فضيلة الشيخ مصطفى قصير
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم السلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا محمد المصطفى وعلى آله الطاهرين المنتجبين.
قال تعالى في كتابه العزيز:
{واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرِّقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً. وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلّكم تهتدون، ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون. ولا تكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البيّنات وأولئك لهم عذاب عظيم}(1).
هذه الآيات الشريفة وآيات أخرى غير قليلة وردت في الذكر الحكيم تدعو المسلمين إلى الالتفاف حول دين الله سبحانه وتعالى، والاعتصام بحبله والتمسك بالكتاب الكريم وما جاء به الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، كما تأمرهم بمجانبة الفرقة ونبذ الاختلاف، والحفاظ على الوحدة والائتلاف.
{إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون}(2).
{وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين}(3).
وعلى هذا النهج جرت السنّة النبويّة الشريفة وسنّة الأئمة المعصومين فقد ورد عن رسول الله (ص) أنه قال:
"مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى من عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى" (4).
"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً"(5).
"من فارق الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه"(6).
وهذا النص الأخير روي من طرق الشيعة الإمامية أيضاً بهذا الشكل:
"من فارق جماعة المسلمين فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" قيل: يا رسول الله وما جماعة المسلمين؟ قال: "جماعة أهل الحق وإن قلّوا"(7).
من هذه النصوص يتبيّن أن الإسلام دين الوحدة، دين الإلفة والمودّة، دين الاجتماع والتكاتف، الإسلام دين أساسه كلمة التوحيد، والإخلاص، والناس كلهم عباد الله، {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}(8).
العبادة الإسلامية والأحكام الشرعية تجسَّد هذا المنهج القويم وتكرّس هذا الاتجاه، فصلاة الجماعة مثلاً عبادة يومية جعلت منها الشريعة المقدسة مظهراً من مظاهر الاتحاد والاجتماع والتآلف، فهم يجتمعون عدة مرات في اليوم الواحد في تظاهرة وحدوية تنتظم فيها صفوفهم خلف إمام واحد، وفي اتجاه واحد، وقلوبهم نحو هدف واحد، هو طاعة الله تعالى وامتثال أمره وأداء فرضه.
وصلاة الجمعة، مظهر آخر من مظاهر الاتحاد الاجتماع، وهي دورة تعبويَّة إسلامية، سياسية وعبادية ضمن المنهج الإسلامي.
والأعياد الإسلامية العظيمة أيضاً تظاهرة اتحاد وتآلف بين المسلمين، فعن الإمام علي بن موسى (عليه السلام) وقد سئل عن علَّة جعل يوم الفطر عيداً أنه قال: "لأن يكون للمسلمين مجمعاً يجتمعون فيه ويبرزون إلى الله عز وجل فيحمدونه على ما منّ عليهم، فيكون يوم عيد ويوم اجتماع ويوم فطر ويوم زكاة ويوم رغبة ويوم تضرّع"(9).
ولعل حج بيت الله الحرام من أبرز المظاهر العبادية التي يتجلّى من خلالها الجانب الوحدوي، إذ أنه أعظم مؤتمر يجتمع إليه المسلمون من جميع أقطار الدنيا تلبية لنداء ربهم، وليؤدوا مناسكهم في عبادة جماعية تضم المسلمين على اختلاف لغاتهم وألوانهم وأجناسهم وأحوالهم، في قلوب خاشعة خاضعة لم يوحّدها سوى الإسلام، ولم يجمع بينها إلا التقوى.
هذه العبادات اليومية والموسميّة التي شرعها الدين الإسلامي، وغيرها من العبادات والأحكام الأخرى، تكشف عن اهتمام الشريعة المقدسة ببناء مجتمع متّحد متعاون متكافل كالجسد الواحد وكالبنيان المرصوص.
ولقد أكّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أهمية الألفة والاتحاد منذ اللحظات الأولى لدخول المدينة المنورة عندما هاجر إليها، ونفّذ ذلك عملياً في حركة المؤاخاة الفريدة، فآخى بين المهاجرين والأنصار، وبين الأنصار أنفسهم، والمهاجرين أنفسهم.
فلقد كان المجتمع الإسلامي آنذاك في مستهل تشكيله، وفي بداية نشوئه، وهو مقبل على امتحان عسير تفرضه طبيعة الدين الجديد والوضع السياسي المحيط بالمدينة المنوّرة، فهو أحوج ما يكون إلى الاتحاد ورص الصفوف وإزالة جميع عوامل الاختلاف والتفرق، ليتمكن - على ضعف إمكاناته - من الصمود في وجه الأعاصير التي توشك أن تعصف من مختلف الاتجاهات.
فعمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المؤاخاة بين المسلمين جميعاً ليجعل من الإسلام محور وحدتهم، وأساس ارتباطهم، وقطب حركتهم، وليجعل هذه الرابطة أوثق من رابطة القبيلة والوطن، لقد قضى بذلك صلى الله عليه وآله وسلم على العصبيّات الجاهلية والنزعات المختلفة التي كانت تمزّق المجتمع آنذاك، وأحلّ محلّها حالة من الإلفة والأخوة لم يذق ذلك المجتمع طعمها من قبل، فصنع من ذلك المجتمع الناشىء الصغير قوةً كبرى دافعت عن الإسلام واحتضنته بقوة وأفشلت كل المؤامرات التي استهدفت القضاء عليه، ثم حملت رايته المنتصرة لترفعها فوق ربوع الجزيرة العربية في مدة يسيرة، ثم منها إلى أقطار المعمورة. إن من فضول القول الحديث عن اهتمام الإسلام بالاتحاد والألفة، ورفضه لعوامل التشتت والنزاع والفرقة.
وهكذا يتبيّن أن الاتحاد والتعاون تكليف شرعي وواجب ديني فرضته الشريعة الإسلامية لتمكين المجتمع الإسلامي من الوقوف في وجه المخاطر والتحدّيات ومواجهة الأعداء المتربصين، ولبناء أمة قادرة عزيزة تستعصي على المؤامرات والأعاصير. كما أن التشتت والتشرذم ممنوع ومحرّم.
ومن أجل ذلك جعلت الثورة الإسلامية المباركة شعار الوحدة الإسلامية في مقدمة شعاراتها، وفي أولويات أهدافها، ولم يكن ذلك شعار مرحلة سياسية، ولا من أجل الاستهلاك كما قد يتوهم البعض، بل لأن الإمام الراحل (قدس سره) كان يدرك تماماً أهمية الوحدة وقدرات الأمة الإسلامية الضائعة بسبب الفرقة والتشتت.
* مطلق الاتحاد أو الاتحاد في دائرة الحق
لا شك في أن الاتحاد عامل قوة، وكل مسلم في أعماقه رغبة شديدة وشوق كبير لرؤية الإسلام يشمخ عالياً، وترفّ رأيته على كل رابية، كل مسلم يحب أن يرى العالم الإسلامي قوياً عزيزاً منيعاً، والإسلام عندما يدعو للالتزام بالجماعة وإصلاح ذات البين، وعندما ينهى عن الفرقة والتشتت يريد بذلك التمحور حول الدين وحول الحق الذي جاء به الدين، وإلا فإن الاتفاق على كلمة الكفر والالتزام بالجماعة عندما تكون على باطل مما لا يمكن أن يدعو إليه الدين ولا يحبه الله.
وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "جماعة أمتي أهل الحق وأن قلّوا" (10).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: "إن القليل من المؤمنين كثير"(11).
وقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: "الجماعة أهل الحق وإن كانوا قليلاً والفرقة أهل الباطل وإن كانوا كثيراً"(12).
فالكثرة بما هي كثرة ليست غاية في نظر الإسلام، وإنما المطلوب هو التزام سبيل الله، والاجتماع على هذا السبيل والاتفاق عليه، لا مجرد الاتفاق والاجتماع كيفما كان، وكيفما اتفق، وعلى هذا الأساس يمكن أن نفهم مراد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الجماعة في النصوص المروية عنه في النهي عن مفارقة الجماعة، فإنه ليس المقصود مطلق الجماعة ولو كانوا جماعة الباطل وأعداء الدين، ولذا كان التعبير الوارد في بعض النصوص "جماعة المسلمين"، فالحق إذاً هو الملاك والإسلام هو الغاية، والاجتماع عليه يكسبه قوة ومنعة ويحقق أهدافه.
(1) سورة عمران: 103 - 105.
(2) سورة المؤمنون: 52.
(3) سورة الأنفال: 46.
(4) صحيح مسلم - شرح النووي: 16 - 14.
(5) صحيح مسلم - شرح النووي: 16 - 140.
(6) كنز العمال للمتقي الهندي: 1 - 886 وفي معناه بألفاظ متقاربة 1 - 1039 - 1045.
(7) المجلسي: بحار الأنوار 27 - 67.
(8) سورة الحجرات: 13.
(9) المجلسي: بحار الأنوار 90، 262.
(10) المجلسي: بحار الأنوار 26582 و27 - 67.
(11) الملجسي: بحار الأنوار 2682.
(12) المجلسي: بحار الأنوار 26682.