الهجرة إلى المدينة المنورة وجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه أمام ثلاثِ طوائفَ من السكان القاطنين في المدينة.
الطائفة الأولى: المهاجرون الذين ضحّوا بوطنهم وأموالهم وتجارتهم وعلاقاتهم طلباً للحرية وحرصاً على عقيدتهم والتزامهم الديني. فهاجروا من مكة إلى المدينة فرادى وجماعات قبلَ وبعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الطائفة الثانية: الأنصار وهم الذين أحبُّوا رسول الله ونصروه واتبعوا النور الذي أُنزل معه وهؤلاء كانوا من قبيلتي الأوس والخزرج سكان المدينة الأصليين.
الطائفة الثالثة: اليهود الذين طالما أشعلوا نار الفتنة والحرب بين الأوس والخزرج وتآمروا على الإسلام والمسلمين.
هذه الطوائف الثلاث كانتا تعيش في المدينة عندما هاجر النبي إليها، وكانت هناك مشكلات فيما بينها، فمن جهةٍ: كان هناك تفاوت اجتماعي وثقافي ونفسي ومعيشي بين المهاجرين والأنصار، وكان من المتوقع نتيجة هذا التفاوت حصول تناقضات في العلاقات بين الطَرفين فكان لا بُدَّ من إيجاد صيغة تنظّم العلاقة بينهما للتغلُّب على التناقضات المحتملة والمتوقّعة، ومن جهة أخرى: كانت العلاقات بين الأوس والخزرج من جانبٍ وقبائل الأوس فيما بينها وقبائل الخزرج فيما بينها من جانبٍ وبين هؤلاء جميعاً واليهود من جانبٍ ثالث، كانت العلاقات علاقات حرب وعداء لا تزال مفاعيلها في السلوك والممارسات ظاهرةً وواضحة. بل لقد انعكست هذه العلاقات المتوترةُ والعدائيةُ بين الأوس والخزرج من جهةٍ وبينها وبين اليهود من جهة أخرى، على التوزيع السكاني لهذه الجماعات بحيثُ كانت كلُّ مجموعة من هذه العشائر تسكُنُ في مجمّعٍ سكني خاصّ بها، وكانت المجمعاتُ السكنيَّة متباعدةً بعضها عن بعض. وكان الوضع الأمني لهذه الجماعات مقلقاً ومهزوزاً وغير مستقر. وهذا الأمر دفع بهذه الجماعات إلى أن تبني في مجمعاتها السكنية المنفصلة ما يُشبه الحصونَ العسكرية الدفاعية سمّوها (الآطام) بحيثُ يمكن اعتبارُ المدينة المنورة آنذاك مجموعة تُرى يسود علاقاتها التوترُ والتربصُ أكثر من اعتبارها بلداً مستقراً ذا مجتمعٍ متجانسٍ ومتعاون ـ وهذه مشكلة كان لا بُدَّ لها من حلّ.
هذه المشكلة مشكلةُ العلاقة فيما بين طوائف وسكان المدينة هي مشكلة مهمَّة وخطيرةٌ واجهت النبيّ في الوقت الذي كان يسعى فيه لتنظيم المجتمع الإسلامي السياسي وبناء الدولة الإسلامية، فماذا فعل النبيُّ لمعالجة هذه المشكلة؟
الواقع أن النبي عالج هذه المشكلة بخطوةٍ بارعةٍ وسياسة حكيمةٍ، ففي السنة الأولى للهجرة وبعد المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وقبل حصول معركة بدرٍ وضع النبي وثيقةً سياسيةً هامةً سُمّيت (الصحيفة) كتبها النبيُّ بين المسلمين المهاجرين والأنصار وبينهم وبين اليهود، أي بين الطوائف الثلاث التي كانت تعيشُ في المدينة آنذاك، وقد تضمّنت هذه الوثيقةُ قواعد كليةً وأُسساً عمليةً لتنظيم العلاقة بين المسلمين أنفسهم أي بين المهاجرين والأنصر من جهةٍ وبين المسلمين واليهود من جهةٍ أخرى، باعتبار أن الجميع يمثّلون مجتمعاً سياسياً واحداً متنوّعاً في انتمائه الديني.
