ذكرى ولادة الزهراء عليها السلام.. يوم المرأة المسلمة
فضيلة الشيخ خليل رزق
تمثل السيدة الزهراء عليها السلام في فكرنا وعقيدتنا القدوة الأسمى والمثال الأعلى للمرأة المسلمة، بل للإنسانية جمعاء؛ فهي التي ارتقت من مهد النبوة وأحضان وأحضان الرسالة إلى أسمى مقامات العصمة والطهارة وأعلى مراتب التقى والكمال كما شهد بذلك التنزيل (آية التطهير) وأقرّ به علماء التفسير والتأويل.
لقد واكبت سلام اللَّه عليها الرسالة من بداياتها فكانت قمة في المواساة والعطاء والجهاد في سبيل اللَّه ورسوله حتى توجها صلى الله عليه وآله وسلم بوسامة الخالد: فاطمة أم أبيها.. وهي بضعة مني وروحي التي بين جنبي.
وبلغت ذروة الجهاد والعطاء في دفاعها المستميت عن الإمامة والولاية حيث أظهرت من القوة والعزم وما خشعت له الصم الصلاب وكانت بحق خير حلقة تربط بين النبوة الخاتمة والإمامة الخالدة، أما العنوان العريض للمواجهة فكان: نحلة فدك.
في هذه المقالة نقدم عرضاً موجزاً يسلّط الضوء على هذه القضية وأهم ما جرى فيها من وقائع وأحداث مؤلمة أرادت الصديقة الزهراء أن تسجلها في بيت أحزانها لتبقى صوتاً صارخاً على مر الأزمان في وجه الظلمَة والطواغيت.
* الزهراء موقفها من الخلافة والميراث
بعد إن انتقل رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم إلى جوار ربه كانت الزهراء قد واكبت كل الأحداث التي حصلت في ذلك الوقت، فرسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يأمر أصحابه بالالتحاق بجيش أسامة فيتخلّف عنه الكثيرون، ويأمرهم أن يأتوه بدواة ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا من بعده أبداً فيقوم أحدهم ليقول: إن رسول اللَّه يهجر، ثم يترك الجميع جسد النبي المبارك من دون تغسيل وتكفين ليجتمعوا في سقيفة بني ساعدة ويختلفوا في أمر الخلافة.
لذلك ونتيجة لهذه الأحداث المؤلمة على قلب الزهراء عليها السلام قامت بإطلاق موقفها الجهادي الأول بعد وفاة أبيها عليها السلام فأرسلت إلى الخليفة الأول تطالبه بميراثها من رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم (فدك) وهذه كانت الخطوة الأولى في الأسلوب الذي انتهجته في مطالبتها بحقوقها لتصل إلى الهدف الحقيقي وهو المطالبة بخلافة الإمام علي عليها السلام التي تراها امتداداً لرسالة أبيها، وحينما طالبت الصديقة الزهراء عليها السلام بفدك لم تطالب بتلك البقعة من أرض الحجاز بل كانت تلك البقعة من الأرض ترمز إلى السلطة التي كانت لأبيها في جميع الشؤون السياسية والماديّة وغيرهما، ولم يكن النزاع على أمر مادي كما يحاول البعض أن يحصره في هذا النطاق.
وفي الحديث عن قصّة فدك نرى أنه من الضروري البحث في جملة من المسائل تبين لنا بوضوح حقيقة هذه القضية وهي:
* أولاً: فدك في القرآن
فقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ فهذه الآية خطاب من اللَّه عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم يأمره أن يؤتي ذا القربى حقه، فمن هم ذوو القربى؟ وما هو حقّهم؟.
ذوو القربى هم أقرباء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمقصود بهم بالتحديد كما ورد في كثير من أحاديث السنّة والشيعة: علي وفاطمة والحسن والحسين عليهما السلام.
وقد ورد عن أبي سعيد الخدري وغيره أنّه لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطى فاطمة فدكاً.
وقد ذكر ذلك الكثير من علماء السنّة منهم الحاكم في تاريخه، والسيوطي في الدرّ المنثور، وابن أبي الحديد.
