 ـ السيد المرتضى (355 ـ 436هـ):
قال عليه الرحمة:
".. إنه غير ممتنع أن يكون الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف يظهر لبعض أوليائه ممّن لا يخشى من جهته شيئاً من أسباب الخوف، فإن هذا ما لا يمكن القطع على ارتفاعه وامتناعه، وإنما يعلم كل واحد من شيعته حال نفسه، ولا سبيل إلى العلم بحال غيره.
2 ـ صاحب كنز الفوائد الشيخ الكراجكي (ت449هـ):
قال رحمه الله في معرض بيان الفائدة من وجود الإمام رغم غيبته:
"ولسنا مع ذلك نقطع على أن الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف لا يعرفه أحد، ولا يصير (يصل) إليه، بل قد يجوز أن يجتمع به طائفة من أوليائه تستر اجتماعها به وتخفيه".
3 ـ الشيخ الطوسي (385 ـ 460هـ):
في مقام الإجابة عن السؤال المتقدم قال عليه الرحمة:
"وما ينبغي أن يقال في الجواب هو أننا لا نقطع على استتاره عن جميع أوليائه، بل يجوز أن يظهر لأكثرهم".
4 ـ السيد بحر العلوم (1155 ـ 1212هـ):
في معرض حديثه عن التوقيعات التي خرجت من الناحية المقدسة إلى الشيخ المفيد ـ رضوان الله عليه ـ قال السيد عليه الرحمة والرضوان:
"وقد يشكل أمر هذا التوقيع بوقوعه في الغيبة الكبرى مع جهالة حال المبلّغ ودعواه المشاهدة المنفيَّة بعد الغيبة الكبرى، ويمكن دفعه باحتمال حصول العلم بمقتضى القرائن، واشتمال التوقيع على الملاحم والإخبار عن الغيب الذي لا يطّلع عليه إلاَّ الله وأولياؤه بإظهاره لهم، وأن المشاهدة المنفيّة أن يشاهد الإمام، ويعلم أنه الحجّة (عليه السلام) حال مشاهدته له، ولم يعلم من المبلّغ ادعاؤه لذلك. وقد يمنع أيضاً امتناعها في شأن الخواص وأن اقتضاه ظاهر النصوص بشهادة الاعتبار ودلالة بعض الآثار".
5 ـ المحدِّث النوري صاحب "المستدرك" (1254 ـ 1320هـ):
فقد عبّر رحمه الله عن رأيه في الأحاديث الواردة التي ظاهرها نفي إمكانية الرؤية في عصر الغيبة الكبرى، فقال:
"إنها لا تنهض لمعارضة الوجدان القطعي الذي يحصل من مجموع هذه القصص والحكايات".
6 ـ السيد محسن الأمين رحمه الله (1284 ـ 1373هـ):
قال عليه الرحمة:
"وقد جاءت أحاديث دالة على عدم إمكان الرؤية في الغيبة الكبرى، وحكيت رؤيته عجل الله تعالى فرجه الشريف عن كثيرين في الغيبة الكبرى، ويمكن الجمع بحمل نفي الرؤية على رؤية من يدّعي المشاهدة مع النيابة وإيصال الأخبار من جانبه على مثال السفراء أو بغير ذلك.
وتجد في قصص السيد بحر العلوم والعلامة الحلي والمقدس الأردبيلي والحر العاملي وغيرهم تصريحات بتشرفهم بلقائه (عليه السلام) نقلت في كثير من المصادر بأسانيد صحيحة.
هذه أقوال بعض كبار علمائنا الأبرار في مسألة الرؤية، وهي تكاد تغطي الفترة الممتدة من القرن الرابع حتى القرن الرابع عشر الهجري.. وما هي إلاَّ جانب مما يجده المتّتبع في هذا المجال، بل يمكن الجزم بالإجماع على إمكان الرؤية ووقوعها. ولم أجد أحداً من العلماء يتبنى القول بعدم إمكان رؤيته عجل الله تعالى فرجه الشريف، وليس من الصحيح أبداً أن يدرس توقيع السمري رحمه الله بمعزل عن هذه الحقيقة التي تلتقي عندها كلمات العلماء الأعلام... فهم رغم علمهم به يصرّحون بإمكان اللقاء أو وقوعه كما رأيت؟! وهل السبب في ذلك ردّهم لهذا التوقيع، أم الجمع بينه وبين ما صحّ من قصص الرؤية، أو العلم وجداناً بوقوع الرؤية.
.. وقد تقدّم في كلام السيد بحر العلوم وكذلك في كلام الحر العاملي عليهما الرحمة ما يدل على الثاني.
بعد هذه الجولة... مع آراء العلماء الأعلام، عبر القرون... أعيد طرح السؤال الذي كنت بصدد الإجابة عنه:
هل يمكننا أن نرى الإمام صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف في الغيبة الكبرى؟
وقد أصبحت الإجابة واضحة.. فلا مجال على الإطلاق لنفي إمكانية التشرّف بلقائه عليه صلوات الرحمان... ومن حاول نفي ذلك فرأيه شاذ لا يلتفت إليه..
يبقى أن من الضروري تعزيز الاعتقاد بإمكانية الرؤية ووقوعها في نفوسنا ـ بالإضافة إلى الوقوف على آراء العلماء ـ بمحاولة فهم دلالة توقيع السمري عليه الرحمة، بما لا يتنافى مع قصص اللقاء.
فكيف ذلك؟
والجواب عن هذا السؤال.. هو الآتي:
أولاً: ينبغي الوقوف من نص توقيع السمري عند فقرة وسيأتي شيعتي من يدّعي المشاهدة، ألا فمن ادّعى قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر".
