الشجاعة من الفضائل الهامة والغرائز الشريفة التي يضعها الله تعالى فيمن أحبه وامتحنه، وقد جعلها مورد محبته وعنايته الخاصة حيث قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيم﴾ٌ(المائدة/ 54)، وقال أيضًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ ﴾ (الصف/4)، وجعل الله الشجاعة من صفات المؤمنين حيث يقول الباري عز وجل: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ (الفتح/29).
في الآيات المذكورة تأكيد على وجود الشجاعة في قلوب المؤمنين، وهذه الشجاعة لا تكون إلا ضد الكفار ولا تكون إلا رحمة على المؤمنين والمسلمين فهي سلاح ضد الكفر والكافرين.
والشجاعة هي قوة القلب، والشجاعة مطلوبة سواء بمرتبة ضعيفة أو شديدة، والشديدة أفضل ومطلوبة أكثر، ولا يتصور أن فيها إفراطًا أو تفريطًا، فما قيل إن تفريطها هو الجبن وهو من الرذائل فهذا الأمر ليس بسديد، لأن التهور ليس إفراط الشجاعة، وإن الجبن عدم قوة القلب بل إن استعمال الشجاعة فيه نظر، فمن استعمل قوة قلبه في غير محلها وفي المورد الذي لم يقره العقلاء يقال له التهور، كمن جعل نفسه في معرض التهلكة، وكمن يدنو إلى الأسد أو إلى العدو من غير سلاح وبلا داعٍ عقلائي أو شرعي حيث قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُون﴾َ (البقرة/ 159)، فالتهور من الأفعال المذمومة لا من الصفات الرذيلة، فهو من القبائح العقلية والمحرمات الشرعية لا من الرذائل الأخلاقية. كما إن الجبن بمعنى ضعف القلب، فمن هو ليس شجاعًا ليس له قوة قلب يقال له جبان، فليس بأمر وجودي حتى يقال إنه من الأفعال أو الصفات أو يقال انه تفريط الشجاعة.
ومن كان جبانًا فهو محروم من كثير من النعم ويصيبه كثير من النقم، فلو لم يحرمه جبنه إلا من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكفاه أن يقال إنه محروم من السعادات الأبدية، عدا عن الأمور الدنيوية من عدم الثبات والعار والفضائح.
* وللشجاعة مراتب
أولها: الغلبة على العدو في المعركة أو غيرها أو الغلبة في البحث، وأشار إلى هذه المرتبة بقوله تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾(البقرة /247).
ثانيها: الغلبة على النفس الأمارة والهوى والغلبة في هذا الميدان لا تمكن إلا بفضل الله ورحمته.
﴿وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾(يوسف/53)، فالقرآن والروايات والتجربة والتاريخ شاهدون على أن الإنسان مغلوب إلا ما رحم الله.
الثالثة: وهي الغلبة على الصفات الرذيلة ولا سيما قلعها من نفسه وغرس الفضائل في النفس، ولا يمكن لأحد إلا برحمته وفضله، قال الله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدًا ولكن الله يزكي من يشاء).
والشجاعة في أسخى الناس، ومن غلب الجهل بالعلم، واللبيب، ومن له سلطان على نفسه، والبريء.