* ثانياً: ما هي فدك:
ذكر اللغويون بأن فدك قرية بخيبر بينها وبين المدينة يومان، وهي ممّا أفاء اللَّه على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما نزل خيبر وفتح حصونها ولم يبق إلا ثلاثة، ولّما اشتد بهم الحصار أرسلوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يسألونه أن ينزلهم على الجلاء، ففعل ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبلغ هذا الأمر أهل فدك فأرسلوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أن يصالحهم على النصف من ثمارهم وأموالهم، فأجابهم إلى ذلك، فكانت أرض فدك إذاً مما لم يوجف عليه يخيل ولا ركاب،وكانت خالصة لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يفعل بها ما يشاء.
ثالثاً: هل كانت فدك لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أم للمسلمين عامة؟
قال تعالى: {وما أفاء اللَّه على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن اللَّه يسلط رسله على من يشاء واللَّه على كل شيء قدير، ما أفاء اللَّه على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل}.
فقوله تعالى: (أفاء اللَّه) أي رد اللَّه ما كان للمشركين على رسوله بتمليك اللَّه إيّاه منهم.
(فما أوجفتم عليه من خيل..) أوجف خيله أي أزعجه في السير، والركاب هنا الإبل، والمعنى: أنكم لم تستولوا على تلك الأموال بخيولكم، وما ركبتم خيولكم وإبلكم لأجل الاستيلاء عليها، ولكنّ اللَّه يُمكن رسله من عدوهم من غير قتال، فجعل اللَّه أموال بني النضير وهي فدك لرسوله خالصة يفعل بها ما يشاء، وليست من قبيل الغنائم التي توزّع على المقاتلين، وبهذا يتّضح أن فدك ملك خالص لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم.
رابعاً: هل دفع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم فدك إلى ابنته الزهراء عليها السلام هدية في حياته أم لا؟
في الحديث الذي أوردناه عن أبي سعيد الخدري في تفسير قوله تعالى: {وآت ذا القربى} ورد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطى فدك للزهراء عليها السلام عندما نزلت هذه الآية، وللمزيد من الأدلّة، فقد ذكر ابن حجر في الصواعق المُحرقة أن الخليفة الثاني عمر قال: إني أحدّثكم عن هذا الأمر (أي فدك): إن اللَّه خصّ نبيه في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحداً غيره فقال: {ما أفاء اللَّه على رسوله...} فكانت هذه خالصة لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، ومن خلال متابعة بعض الأحداث يظهر لنا أن الزهراء كانت تتصرف بفدك في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا دليل على ملكيتها لها.
هذا إذاً ما يحدِّثنا عنه التاريخ الإسلامي عن قضية فدك، وأنها كانت ملكاً لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم ثم قدّمها لابنته الزهراء عليها السلام وبقيت عندها حتى توفي والدها صلى الله عليه وآله وسلم، فانتزعها أبو بكر بعد استلامه السلطة بعشرة أيام وأصبحت من مصادر المالية العامة وموارد ثروة الدولة وظلّت هذه القضية مثار أخذ ورد، فبعض الحكّام كان حين استلامه الخلافة ينتزع فدك من آل البيت مثل عمر وعثمان ومعاوية وأبو جعفر المنصور، وبعض آخر يرجعها لهم مثل عمر بن عبد العزيز وأبو السفاح والمأمون و...
* أدلة امتلاك الزهراء عليها السلام لفدك
في ما يلي نستعرض الأدلة التي تشير إلى أنّ الزهراء عليها السلام كانت تمتلك فدك قبل أن ينتزعها منها الخليفة الأول وهي:
أولاً: أنها كانت ذات يد، أي كانت متصرفة في فدك، فلا يجوز انتزاع فدك من يدها إلا بالدليل والبيّنة، كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: "البيِّنة على المدّعي، واليمين على من أذكر" وما كان على السيدة فاطمة أن تقيم البيِّنة لأنها كانت ذات اليد.
ثانياً: أنها كانت تملك فدك بالنحلة والعطيّة والهبة من أبيها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم.
ثالثاً: أنها تستحق فدك بالإرث من أبيها صلى الله عليه وآله وسلم.
والواضح أنّ القوم خالفوا هذه الوجوه الثلاثة، فقد طالبوها بالبيِّنة، وطالبوها بالشهود على النحلة، وأنكروا وراثة الأنبياء، ولهذا فإنّ الزهراء عليها السلام عندما طالبت بفدك قدّمت هذه الأدلة على صدق دعواها.