وهذه الوثيقة تعتبرُ بمثابة دستور عمل تضمّن أُسس العلاقة بين طوائف المجتمع، وحُدّدت فيه الحقوقُ والواجباتُ لكلّ الأطراف، كما حُدّدت فيه حقوقُ وواجبات كل طرفٍ تجاه الآخر.
ونحن هنا نعرض أهم ما تضمّنته هذه الوثيقةُ من بنود بشكلٍ إجماليٍ ومختصر:
أولاً: قررت هذه الوثيقة أن المسلمين أمةٌ واحدةٌ، برغم اختلاف قبائلهم وطبقاتهم وانتماءاتهم، وتفاوت مستوياتهم، وبرغم اختلاف أوضاعهم الاجتماعية والمعيشية.
ثانياً: نصّت الصحيفةُ على أن النبي هو قائدُ هذه الأمة ورئيسُ الدولة والشخصُ الوحيدُ الذي يمثّلُ المرجعية العُليا. فهو المرجع في كل الخلافات التي تقعُ في صدورِ الدولةِ الإسلامية سواءٌ كانت شخصيةً أم عامَّة، وهو المرجعُ في كل الحوادث الأمنية التي تحدث بين المسلمين أو بينهم وبين اليهود.
كما قرّرت الوثيقة بشكل صريحٍ أنَّ مركز السلطة في المدينة هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو صاحبُ القرار في السماح أو المنعِ من تنقل الأشخاص والجماعات إلى خارج المدينة، فقد قررت الوثيقة أنه لايسمح لأحدٍ من اليهود بالخروج من المدينة إلاَّ بإذن رسول الله، ولعلَّ هذا القرار قد أُتخذ من أجل أن لا يُفسح المجال أمام اليهود لممارسة دون الإفساد والجاسوسية من الداخل لمصلحة الأعداء في الخارج.
ثالثاً: قرّرتِ الوثيقة أيضاً: أنَّ مسؤولية دفع الظلم والبغي والعدوان تقعُ على عاتق الجميع ولا تختص بمن وقع عليه الظُلم.كما قرّرت الوثيقةُ أنَّ على جميع المؤمنين أن يلاحقوا القاتل أيّاً كان ومهما كان موقعُه. وهذا يعني إلْغاء الاعتبارات القبلية التي كانت توجِبُ على القبيلة الانتصار لأبنائها حتى ولو كانوا المعتدين على غيرهم.
رابعاً: حمّلت الصحيفة جميع الطوائف والقبائل المسؤولية تجاه أسيرها فالمهاجرون مسؤولون عن فداء أسراهم، وجميع القبائل والطوائف الأخرى مسؤولة عن فداء أسراها أيضاً بالقسط والمعروف.
خامساً: منحت الوثيقة اليهود الحقوق المدنية العامّة، وضمنت لهم الأمن والحرية، حرية العقيدة والرأي والحرية الشخصيَّة. ومنحتهم صفة المواطن الذي يتمتعُ بجميع حقوق المواطنين بشرط أن يلتزموا بقوانين الدولة ولا يتآمروا على الإسلام والمسلمين.
إنَّ منح اليهود وغيرهم من غير المسلمين الذين كانوا يعيشون في الدولة الإسلامية المدينة المنورة الحقوق العامة والأمن والحرية يؤكدُ أن الأقليات الدينية من أتباع الديانات الأخرى كاليهود والمسيحيين وغيرهم الذين يعيشون في ظل سلطة إسلامية ودولةٍ إسلامية، أن هؤلاء حيث يتمتعون بحقوق المواطنيَّة داخل المجتمعِ والدولة الإسلامية، ويلتزمون بقوانينها، فإنَّهم يتمتعون بحقوقٍ مساوية للمسلمين، وهم محترمو المال والدمِ والعرض والكرامة الإنسانية والاحترام هنا غير الحماية، فهم ليسوا تحت حمايةِ المسلمين والحكومة الإسلامية، بل هم كالمسلمين تماماً في داخل الدولة الإسلامية، لهم حقٌّ في أن يعيشوا بأمنٍ وطمأنينة، ولهم سائرُ الحقوق المدنية، ولهم حريةُ العقيدة وممارسة الشعائر الدينية الخاصة بهم ولا يجبرُ أحدٌ منهم على الدخول في الإسلام لقوله تعالى: {لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ}.