والفقرة واضحة الدلالة على أن "من يدّعي المشاهدة" يدّعيها أمام الشيعة فهو إذاً يحرص أن يكسب دعوته بعداً اجتماعياً... ويتصدى لادعاء ذلك أمام جمهور الشيعة.
هذا هو المعنى الذي ينسجم مع طبيعة العبائر.. وينسجم أيضاً مع مهمة توقيع يهدف إلى إقفال باب النيابة الخاصة قطعاً للطريق على كل محاولة قد يقدم عليها بعض المنحرفين، بتحريك من السلطة، أو بمعزل عنها..
ولا دليل في هذا التوقيع على تأسيس أصل جديد، يرقى إلى إثبات منع رؤيته عجل الله تعالى فرجه الشريف على الإطلاق...
وعندما تتأمل قصص اللقاء بروية وموضوعية.. تجد أن ما صح منها ـ وهو كثير ـ لا ينطبق عليه عنوان "وسيأتي شيعتي من يدّعي المشاهدة" فأصحاب هذه القصص يتكتمون عليها عادة وقد يصعب جداً سماعها منهم.. ثم إنهم إذا حدّثوا بها حرصوا على أن يكون ذلك في أضيق نطاق.. ومن السائد أن لا تعرف عنهم إلاَّ بعد وفاتهم.
ولا ينافي ذلك أن تعرف القصة في حياة صاحبها من دون أن يعرف هو.. ولا ينافيه أيضاً أن تُعرف ويعرف صاحبها في حياته.. ولكن على نطاق خاص جداً.. كما هو الأمر في غالب القصص.. ونجد في بعضها ـ ما عدا الغالب ـ الأمر من الإمام (عليه السلام) بنشر خبر الرؤية ومضمونه.. كما ورد في قصة الحاج علي البغدادي التي هي في طليعة القصص سنداً ودلالة..
والخلاصة..
إن توقيع السمري لا دلالة له أبداً على نفي مشاهدة الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف مع التكتّم على ذلك.. ولا على نفي المشاهدة التي تقترن بادعائها أمام عدد قليل من الناس.. لأن من يفعل ذلك لا ينطبق عليه أنه أتى الشيعة يدّعي المشاهدة.
ثانياً: والقول الفصل هو ما تنبه له المحقق الجليل الشيخ النهاوندي في كتابه الموسوعي القيّم "العبقري الحسان" حيث قال:
"لا معارضة بين التوقيع الشريف (توقيع السمري) وأمثال هذه الحكايات حتى يحتاج إلى الجمع، لأن التوقيع الشريف بصدد منع دعوى الظهور، والمشاهدة فيه (التوقيع) بمعنى الظهور والحضور، كما في الآية المباركة 19 فمن شهد منكم الشهر فليصمه 19 لا بمعنى الرؤية ليقع العلماء في حيص بيص في الجمع بين التوقيع الشريف وبين الحكايات. والقرينة على المعنى أمران:
الأول: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "فلا ظهور إلاَّ بعد الهرج والمرج، والفتنة والفساد".
الثاني: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا فمن ادّعى المشاهدة (أي الظهور) قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر، فكلاهما (السفياني والصيحة) من علامات الظهور. وعلى هذا، لا تعارض أبداً بين التوقيع الشريف وأمثاله مما ورد فيه امتناع المشاهدة وبين هذه الحكايات...".
ولا يخفى أن كلامه عليه الرحمة في غاية المتانة.. باعتبار أن توقيع السمري متكفل بإعلان بدء الغيبة التامة والتنبيه على استمرارها حتى وقوع علامتي السفياني والصيحة، وعليه فالمشاهدة التي ينفيها التوقيع هي المشاهدة التي تتنافى مع الغيبة التامة (أو الثانية) التي هو بصدد إعلان بدئها..
فالمنفي إذاً أمران:
* الأول: أن يدّعي شخص النيابة الخاصة، على غرار ما كان الأمر عليه في الغيبة الصغرى.
* الثاني: أن يدّعي شخص ظهوره عجل الله تعالى فرجه الشريف، وانتهاء الغيبة الكبرى التي لا تنتهي إلاَّ بالسفياني والصيحة.
وكل المشاهدات التي تثبتها قصص اللقاء، لا تنافي ذلك، لأنها قصص عن رؤية الغائب عجل الله تعالى فرجه الشريف.
والنتيجة العملية في نهاية المطاف، كما يلي:
1 ـ يجمع العلماء الأعلام على إمكانية رؤية الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف.
2 ـ إذا استثنينا الشيخ الطوسي، والسيد المرتضى.. اللذين يتحدثان عن "إمكانية الرؤية" فإن سائر العلماء الأعلام يتحدثون عن وقوع الرؤية.. وينقلون قصص اللقاء.
3 ـ إنَّ "توقيع السمري" لا يدل على عدم إمكان الرؤية التي تتضمنها قصص اللقاء.. ولا علاقة له بذلك على الإطلاق، مهما كان تفسير "المشاهدة".
4 ـ أن المشاهدة في التوقيع هي نقيض الغيبة.. وردت كذلك في كتاب الله تعالى في قوله عزّ وجلّ ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه).
وأمام هذه المعطيات.. فما هو المبرر لنفي إمكانية التشرّف برؤية خاتم الأوصياء عليه صلوات الرحمان.. أو الجهل بقصص اللقاء والتعاطي معها باستخفاف.. ونبذها في دائرة الإهمال.. جنباً إلى جنب مع كل قصص القرآن الكريم.. وسائر مفردات "المغيبات"..
"شنشنة أعرفها من أخزم".. وأخزم هنا.. كل أولئك الذين تنكبوا المنهج العقلي السليم.. الذي هو المنهج الغيبي..