تهذيب النفس
كان الكلام في معالم الشخصية الأخلاقية السامية للإمام الخميني قدس سره ومدى مطابقتها لخصائص الإنسان الكامل في الإسلام، وقد تعرض البحث حتى الآن لسبع من الصفات النبيلة هي: العلم، الإيمان، شرح الصدر، البصيرة ويعد النظر، العشق والعرفان، الهجرة والجهاد، تهذيب النفس.
في الحلقة الماضية ذكرت مسألة تهذيب النفس بشكل مجمل ولكن بالنظر إلى أهمية الموضوع كان لا بد من ذكر الشواهد العملية والتفصيلية في هذا المجال، وهنا إليك بعضها:
أ- التقيد بزيّ الطلبة:
على الرغم من أن آثار الاجتهاد والمرجعية كانت واضحة منذ البداية في الإمام، لكنه لم ينس حياة الطلبة النزيهة، وكان لا يعتني بالمظاهر والعناوين المادية، ومصداقاً بارزاً لهذا الحديث عن علي عليه السلام حيث يقول:
"المؤمن عفيف في الغنى، متنزه عن الدنيا" (1).
1- العيش البسيط: يقول أحد تلامذة الإمام:
كان مستوى عيشه وغذائه في مستوى طالب عادي مقتصد، بل أدنى. كنت أعلم أن بعض الأطباء الذين كانوا يتعلقون بالإمام ويعرفونه، كانوا يقولون لنا: أعدوا طعاماً مقوياً لأجل تقوية الإمام، ولكن الإمام لم يكن يقبل"(1).
يقول حجة الإسلام السيد حميد روحاني:
"كان الإمام في الحياة يلبس البسيط، يأكل البسيط، ويترك الغذاء الدسم والفاخر، في النجف، كان ما يحبه من طعام هو الخبز والجبن والجوز"(2).
2- النفور من المدح والشهرة:
يقول أحد أصحاب الإمام:
"بعد وفاة آية اللَّه البروجردي، أقيم مجلس فاتحة باسم الإمام، وعندما دخل الإمام إلى المجلس، أعلن شخص أن هذه الفاتحة مقامة من قبل آية اللَّه العظمى الخميني. فاحضر الإمام ذلك الشخص، وقال له باعتراض شديد: طالما هذا المجلس قائم ومستمر، فليس لديك الحق أن تأتي على ذكر اسمي"(4).
3- البعد عن التشريعات:
يقول حجة الإسلام طاهري خرّم آبادي:
"بعد سنة من رحيل آية اللَّه البروجردي، كنت أريد في أحد الأيام أن آخذ الإمام لرؤية أحد العلماء. وحالما خرجنا من المنزل، جاء اثنان من السادة كي يرافقوه، فقال الإمام: أنتم تفضلوا أنتم تفضلوا! فقد كان يأبى من أن يلتفوا حوله ويصوروه بصورة أحد المراجع"(5).
ب- السيطرة على الغرائز:
المواجهة للميول اللامشروعة والحد من جموح النفس الحيوانية، جهاد أكبر، في هذا المجال، كان الإمام سبَّاقاً أيضاً، فلم تتمكن النفس الأمَّارة أن تؤثر على توجهاته الحكيمة. كان عدم تسليمه أمام الأهواء النفسانية أمراً ناتجاً عن أركان قد أرساها في نفسه، ومن جملتها:
1- طلب اللَّه ومحورية وجوده تعالى، كانت الهدف الأصلي لأعماله، وحياته كانت بلورة عملية لهذه الآية التي تقول:
{قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين}.
يقول أحد طلاب الإمام: "أنا كنت مصراً على إيجاد سر موفقيته (الإمام)، فأدركت أنه في كل أعماله وأفكاره وأحاديثه لم يكن يطلب أكثر من شيء واحد؛ وذاك الشيء كان اللَّه"(6).
