* مولده ونشأته:
في وسط عائلة علمية، تعيق أجواؤها بعبير الإيمان أبصر شهيدنا الغالي النور في أصفهان عام 1928م.
وبتوجيه من والده ـ الذي كان إمام جماعة لإحدى القرى الواقعة في أطراف المدينة ـ بدأ الشهيد دراسته بتعلم القرآن، وهو لم يزل ابن الرابعة.
بعدما أنهى دراسته الابتدائية داخل المدرسة المتوسطة، وفي السنة الثانية من دراسته فيها انتقل إلى مدرسة الصدر الدينية في أصفهان، وبقي لمدة أربع سنوات ـ أي حتى سنة 1946 ـ يدرس القواعد العربية والمنطق والفقه والأصول.
وفي تلك الأثناء كان يشق طريقه في الحياة بنجاح وعصامية رغم مصاعب الحال الاجتماعية التي كان يتعامل معها بصبر وإصرار.
* الهجرة إلى قم المقدسة:
في عام 1946م شد الشهيد رحاله إلى مدينة قم المقدسة ليواصل دراسته في حوزتها العلمية، وليتلقى العلم على يد أساطين الحوزة وفي مقدمتهم آية الله العظمى السيد حسين البروجردي، والإمام الخميني "رضوان الله عليهما".
ولما عرف عنه من همة عالية، لم يكتف الشهيد بهشتي بدراسته في الحوزة العلمية، بل راح في الوقت نفسه، يواكب دراسته الثانوية وبعد إكماله الفرع الأدبي واصل دراسته الجامعية في كلية الإلهيات بجامعة طهران، والتي حصل فيها على الليسانس.
ويبدو أن دراسته في الحوزة قد استهوته كثيراً، ففي أول فرصة سنحت له، بعد إنهاء دراسته الجامعية عاد إلى مدينة قم مدرساً للغة الإنجليزية في إحدى مدارسها الثانوية، إلى جانب مواصلته الدراسة في حوزة قم العلمية.
في عام 1952م اقترن الشهيد بهشتي بفتاة من عائلة علمية أنجبت له بنتين وولدين.
وحينما تأسست أول ثانوية إسلامية في قم عام 1954م أنيطت مسؤولية إدارتها بالدكتور بهشتي، لما عرف عنه من مقدرة إدارية وفكرية فذة، فيما بقي يواصل دراساته العليا في الحوزة حتى وصل في النهاية إلى مرحلة الاجتهاد.
في الفترة المحصورة بين عامي 1956 ـ 1958م كان الشهيد يدرس مرحلة الدكتوراه في الفلسفة في كلية الإلهيات بطهران وكان تفوقه العلمي ملموساً.
في عام 1965م أوفد الشهيد السعيد إلى "هامبورغ" في ألمانيا الغربية، ليتولى مسؤولية إمامة مسجدها والقيام بالتبليغ خارج البلاد، خاصة في أوروبا.
وخلال مدة وجوده في ألمانيا، عقد الشهيد بهشتي مؤتمرات عديدة، في الجامعات والكنائس والمجامع الأخرى، وخلال تلك الفترة تشرّف بزيارة مكة المكرمة للحج، كما زار سوريا ولبنان وتركيا.
في عام 1970 سافر إلى العراق واجتمع هناك بالإمام الخميني رضوان الله عليهما، وذلك في مهمة تتعلق بتنسيق العمل المضاد للشاه خارج البلاد.
وبعد عودة الشهيد بهشتي إلى طهران قام النظام بمنعه من الذهاب إلى قم، بغية إيقاف نشاطه والعمل على حدِّه في الخارج في ما بعد.
غير أن الشهيد بهشتي واصل جهاده المرير وصب جهوده على إيجاد عدة مراكز لأعماله التنظيمية، وخاصة في أوساط العلماء، ليتابع على الصعيد نفسه كفاحه الفكري والثقافي في إيران مع الجماعات السرية المناضلة، وفي النهاية وخصوصاً منذ عام 1973 ضمن مشاركته الفعَّالة في الكفاح العام، تحمّل مسؤوليات كبرى من أجل دفع عجلة الثورة إلى الأمام وانتصارها.
وفي مستهل انتصار الثورة وتشكيل مجلس قيادة الثورة من جانب إمام الأمة عهد إلى الشهيد الراحل عضوية هذا المجلس وكان لفترة سكرتير هذا المجلس ورئيسه.
ولعب الشهيد دوراً خطيراً في كل مراحل الثورة الإسلامية سواء قبل الانتصار أو بعده، حتى عدَّه الكثير من المراقبين بأنه "رجل إيران القوي" ورشحته العديد من أجهزة الرصد إلى موقع خليفة الإمام الخميني "قدس الله سره".
ولم يقتصر نشاطه المتعدد على موقع معين، فلقد كان يحق مهندس الثورة الإسلامية، قاتل في أكثر من خندق وعلى أكثر من صعيد. سواء في الحزب الجمهوري وهو أمينه العام ومؤسسة الأول، أو في مجلس الخبراء وهو مساعد الرئيس أو في المحكمة العليا للبلاد وهو رئيسها.
وفي كل هذه المسؤوليات الحسام الملقاة على عاتقه كان صامداً مقاوماً فارساً عنيداً لا تلين له عريكة سواء في أدائه لمهماته الخطيرة مع تعددها أو في مقابلته المناهضي الثورة حتى لحظة استشهاده، وقد أدى رسالته بأهلية ولياقة من أجل إقامة الجمهورية الإسلامية، وضحّى بنفسه في سبيلها حتى الرمق الأخير...
