أميمة محسن عليق
"أيتها الأرض... أيتها الأرض... أجيبيني".
التفتت شجرة الصفاف الحزينة إلى السماء ترقب بدهشة سر هذا النداء الغريب.
تابعت السماء بلهفة: "أيتها الأرض العزيزية أوصيك خيراً بهذا الجسد الطاهر الذي ضممته اليوم... إنه شهيدي الحبيب اهتمي به ولا تنسيه من عطفك، كوني رحيمةً به... وابعثي داخله الدفء... أرجوكِ أيتها الأرض"...
ابتسمت الأرض برفقٍ وطمأنينة، أجابت بثقة الأم الحنون: "أفهم اهتمامك أيتها السماء بهذا الجسد الطاهر... ولكن... هل نسيتي أنني أرعاه منذ طفولته إنه أحمد... الذي ومنذ عشرين سنة تلقيته براحتي حين وقع وهو يحاول المشي لأول مرة بفرحٍ وغبطة... إنه طفلي الصغير الذي ركض فوق طرقاتي بكل طيبةٍ وروعة... لا أنساه حين انطلق بكل حماسٍ يسابق الريح كي يلتقط نجومكِ أيتها السماء...
كيف أنسَاه... ذلك الفتى الرائع ذو الذكاء الوقَّاد الذي يحيل السكون نشاطاً وحماساً وحياة...
ها هوذا يشب بين أحضان أشجاري وطرقاتي وبيوتي الساكنة... ما زلتُ أذكر كيف بدأ يحفر لأسراره في ترابي ويرسم أحلامه فوق أنهاري وفوق صخوري، كان يفيض حناناً يحمي الأعشاب والزهور، يغني مع الطيور والنسمات...
كتب اسمه فوق الجبال الهرمة واستأنس ظناً أن اسمه لن تمحوه الرياح...
لا زلت أذكر... حين داس الصهاينة اللئام ترابي المقدّس، ثارَ أحمد رغم صِغَر سنه... هاهو رنين صوته أسمعه بوضوح: "لن أترك هذه الأرض، لن أترك بيتنا يا أبي... إنه لنا... وهذه أرضنا...".
ما زال قلبي ينبض بقوَّةٍ حين ترتسم صورة أحمد ورفاقه يؤدون القسمَ بروح الفخر والعزةِ: "فقسماً بالمهدي... وبروح الله...
بالسيد عباس... بشهيد الله...
إنا على العهد... يا نصر الله..."
هاهو أحمد يقاتل شوقاً للنصر الأكيد، يرنو بكل عشقٍ إلى الشهادة...
لا يخشى صولة الجائر ويسقط الرعب في أفئدة اليهود...
يتقدم بكل عزم على طريق الجهاد راسماً المجد للأجيال القادمة..
لا أنساه حين جاء لوداع أمه ميمِّماً وجهه شطر صافي...
"أسألك الدعاء لي بالشهادة حتى تنظر إلينا الزهراء (عليها السلام) بعين الرأفة:
عندها جال بنظره للمرَّة الأخيرة فوق سهولي وجبالي وبيوتي.
ما زلت أشعر بدغدغة جبينه حين سجد للمرَّة الأخيرة فوق حجرٍ صغير يناجي الله بكل حبٍ ورجاءٍ وأمل.
أو تأتين أيتها السَّماء لتوصيني بمن أحب كالأوصياء والأنبياء...
فحناني له وكل دفئي له...
...سأرسل زفرات روحه إلى كل الأرجاء حتى يعلم الناس أي قديسٍ أضم...
ألا تعلمين إن جسده زادني قدسيةً... وجعلني أفخر بالشهداء الذين يرقدون بسلام بين حناياي"...
أعرف أيتها الأرض حبك للشهداء... وحنانك... لكنني افتقدت وجه أحمد النوراني... يرسل رؤياه إليَّ... يدعو الله وينظر إلى نجومي ليلاً وإلى آفاقي فجراً...
حاولت الأرض الكلام لكن السماء قاطعتها...
أعرف أن روحه جاءت إليَّ... ترفرف طليقةً حرةً عزيزة في كل الأنحاء...
أعذريني أيتها الأرض العزيزة... ولكنني اشتقت إليه... سوف أعاود سؤالي عن صغيري كل مساء... حين ترجع كل الكائنات إلى أحضان الدفء...
صمتت الأرض والسماء وكأنهما تؤديان التحية الجليلة لروح أحمد الطاهرة...
تنهَّدت الصفصافة... وفي قلبها لومٌ وعتاب للأرض والسماء لتجاهلهما وقوفها لتظلل تراب أحمد بكل حبٍّ وصبرٍ وقوة...
سامحتهما... وعادت بعدها إلى سكونها وحزنها... وصمتها المعهود.