ك. ز.
ـ يقع المرء في حيرة من أمره إذا أراد التكلم أو الكتابة عن الزهراء عليها السلام وحيرته تكون ذات وجهين، الأول: عن أي شيء يكتب، عن مكانتها أم عن علمها أم طهارتها أم مظلوميتها أم عن الجوانب الغيبية في حياتها؟!.
والوجه الآخر: ماذا يكتب؟ فكل ما يكتبه يكاد يكون لا شيء أمام الواقع، بل هو فعلاً لا شيء أمام حقيقة الزهراء عليها السلام وواقعها..
فقد روي عن مولانا الصادق عليه السلام أن السيدة الزهراء عليها السلام كانت تحدث أمها وهي في بطنها..
وقد تستوقف هذه الرواية بعض الناس للوهلة الأولى لكن أدنى تأمّل يبيّن لنا واقعية وحقيقة هذا الأمر.
بداية، لا بد أن نعطي بعض الشواهد والأمثلة التي نعيشها فعلياً كمقدمة:
1- قبل أقل من سنتين جاؤوا بالطفل محمد حسين طباطبائي إلى لبنان وإلى مسجد الإمام الرضا عليه السلام في بئر العبد وقد رآه الناس في كثب...
هذا الطفل النابغة الذي لم يتجاوز حينها الخمس سنوات قد منحته جامعات تحترم نفسها شهادة دكتوراه وقد حاضر قبل مدة يسيرة في تفسير القرآن بمستوى عالٍ جداً..
والطفل الماليزي أيضاً الذي تحدّثت عنه الصحف، يخطب خطبة الجمعة ولم يتجاوز الأربع سنوات، وآخر نابغة في الرياضيات يحل أعقد المسائل الرياضية بسرعة مذهلة ومعهم شهادات دكتوراه وهم بالفعل نوابع من أنهم ليسوا من الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة بل هم أناس عاديون، وأولادهم أناس عاديون لا ندري مدى التزامهم الديني ولا نعرف عن دقتهم في اجتناب الشبهات والالتزام بتطبيق أحكام الشريعة، فحياتهم ليست كحياة الأنبياء والأئمة الذين لم يدخل إلى جوفهم نجس ولم تنجسهم الجاهلية بأنجاسها (أشهد أنك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة لم تنجّسك الجاهلية بأنجاسها ولم تلبسك من مدلهمات ثيابها)....
إن أمثال هؤلاء النوابغ هم أناس فوق مستوى عصرهم وأكبر من المحيط الذي هم فيه (محيط الطفولة) بحيث هو بذلك العمر الطفولي بمستوى بروفيسور أو دكتور...
فلماذا نستغرب إذاً، إذا قيل إن الإمام الجواد عليها السلام كان إماماً وعمره ست سنوات، وهو فوق مستوى محيطه وعصره كله ويهيمن ويشرف عليه في مدركاته وعلمه الإلهي الخالص وفي نفسه الطاهرة وروحه الطيبة التي استشرق بها الكون والخليقة فاستحق أن يكون إماماً وهادياً وحاكماً ومتصرفاً...
وشاهد آخر هو كلام أمير المؤمنين عليها السلام: لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً، فالآخرة بالنسبة لنا تعد عالماً آخر ونحن محجوبون تخيلاً، لكن الآخرة بالنسبة لأمير المؤمنين عليها السلام ليست محض تصورات وتخيلات، وإنما هي يقين، فهو إذن مشرف ومهيمن على حياتنا الدنيا هذه ومهيمن أيضاً على الحياة الآخرة ومشرف عليها إشراف العارف المتيقن حتى أنه لو كشف له الغطاء ما ازداد يقيناً ومعنى هذا أنه أكبر من محيطه...
والأمر بالنسبة للزهراء عليها السلام من هذا القبيل، فإن معنى أنها كانت تحدّث أمها وهي في بطنها أنها هي الأخرى كانت أكبر من محيطها الذي تعيش فيه، وذلك لأن الإنسان يكون جنيناً ومحيطه جنيني، لكنه أحياناً يكون أكبر من محيطه فيطلع إطلاعاً دقيقاً وصحيحاً على ما هو خارج الحياة الجنينية، ومما يدل على ذلك أنه عندما يولد الجنين لا يستطيع العيش بدون رعاية تجعله يعتاد ويألف ويتعرف وينمو ليملك القدرات التي تمكّنه تدريجياً من الانسجام مع حياة ما بعد الجنين التي هي أرقى من الحياة الجنينية.
ولكن مع ذلك قد تجد أناساً أكبر من محيطهم الجنيني ويكون قادراً على التعاطي مع الحياة الأرقى تعاطياً عادياً بل يكون مشرفاً ومطلّعاً إطلاعاً دقيقاً كما هو الحال بالنسبة للسيدة الزهراء عليها السلام إذا أنها وهي جنين فوق مستوى محيطها وهي تتعداه وتشرف على الحياة الدنيا وما بعد الدنيا حتى لو كشف لها الغطاء وما ازدادت يقيناً..
كما أن القرآن قد تحدّث عن زكريا عليه السلام فقال:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا﴾ وقال عن عيسى عليه السلام ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً﴾، فعيسى عليه السلام نبي منذ ولادته آتاه الله الكتاب والحكمة والنبوة فكان أكبر من محيطه بكثير...
وهذا معنى أن الزهراء كانت تحدث أمها وهي في بطنها فقد كانت عليها السلام فوق مستوى الحياة الجنينية، بل هي فوق مستوى الحياة الدنيا وأوسع من ذلك، هي مثل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي عليها السلام والإمام الجواد والهادي والمهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف وسائر أهل بيت النبوة والعصمة...