* لمحة عن ظروف وخلفيات الاستشهاد:
كان الشهيد بهشتي مع إخوانه في الحزب الجمهوري والمؤسسة الدينية يتحركون بهدوء لتطويق ظاهرة الانحراف وتضييق نسبة الخسائر، وقد تحمّل الشهيد بهشتي دوراً كبيراً في هذه المعركة مستفيداً من حنكته السياسية ووعيه الخارق وشخصيته القوية، وقد اعتمد الشهيد بهشتي استراتيجية بالغة الدقة والذكاء وخصوصاً بعدما أصبح بني صدر خطراً جدياً وحقيقياً على الثورة، حيث اتبع أسلوب المواجهة غير المباشرة ومارس تكتيكاً مرناً وطويل النفس ضده.
ودخلت المعركة مرحلة جديدة سجلت فوزاً للخط الإسلامي الذي يتزعمه بهشتي وانتكاسة وضربة عنيفة لبني صدر.
بهشتي ـ وهو الذي لم يتوان بني صدر عن إلصاق أي تهمة به، حتى وصف بالشهيد المظلوم وقف في وقت وصلت فيه الأزمة أوجها ليصرح علناً بأن الخلافات بينه وبين بني صدر ليست خلافات شخصية بل إن لها جذوراً عميقة.
أمام هذا التحدي الكبير، وهذا الدور الحساس الذي تحمله بهشتي ما كان متوقعاً أن يلاقي هذا العظيم مصيراً غير الذي لاقاه وهو الذي كسر شوكة الرجل المغرور "بني صدر" وأفقد الدوائر الغربية ورقة مربحة جداً.
وصدر قرار التصفية والانتقام الرهيب ليسقط الرجل شامخاً في معبده ـ الحزب الجمهوري الإسلامي في مثل هذا الشهر في 28 ـ 6 ـ 1981، حيث كان موعده مع الشهادة ليدخل التاريخ من أوسع أبوابه بعدما سجّل فصولاً لامعة منه في حياته.
* اللحظات الأخيرة:
كانت الأحداث تجري بسرعة مذهلة، فإضافة إلى أجواء الحرب على الجبهات، كانت الجبهة الداخلية تعيش سخونة من نوع آخر وبشكل متلاحق، فخلال أسبوع واحد كانت الحصيلة، السيد خامنئي يتعرّض إلى محاولة اغتيال، استشهاد الدكتور جمران، تنحية بني صدر عن رئاسة الجمهورية..
الحزب الجمهوري الإسلامي عقد اجتماعاً اعتيادياً للجنة المركزية في مقر الحزب، ظهر يوم الأحد (28 ـ حزيران) لمناقشة بعض القضايا المهمة وانتهى عند الغروب، وكان هناك اجتماع آخر بعد صلاة المغرب في المكان ذاته وبحضور عدد من النواب والوزراء والمدراء العامين ومن مسؤولي السلطتين التنفيذية والقضائية للبلاد ومن هم أعضاء أو متعاطفون مع الحزب حيث تطرح مواضيع عامة وكان الجميع يعرفون أن الشخصيات البارزة والمؤثرة في خط الإمام "قده" تحضر هذا الاجتماع، كما يقول الشيخ رفسنجاني.
"الشهداء الأحياء" الذين نجوا من الموت بأعجوبة يتذكرون أنهم شاهدوا فجأة لهيباً مصحوباً بصوت مهيب انطلق من تحت المنصة التي كان يجلس عليها الشهيد فانهار السقف على الفور ورمى بكل ثقله عليهم وبدأت عبارات "لا إله إلا الله محمد رسول الله".
و"الله أكبر" وما شاكلها من الأذكار تتردد من تحت السقف.
عن تلك اللحظات الأخيرة يقول الشيخ رفسنجاني: (أما ما يؤلمني جداً فهو أن أياً من الذين نجوا من الحادث لم يبق في ذهنه أثر عن الشهيد المظلوم بهشتي في تلك الحالة. والسبب هو أن الذين بقوا على قيد الحياة كانوا بعيدين عن المنصة الرئيسية، ما استطعت أن أستله من ذاكرتهم هو فقط أن الشهيد بهشتي كان جالساً في وسط الصالة من ضمن المستمعين، ولم يكن مقرراً أن يتحدث هو ولكن لأهمية الموضوع ونتيجة لاقتراح الحاضرين وكتابته في جدول الأعمال قام الشهيد وسار نحو المكان الذي وضعت فيه القنبلة ولم يمض على بدئه في الحديث خمس دقائق حتى حدث ما حدث).
لقد عاش الشهيد بهشتي مظلوماً ومات مظلوماً وكان بحق مظلوماً وكان بحق شوكة في عيون أعداء الإسلام وفي عيون المنافقين، كما يصفه الإمام الخميني "رضوان الله عليهما" بقوله أيضاً:
"إنني ربيت الشهيد بهشتي"، و"الشهيد بهشتي كان أمة في رجل".
لقد كان (رحمه الله) مصداقاً للآية الكريمة التي تصف قوماً من المؤمنين الذين {يحبهم الله ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم}.
صدق الله العلي العظيم
وهذه النهاية لا تليق إلا ببهشتي وأمثاله... ألم تكن الشهادة معراج العظماء من صنَّاع التاريخ... وأليس القتل لهم عادة وكرامتهم من الله الشهادة.