2- الميل إلى المعنويات والتوجه نحو الآخرة كانت أموراً تلقي بطلها على كل أعماله، وأمَّا الدنيا فكان يستفيد منها بعنوانها وسيلة لتأمين آخرته؛ وكل من كان يقابل الإمام، كان يشاهد نورانيته؛ يقول أحد أصحابه:
"انتبهت مرة إلى أن مجموعة من الطلاب الجامعيين الفرنسيين كانوا يأتون ليلاً إلى مجلس الإمام، فسألت أحدهم: هل تفهمون ما يقوله؟ فأوضحوا: إننا لا نفهم ما الذي يقوله الإمام، لكن عندما نأتي إلى هنا، ويتحدث الإمام، نشعر بالروحانية في أنفسنا"(7).
يقول حجة الإسلام طاهري:
"لقد كانت نصائح الإمام على الشكل الذي يحرر الإنسان من التعلق بالدنيا وريقها، ويوجه نحو العرفان، والآخرة، ونحو اللَّه تعالى"(8).
ج- محاربة موانع التكامل:
إن طيّ طريق الكمال ونيل المقامات العالية ليسا بالأمر السهل والبسيط، بل هما أمران مهمان وصعبان. وتوجد في هذا الطريق موانع يجب على الإنسان أن يجاهدها، وإلا فلا يصل إلى المقصد. يقول علي عليه السلام بهذا الشأن:
"جاهد شهوتك وغالب غضبك، وخالف سوء عادتك، تزك نفسك"(9).
إن باني الجمهورية الإسلامية، قد رفع جميع الموانع من هذا الطريق، ولم يستسلم لها حتى وصل إلى النبع الزلال للحقيقة فارتوى منه، بعض الموانع هي عبارة عن:
1- التعلقات المادية: عند النظر في حياة الإمام الغنية نجد أن لم يتعلق قلبه بالمال والمنزل، وأسباب العيش، والأهل والولد، والجاه والمقام.. بل كان عاشقاً لله والإسلام، وضحَّى بكل شيء في سبيلهما. يقول حجة الإسلام روحاني بهذا الشأن:
دروس من السيرة الأخلاقية للإمام الخميني قدس سره
"كان الإمام يتحرك مشياً على الأقدام في الذهاب والمجيء. في النجف، كان يمتنع عن اقتناء السيارة، وعن التنقل بواحدة، وعلى الرغم من الحرارة الشديدة في النجف، البالغة 50 درجة مئوية، كان يمتنع عن الذهاب إلى الكوفة وشراء منزل بها. لقد عاش حوالي عشرين سنة في النجف الأشرف، لكنه لم ينم حتى ليلة واحدة في الكوفة"(10).
أحد أصحابه يقول:
"طول المدة التي كان الإمام فيها في النجف، سكن في منزل مستأجر قديم البناء، وكان من البساطة مثل منازل سائر الناس العاديين والطلاب"(11).
ويقول آخر:
"إن حضرة الإمام، ومنذ عودته إلى إيران وحتى الآن، ليس فقط لم يضف أي ملك إلى ملكه الخاص (بيت من الآجر الخام)، بل رفض ترميم ذلك البيت أيضاً"(12).
ويقول حجة الإسلام ناصري:
"ذهبنا مرة للعمل في الحرم الداخلي لمنزل الإمام فتشوقت كي أرى ماذا يوجد في ثلاثة السيد؟ فتحت باب الثلاثة، فرأيته أنه كان فيها صحن جبنة وقطعة من البطيخ فقط"(13).
2- الكسل وطلب الراحة: كانت الحياة النورانية والطيبة للإمام رفيقة السعي والنشاط والجهود المضنية، ولم يكن يتوقف عن العمل والجد للحظة واحدة، بل كان نموذجاً ساطعاً لكلام الإمام الصادق عليه السلام حيث يقول:
"المؤمن له قوة في دين.. وحرص في فقه ونشاط في هدى..."(14).
يقول آية اللَّه مظاهري:
"نُقل عن الشهيد الحاج السيد مصطفى (قوله): "في النجف، كانت إحدى الليالي عاصفة، وكان الخروج من المنزل صعباً جداً، فقلت للإمام: ليس لدى أمير المؤمنين عليه السلام مكان بعيد وقريب، فالزيارة الجامعة التي كنتم تقرأونها في الحرم، إقرأوها هذه الليلة في البيت. فقال الإمام: مصطفى! أريك أن لا تسلبني روح العوام! وتشرّف في نفس تلك الليلة بزيارة الحرم"(15).
يقول حجة الإسلام ناصري:
"في ذلك اليوم الذي أبلغوه فيه نبأ شهادة السيد مصطفى، ظننا أن الإمام لن يذهب إلى صلاة الجماعة، ولكن رأينا أنه ذهب في أول وقتها، ولم يترك مطالعاته، وأما القرآن الذي كان يتلوه كل يوم، فقد تلاه أيضاً كما في الأيام السابقة"(16).
أحد أصحاب الإمام يقول:
"مع كل الابتلاءات السياسية والاجتماعية وسائر المسائل التي كانت في فرنسا، لم يكن حضرة الإمام ينام في الأربع وعشرين ساعة أكثر من أربع ساعات. في الساعة الحادية عشرة كان يتوجه إلى الفراش لأجل الراحة، ويستيقظ من النوم الساعة الثالثة بعد منتصف الليل"(17).
3- تضييع الحقوق والظلم: تضييع حقوق الآخرين والظلم هي من الموانع الأخرى للتكامل، والتي تخطاها الإمام أيضاً بكل توفيق. لقد كانت مواقف الإمام العادلة في المسائل الحكومية، والأمور الاجتماعية بين الطلبة، وحتى داخل اوسرة، مشهورة ومعروفة، ولم تلوث أعماله بالظلم في أي وقت وتحت أي سبب.
يقول آية اللَّه أميني:
"كانت لقاءات مع طلابه جميعاً على نسق واحد، ولم يكن سلوكه ليتفاوت مع البعض منهم، من الذين كانوا يظهرون تعلقاً به، أو يمتلكون سوابق أكير؛ بل حتى لم يكن يفضل طلابه على الطلاب الآخرين"(18).
وبناءً على أن حضرة الإمام لم يكن مرتاحاً في ذلك الطقس العالي الحرارة، والجاف سعى أحد أصحاب الإمام كي يأخذ إجازةً منه فيستأجر له منزلاً في الكوفة، فقال الإمام:
"أيمكنني أن أذهب إلى الكوفة في الوقت الذي تقطن فيه غالبية الشعب الإيراني في الزنازين"(19).
(1) شرح غرر الحكم، ج 2 ص 38.
(2) المذكرات الخاصة عن حياة الإمام الخميني، ج 6، ص 144.
(3) المصدر نفسه، ج 1، ص 105.
(4) المصدر نفسه ج 5، ص 87.
(5) المصدر نفسه ج 5، ص 109.
(6) المذكرات الخاصة، ج 5، ص 32.
(7) المصدر نفسه، ج 1، ص 53.
(8) المصدر نفسه، ج 5، ص 110.
(9) شرح غرر الحكم ج 3، ص 365.
(10) المذكرات الخاصة، ج 1، ص 105.
(11) المصدر نفسه، ج 5، ص 60.
(12) المصدر نفسه، ص 95.
(13) المصدر نفسه، ج 4، ص 133.
(14) أصول الكافي، ج 2. ص 231.
(15) المذكرات الخاصة، ج 5، ص 168.
(16) المصدر نفسه ج 4، ص 125.
(17) المصدر نفسه ص 42.
(18) المذكرات الخاصة، ج 2، ص 108.
(19) المصدر نفسه، ج 5، ص 61.