* أسباب المطالبة بفدك
يمكن القول بأن الزهراء عليها السلام الزاهدة عن الدنيا وزخارفها، والتي كانت بمعزل عن مغريات الحياة، ما هو السبب الذي دعاها إلى هذه النهضة وإلى هذا السعي المتواصل في طلب حقوقها؟.
وفي الإجابة عن ذلك نقول:
أولاً إنّ السلطة أرادت من مصادرة فدك تضعيف جانب أهل البيت عليها السلام، فقد أرادوا محاربة الإمام علي عليه السلام اقتصادياً ليبقى فقيراً ولا يلتف الناس حوله، وهذه سياسة المنافقين في حقّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم حين قالوا: "لا تنفقوا على من عند رسول اللَّه حتى ينفضّوا".
ثانياً: أن فدك كانت أرضها كثيرة الإنتاج، ولم تكن أرضاً صغيرة، أو مزرعة متواضعة كما يظن البعض.
ثالثاً: أنّ الزهراء عليها السلام كانت تهدف من وراء المطالبة بفدك، المطالبة بالخلافة والسلطة لزوجها الإمام علي عليها السلام.
لذلك كله نعرف أنه لماذا أصبحت فدك مشكلة حازت أهمية كبرى بنظر المجتمع الإسلامي وأسياده، ولذا أيضاً نرى أنّ حلها يختلف باختلاف سياسة الدولة، ويرتبط باتجاه الخليفة العام نحو أهل البيت عليهم السلام مباشرة. فإذا استقام اتجاهه واعتدل رأيه، ردّ فدك إلى أصحابها، وإذا لم يكن كذلك وقع انتزاع فدك في أوّل القائمة من أعمال ذلك الخليفة.
يبقى أن نفهم السرّ الحقيقي لقول أمير المؤمنين عليها السلام في نهج البلاغة: "بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس قوم آخرين، ونعم الحكم اللَّه...".
فسلام عليك أيتها الصدّيقة الطاهرة وعلى أبيك الذي قال فيك وفي شيعتك عند تسميتك (فاطمة).
"إنها فُطمت وشيعتها عن النار".
* محاججة الإمام علي عليه السلام في فدك:
جاء علي عليه السلام إلى أبي بكر وهو في المسجد وحوله المهاجرون والأنصار، فقال: يا أبا بكر، لم منعت فاطمة ميراثها من رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وقد ملكته في حياة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال أبو بكر: هذا فيء للمسلمين، فإن أقامت شهوداً أن رسول اللَّه جعله لها، وإلا فلا حق لها فيه.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: يا أبا بكر، تحكم فينا بخلاف حكم اللَّه في المسلمين؟ قال: لا، قال: فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه، ثم أدعيت أنا فيه، من تسأل البيّنة؟ قال: إياك أسأل البيّنة، قال: فما بال فاطمة سألتها البيّنة على ما في يديها وقد ملكته في حياة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وبعده، ولم تسأل المسلمين بينة على ما ادّعوه شهوداً كما سألتني على ما أدعيت عليهم؟ فسكت أبو بكر، فقال عمر: يا علي دعنا من كلامك، فإنَّا لا نقوى على حجّتك، فإن أتيت بشهودٍ عدول، وإلا فهو فيء للمسلمين لا حقّ لك ولا لفاطمة فيه.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: يا أبا بكر تقرأ كتاب اللَّه؟ قال: نعم، قال: أخبرني عن قول اللَّه عزَّ وجل: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾.
فيمن نزلت، فينا أم في غيرنا؟ قال: بل فيكم، قال: فلو أنَّ شهوداً شهدوا على فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم بفاحشة، ما كنت صانعاً بها؟ قال: كنت أقيم عليها الحدّ كما أقيمه على نساء المسلمين، قال: إذن كنت عند اللَّه من الكافرين، قال: ولم؟ قال: لأنك رددت شهادة اللَّه لها بالطهارة، وقبلت شهادة الناس عليها، ما رددت حكم اللَّه وحكم رسوله أن جعل لها فدكاً قد قبضته في حياته، ثم قبلت شهادة أعرابي بائل على عقبيه عليها، وأخذت منها فدكاً، وزعمت أنه فيء للمسلمين، وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: "البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه"، فرددت قول رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم.