مدرسة زينب عليها السلام مدرسة الحق والهدى والصبر والثبات والاستقامة على التقى. فهي مدرسة خالدة كلما أخلق عليها الزمان تجددت آفاقها وتجلّت معالمها وبلغت رسالتها كل جيل لتحيي فيهم غراس الحق وأصول الكرامة والإباء، فتجعل منهم قلباً يثأر وضميراً يغلي ودماً ينزف وصوتاً يهتف ملتحماً بصوت سيد الأحرار أبي عبد الله الحسين؛ "ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به وإلى الباطل لا يُتناهى عنه، فليرغب المؤمن في لقاء ربه محقاً، إني لا أرى الموت إلاّ سعادة والعيش مع الظالمين إلاّ برما".
هذه المدرسة التي قائدتها ومعلمتها هي خير النساء، ربيبة الوحي، وسبطه المصطفى، وكريمة المرتضى وبضعة الزهراء وشقيقة الهدى، ولِمَ لا تكون كذلك وهي النور الذي انبثَق من علي وفاطمة فورثت من أبيها شجاعة حيدرية وبلاغة علوية واقتبست من أمها صبراً وقدرة فاطمية، فجمعت إلى جانب الأصل الكريم والحسب الرفيع خصالاً محمدية وفضلاً عظيماً لا يوصف وعلماً غزيراً لا ينصب، لم تكتسبه على أيدي بشر كما قال في حقها الإمام السجاد "عمة أنت عالمة غير معلمة". فجاءت سيرتها تحاكي سيرة العظماء ورمز الأتقياء، وكانت حياتها من حين الولادة إلى الشهادة أنواراً لامعة وأمواجاً مشعّة يستضيء بها المؤمنون في ظلمات الجهل والضياع، فلنتعلم في مدرسة هذه القدوة الكبيرة التي حملت من روح المقاومة والصبر ما عجزت عنه الجبال الرواسي بعظمتها وصلابتها، وضعف عنه الرجال الشداد، ولم يكن له غير قلب زينب الصبور، ولنتحمل مسؤولية ديننا رغم كل الشدائد والمحن كما تحملتها زينب من خلال القيد والأسر.
* وريثة الحق.. وشريكة الثورة
بحق يمكننا أن نقول لولا جهاد زينب وبطولاتها لما بقيت أصداء الثورة الحسينية ولذهبت دماء الشهداء هدراً، وطُويت صفحة كربلاء كما كان يريد لها الأعداء.
فقد جاءت خطة الإمام الحسين لثورته التاريخية خطة متكاملة الأبعاد بعيدة الآثار، فهو كان يعلم جيداً أن هذه الأمة التي أمات ضمائرها ثقل المادة وبريق الذهب والفضة ما كان يوقظها من سباتها العميق غير منطق الدم والشهادة، ولا ينفع معها حينئذٍ خطاب وعظ وإرشاد فهي تحتاج إلى هزة وجدانية عنيفة تخرق مسارب التفكير العام، وليس إلى ذلك طريق إلا طريق الحسين الذي كان ينحصر في الحق المضيّع والجسد المقطّع، لهذا كان يوجز مقاله لمن اعترضه على الخروج إلى كربلاء بالقول: "شار الله أن يراني قتيلاً". وكذلك يحصر القول لمن سأله عن سبب اصطحابه للنساء والأطفال معه بالقول: شار الله أن يراهم سبايا.
فقد كان يعلم حق اليقين أن السياسة الإعلامية حينذاك سوف تخفي معالم ثورته وتطمس آثارها وتزيف هويتها، فاختار امرأة بقوة الجبال في صلابتها وشموخها وهو يعلم مسبقاً بأهليتها وقدرتها على أدائها لهذا الدور وهي التي صقلتها الأحداث والمصائب التي واجهتها منذ صغر سنها حتى جعلت منها زينب الكبرى، فكانت حقاً كبرى في كل أدوارها وبطلة كربلاء في كل حالاتها وسفيرة الحسين وحاملة رسالة دماء الشهداء، ومؤتمنة لأعظم أمانة حملها إياها سيد الشهداء.
* موقف الثكلى... وموقف المسؤولية
كان ليوم عاشوراء وظهيرته الدامية وأحداثه الثقيلة والشهادة المروّعة لسليل النبوة أبي عبد الله الحسين وبقية الصفوة وقع كبير في نفس زينب، فبعد الظهيرة الدامية كانت صحراء كربلاء ذات طابع آخر، فمن جهة كانت الأجساد الطاهرة موزّعة على رمضاء كربلاء، قد رضّتها الخيول بحوافرها وزادها بهاء الدماء المضرّجة عظمة، ومن جهة أخرى كان ذعر النساء وهرولتهن صوب أشلاء شهدائهن وفرارهن على وجوههن في البيداء، كل هذه المصائب الجليلة والأرزاء العظيمة لم تكن لها غير زينب.
ولكن.. هل بقيت زينب تجول بين تلك المصائب فقط؟ أم كانت لها مهمة خطيرة أخرى.
نعم كان عليها أن تكمل المسيرة الثورية التي ابتدأها أخوها سيد الشهداء بإراقة دمه، فجمعت هنا عقيلة الطالبين بين موقف الثكلى وموقف المسؤولية، وما أصعبهما وأشدّهما إذا اقترنا، لذا نراها كانت تنتظر اللحظة المناسبة لتفجر فيها الموقف وتقول كلمة الحق.
حملت راية الجهاد وكفكفت دموعها وحبست عبراتها، وتحرّكت بقوة أبيها الذي أرهب الأعداء في ساحات الوغى، وتسلحت بصبر أخيها الذي جابه الموت بعزم وثبات وشقّت الصفوف التي اجتمعت على جسد أخيها الحسين عليه السلام واقتربت من الجسد ورمقت السماء بخشوع وقالت: اللهم تقبّل منّا هذا القربان. وقفلت راجعة صوب الخيام.
فبقيت هذه الكلمة التاريخية رسالة لكل شهيد ومسؤولية على عاتق كل امرأة تقدم شهيداً على مذبح الحرية والعقيد.
* دروس عظيمة
إن مسيرة السبي والأسر التي تجشمت أعباءها وتحمّلت أثقالها حرائر بيت الوحي والنبوة وما تخللتها من أحداث كبيرة تعتبر دروساً لنا نستفيدها في قابل أيامنا وحاضرها، فقد علّمتنا عقيلة بني هاشم:
1- أن دعاة الحق وحملة راياته لا ينهزمون أبداً، ولن تنثني عزائمهم ولن تقل قواهم في نصرة الحق.
2- أن للمرأة دوراً كبيراً في كل ثورة، بل ولها نصف الثورة في كل زمان وفي كل مكان، فأينما كانت جبهة الصراع بين الحق والباطل ومتى ما خرج الحق عن مقره وغلب الباطل على أهله، يستلزم للمؤمنة أن تنهض وتقوم. وقد أدّت بنات الوحي وحرائر الرسالة هذا الدور وهنّ في أحلك الظروف وأشد حالات السبي والأسر وتحملّن كل شيء في سبيل الحق.
3- أن الإمام الحسين حينما دفع أخته العقيلة الحوراء إلى ساحة المعركة لتحمل هذا الموقف العصيب وأداء رسالة الشهداء أراد بذلك أن يضرب بها مثلاً للمرأة المسلمة- حيث زينب عليها السلام أسوتها وقدوتها- لتتخطى العقيدة والمبدأ تتحمّل مسؤوليتها تجاه دينها مهما كان الثمن.