هدى مرمر
إن الصراع بين جبهة الحق وجبهة الباطل هو صراع موجود منذ بدء الحياة الإنسانية وفي كل عصر وزمان، وعندما نتحدث عن جبهة حق يعني أنَّ هناك رجالاً ونساءً ينضوون تحت لواء هذا الحق، وعندما نتحدث عن جبهة باطل فهذا يعني أن هناك رجالاً ونساء ينضوون تحت لواء الباطل.
من هنا فإن المرأة لم تكن بمنأى عن ساحة هذا الصراع بل كانت حاضرة فيه بقوة، وبما أن عاشوراء مثلت حلقة مهمة من حلقاته فكان لا بدَّ للمرأة أن تأخذ دورها فيها، وتؤدي تكلفها على أكمل وجه، ولعل حضورها بالذات في عاشوراء كان له ميزة خاصة، حيث أنَّ هذا الحضور كان في زمن يحارب فيه كل ما يمتُ إلى الإسلام بصلة، وفي زم كان يدعى فيه للعودة إلى أحكام الجاهلية، وإلى أفكارها وقناعاتها ومن جملتها عودة المرأة إلى المكانة المهينة التي وضعها فيها الجاهليون.
لذلك كان عاشوراء الإمام الحسين عليه السلام لإحياء الإسلام من جديد بعدما عُطلت حدود الله وأحل حرامه وحرم حلاله وهذا ما قاله الإمام الحسين عليه السلام في بداية ثورته: "ألا وإنَّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله..."(1).
أراد الإمام الحسين عليه السلام أن يحرك ثورته في هذا الاتجاه وهو تنظيم الأوضاع الرسالية في حياة الأمة وإصلاح هذه الأمة ومن جملتها إحياء الدور الأساسي للمرأة، وهذا الدور الذي وصل إلى أسمى مراتبه من خلال مشاركة المرأة للرجل في ساحة المعركة فأصبح هناك نموذج الرجل المجاهد، وأصبح هناك نموذج المرأة المجاهدة حيث توقف على وجودها نجاح الثورة أو عدم نجاحها.
ومن خلال استعراض أهم النقاط حول الدور الذي قامت به المرأة والرسالة التي أدتها في عاشوراء ندرك بعضاً من حكمة الله تعالى وندرك معنى قول الإمام الحسين عليه السلام: "شاء الله أن يراني قتيلاً وشاء الله أن يراهنَّ سبايا".
1- على مستوى شحذ الهمم والمشاركة في الجهاد:
كان للمرأة دور أساسي مباشر وغر مباشر في الجهاد، حيث بدأ هذا الدور غير المباشر قبل سنوات طويلة من عاشوراء وبالتحديد منذ تأسيس ثورة كربلاء في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما دخلت المرأة وهو يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسيناً وأبغض الله من أبغض حسيناً، حسين سبط من الأسباط، فعن الله قاتله، فكانت تربي أبناءها وترضعهم حب الحسين عليه السلام حتى إذا شبّوا وسمعوا نداء إمامهم وسيدهم سارعوا للتلبية بين يديه بكل اندفاع وتصميم ومحبة.
فرجالات كربلاء لم يكن ليوجدوا لولا وجود نساء صنعن رجالاً ولم يبنين أجساداً فقط.
والمرأة شاركت في الجهاد بشكل مباشر عندما نزلت إلى ساحة المعركة وكان لها التأثير الكبير على مستوى شحذ الهمم وشحن النفوس للقتال. وسنكتفي بذكر نموذج واحد من النماذج النسائية الرائعة والرائدة في هذا المجال:
فتذكر لنا الروايات أن "أم وهب" تلك المرأة المجاهدة قالت لولدها وهب بن عبيد الله بن حباب الكلبي: "قم يا بني فانصر ابن بنت رسول الله"، فانطلق في الحملة الأولى وقاتل ثمَّ رجع إليها سالماً وقال لها: يا أماه رضيت؟ فقالت: ما رضيت إلاَّ وتقتل بين يدي الحسين(ع(، ثمَّ رجع إلى المعركة فقطعت يداه فما كان من تلك الأم إلاَّ أن حملت عمود خيمة وأقبلت نحو ولدها تحثه على القتال من جديد وهي تقول له: فداك أبي وأمي قاتل دون الطيبين حرم رسول الله، ولما استشهاد ذهبت إليه امرأته وصارت تسمح الدم والتراب عن وجهه، فبصر بها شمر فأمر غلاماً له فضربها بعمود على رأسها فقتلها. وكانت أول امرأة تقتل في معسكر الإمام الحسين عليه السلام.
هذا المشهد وأمثاله كان حاضراً أمام جميع من حضر كربلاء وترك أثراً عظيماً على مستوى رفد معنويات المجاهدين بحيث لم يترك عذراً لمن يريد التراجع أو التخاذل عن القتال ويكشف عن حضور المرأة المؤثر ويشير إلى موقعها الطبيعي في حركة الجهاد.