ولم يثبتْ من سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أجبر أحداً من الكفَّارِ المسالمين الذين التزموا بقوانين السلطة الإسلامية على الإسلام، نعم إنَّهم يدعون إلى الإسلام على قاعدة {وادعُ إلى سبيل ربك بالحكمةِ والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} وهم أحرار بعد ذلك في أن يقنعوا بالإسلام أو لا يقنعوا به، وفي أن يقبلوا الإسلام أو لا يقبلُوا به، وإذا لم يستجيبوا لدعوةِ الإسلام ولم يقتنعوا ولم يقبلُوا به، فإنَّ ذلك لا يؤثّر إطلاقاً على حقوقهم المدنية والدينية ما داموا يلتزمون القوانين ولم يخونوا ولم يتآمروا ولم يجاهروا بالعداء، أمَّا إذا تمردُوا على قوانين السلطة الإسلامية وارتكبوا الخيانة، وتآمروا مع الأعداء ولم يحترموا عهودهم ومواثيقهم، فإن هذه الحالات تؤدّي إلى سقوط المواطنية تلقائياً وتبرّرُ للسلطة الإسلامية اتخاذ الإجمراءات المناسبة في حقِ من يرتكبُ جريمة سياسية من هذا القبيل حتى ولو كان مسلماً، بمعزلٍ عن انتنمائه الديني.
إن تجربة الصحيفة التي وضعها النبي في المدينة المنوّرة تؤكدُ هذا المفهوم وهذه الرؤية بالنسبة إلى العلاقة مع غير المسلمين الذين يعيشون في داخل المجتمع السياسي الإسلامي. وقد كان من الممكن لهذه التجربة الحضاريَّة الفريدة من نوعها أن تستمرّ وتنمو لو أنَّ اليهود الذين تمتعُوا به ووقّعوا على الوثيقة التزموا بمضمونها ولكنّهم خانوا وتآمروا مع الأعداء فأفسدوا هذه التجربة وقضوا عليها فاضطررّ النبي إلى محاربتهم ومعاقبتهم في وقائع تاريخية معروفة، لقد استغل اليهود وضعهم الممَيّز داخل المجتمع الإسلامي فلعبوا دوراً خطيراً في التآمر على الإسلام والتجسّس على المسلمين ومحاولة اغتيال النبي، ودسّ السمّ له والتنسيق والتعاون مع المشركين والمنافقين، وأثاروا الشبهات الفكرية والعقيدية وحاربُوا الدعوة بالأكاذيب والتشويه. فأدّى التي كوّنها النبيّ في الوثيقة السياسية التي ذكرناها.
ولكنّ انهيار هذه التجسسية في عهد النبي بإفساد اليهود لها وهم المفسدون في كل عصرٍ وزمانٍ ومكان. لا يعني انتهاء مشروعية هذه الصيغة في الإسلام فإنَّ هذه صيغة المجتمع المتنوع من حيثُ الانتماء الدينيّ الذي يعيشُ وحدةً سياسيةً في المجتمع الإسلامي لا زالت تتمتعُ بالرعية الكاملة في الفكر والفقه الإسلاميين ويمكن تطبيقها في كل مجتمع سياسيّ إسلاميّ في كلّ زمان ومكان، وهي تُطبّق اليوم في نظام الجمهورية الإسلامية في إيران، الذي يمثل نصاً إسلامياً فريداً في العالم.