نسرين إدريس
كنت فتى صغيراً أبحث عن الطيور لألتقطها، إلا أن طائراً ما سجنني في ذكرياته طوال عمري.
لم يكن حر آب يعني لي الكثير. أنا ابن العشر سنوات الحالم بأشياء لم ترها عيناي، الباحث عن شيء لا أعرفه... ولم تضطرني شمسه الحارقة إلى الجلوس قابعاً في المنزل منتظراً أن يلقي العصر ببرودة على أعتاب قريتنا، فكنت منذ الصباح وحتى المساء أسرح في الحقول لأضع مصيدة لعصفور ما، وقضيباً من الدبق لآخر...
لكن شمس نهار الثلاثاء في الثاني من آب رسمت أمامي، وأنا أكشي في قادوميات القرية، ظلي متعباً، وكأنه مل من السير وحيداً كظل يعاتب ظله... وكانت الطيور التي ألاحقها وأئتمنها على سري سرعان ما تطير في الفضاء لتجعل لنفسها سماء وحدوداً ودنيا متجددة، بعيداً عن قضبان القفص الذهبي اللامع على شرفة منزلنا..
وأعيد بهمس في سري: "أريد عصفوراً لم ير مثله أحد من أصدقائي في القرية، أتباهى به أمامهم ويملأ بوجوده وحشة الصمت القابع على شرفتي"، وأسرع خطاي، أركض تارة، وأتهادى طوراً، والهمس في سري يزيد...
الساعة تشير إلى العاشرة صباحاً، والطريق تسير بي نحو الوادي، وأنا غير آبه إلى أين أصل، غير أن عيني تلاحقان العصافير بين خيوط الشمس القوية التي كانت تمنعني من الرؤية بوضوح... وبينما كانت قدماي تشقان دربي، بين الشوك حيناً والعشب الطريق أحياناً، امتدت يد قوية وجذبتني نوها بسرعة أفقدتني توازني، وجعلتني لوهلة غارقاً في عالم مخيف من الأفكار المتضاربة قبل أن أفهم ما الذي جرى....! ووجدت نفسي في مغارة صغيرة بالكاد تتسع لشخص واحد...
كان مدججاً بالسلاح، ووجهه المموه بلون ثيابه الخضراء ألقى في نفسي خوفاً كبيراً.
نظرت بوجل إلى عينيه اللتين لم أعرف لبريقهما أفقاً، وهدأ من روعي صوته العذب الذي تردد صداه في فؤادي، فسكن سكون العصفور بدفء جناحي أمه، وتحولت قبضته القاسية التي يمسك بها يدي إلى لمسة حنو اطمأنت إليها نفسي... وقد لفت ناظري خاتمة ذو الألوان الثلاثة يلمع في إصبع يده التي تمسكني، ثم ما لبث أن أفلتني، وقد جلس على الأرض وهو يتبسم، قائلاً لي بصوت نغمته الاستغراب:
- ماذا تفعل هنا في الوادي أيها الصبي؟!.
خبأت خوفي في نظرة حادة، وأجبته:
- أبحث عن طائر أتباهى به أمام أترابي.
- هنا، في هذا المكان الذي يعرض حياتك للخطر؟!
- لم أكن أقيس المسافات، بل كنت فقط أبحث..
- ما اسمك؟
- بلال، وأنت؟.
- "غريب"...
اقتربت منه، لأجلس بقربه، فرأيت كتيب دعاء صغيراً مع مصحف إلى جانبه، سألته بفضول:
ماذا تفعل هنا يا "غريب"؟
اقتربت منه، لأجلس بقربه، فرأيت كتيب دعاء صغيراً مع مصحف إلى جانبه، سألته بفضول:
ماذا تفعل هنا يا "غريب"؟.
ضحك ضحكة طويلة جعلتني أشعر بأني مغفل جداً لأسأل مثل هذا السؤال، وأجابني:
- اصطاد الغربان....
- الغربان؟!.
وامتدت إصبعه باتجاه موقع إسرائيلي مدشم:
- هناك تطير الغربان، ومع الفجر يأتي طائر الضوء ليقتل ظلامهم، ولينشر نوره على الأرض...
- ألن أراك مرة أخرى؟.
بلى، غداً عند الساعة الثالثة من بعد الظهر، هنا في هذا المكان...
- وهل انتظر طائر الضوء عند الفجر..
أجل يا بلال، دائماً عند الفجر..
مددت يدي الصغيرة وسلمت عليه، فأحسست على الرغم من خشونة يديه برقة غريبة، ونظرت إلى عينيه فوجدت نفسي تائهاً في غموضهما... أدرت ظهري وهممت بالمسير فناداني: "بلال"، استدرت متسائلاً عن سبب مناداته لي، فوجدته يحمل عصبة صفراء كتب عليها "يا قدس إننا قادمون"، وطلب إلي أن ألبسه إياها، فأمسكتها واقتربت من رأسه، عصبته بها، وارتاحت شفتاي على جبهته، موطئ السجود، ونظرت إلى عينيه استودعهما... "غداً نلتقي يا غريب".
مر النهار بطيئاً، وحين أسدل الليل ستائره، وقفت على شباك بيتنا الذي يظهر منه الموقع الإسرائيلي الذي أشار إليه "غريب" في النهار، وكأني تخيلت الليل سرباً من الغربان التي حدثني عنها... "يا له من ليل بهيم"! حدثت نفسي ونظرت إلى الساعة المعلقة على الحائط فوجدتها تشير إلى الثامنة، وضعت رأسي المتعب على وسادتي، ورحت أرسم بذكرياتي وجه "غريب" المموه، وأتذكر بريق عينيه، وعصبة رأسه ويده، وخاتمه، وكتاب دعائه..
استيقظت في الساعة الخامسة فجراً مذعوراً على صوت قنابل وتفجير رصاص.. ركضت إلى الشباك ألقي نظرة إلى الخارج، فرأيت الموقع قد تصاعدت منه ألسنة النار، وكانت الدنيا بين سواد وبياض.. إنه الفجر.. أغمضت عيني وأنا أنظر إلى الموقع، فشعرت بنور يملأ قلبي، نور قادني إلى عيني "غريب"، ولمحت يداً حمراء تحمل بين أصابعها شيئاً يشبه حلمي... دماء ترسم لي غدي...
"إنه طائر الضوء"! همستُ في سري..
وأتاني صوت أمي ينهرني "ابتعد عن الشباك يا بلال وتعالى لنختبئ"، ولكني بقيت واقفاً أرقب الموقع وأشعر بلهيب النار يتصاعد في قلبي، ولم أدر حينها لماذا تمنيت أن يموت الفجر على أكف الليل..
كانت الشمس باهتةً جداً، والنهار يملأ فراغه بساعات الفجر، وقلبي يسابق اللتين تسيران بوهن نحو الوادي.. وصلت إلى المغارة الصغيرة فلم أجد أحداً على الرغم من أن الساعة كانت الثالثة تماماً، جلستُ على أرضها فوجدت خاتم "غريب" ذا الألوان الثلاثة.. حضنته بكفي ورسمتُ حدوده بأنفاسي، وانتظرت طائر الضوء الذي يفرد نوره في عيني "غريب".. انتظرت.. لكن "غريب" لم يأت.. وما إن هممت بالخروج من المغارة، حتى لمحت عيناي شيئاً على الأرض، اقتربتُ.. كان ثمة دماء على التراب..