2- على مستوى الطبابة والسقاية:
من المهام التي لم يسلّط التاريخ عليها الضوء في أحداث كربلاء هي مهام الطبابة وتضميد الجراح والسقاية من قبل النساء ويمكن أن يعود هذا الإغفال إلى حسامة الخطب وهناك إشارات عن هذا الدور، منها قيام الحوراء زينب عليه السلام بتعهد وتمريض الإمام السجاد عليه السلام.
3- حفظ الإمامة والرسالة:
لقد شاء الله تعالى أن تسبى النساء في كربلاء لحكمة وهدف عظيم بدون أدنى شك، فلولا وجود العقيلة زينب عليه السلام بالذات وسائر النساء لضاعت أهداف ثورة الإمام الحسين عليه السلام بل لضاعت الإمامة من بعده ولضاعت الخلافة والرسالة.
فبعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام تجلى حفظ الإمامة والرسالة والخلافة في عدة مواطن منها:
- وقوف العقيلة زينب عليه السلام بوجه من هجموا على خيمة الإمام السجاد عليه السلام ليقتلوه وهو مريض، فوقفت في وجههم وقالت: "لا يقتل حتى أقتل دونه، فكفوا عنه"(3).
- دفاعها عن الإمام السجاد عليه السلام وحمايتها له من القتل في مجلس عبيد الله بن زياد في الكوفة عندما سأله عن اسمه فقال عليه السلام: ز"علي بن الحسين" فقال له: "أولم يقتل الله علياً؟ فقال عليه السلام: "كان لي أخ أكبر مني يسمى علياً قتله الناس، فرد عليه ابن زياد بأن الله قتله، فقال له الإمام عليه السلام: "الله يتوفى الأنفس حين موتها وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله" فكبُر على ابن زياد أن يرد عليه وأمر بضرب عنقه عليه السلام لكن عمته العقيلة زينب اعتنقته وقالت: حسبك يا بن زياد من دمائنا ما سفكت وهل أبقيت أحداً غير هذا فإن أردت قتله فاقتلني معه"(4).
4- حفظ النساء والأطفال:
كان للعقيلة زينب عليه السلام الدور الأبرز في مسألة حفظ النساء والأطفال لأنها كانت المؤهلة لقيادة الموقف والسيطرة عليه بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام وأهله وأصحابه وأثناء مرض الإمام السجاد عليه السلام. وتحدثنا الروايات أنها قامت بتطيبب خواطر الثكالى والأطفال أثناء المعركة وبعدها والتهدئة من روعهم في حركة لا تهدأ ولا تلين وكانت تتفقدهم بأسمائهم كي لا يضيعوا وتتلقى فوق ذلك سياط الجلادين عنهم حتى يروى أن متنها قد اسود من كثرة الضرب، وكانت تعمد إلى إطعامهم حتى لا يقضوا جوعاً كما حدَّث عن ذلك الإمام السجاد عليه السلام أثناء سير السبايا من الكوفة إلى الشام بقوله: "... كانت السيد زينب عليه السلام تقسّم ما يصيبها من الطعام على الأطفال، لأن القوم كانوا يدفعون لكل واحد منا رغيفاً واحداً من الخبز في اليوم والليلة"(5).
5- حفظ مشروع الثورة:
وهذا جانب لا يقل أهمية عن جانب حفظ الإمامة والرسالة، إذ أن المرأة، وخاصة بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام: قامت بتبيان أسباب وأهداف ثورة الإمام الحسين عليه السلام وقامت بلفت الأنظار إلى قضية الإمام عليه السلام كقضية للأمة الإسلامية، وأنَّ تحركه عليه السلام لم يكن إلاَّ بدافع الحرص على وجود الإسلام والأمة الإسلامية في وجه من يريدون طمس حقائق ومعالم هذا الدين الحنيف والرجوع بالأمة إلى الجاهلية، كما قامت بتعريف الأمة بمن وصفوا أنهم خوارج خرجوا على طاعة يزيد بن معاوية.
وقد بدأت المرأة بمهمتها بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام مباشرة حينما تقدمت العقيلة زينب موكب السبايا إلى مصرعه وهي تنادي: "وامحمداه، واجداه، هذا حسين بالعراء مرمل بالدماء، مقطع الأعضاء وبناتك سبايا وذريتك مقتلة..."(6) وكأنها بندائها هذا تحاول تذكير كل من حضر بهوية من أقدموا على قتله واستباحة دمه وانتهاب ثقله وسبي نسائه لكي يدركوا عظيم جريمتهم.
ثم ينطلق هذا الإعلام النسائي إلى خارج كربلاء لتكون المرأة صوت ولسان الثورة والحافظ لها، وقد مهَّد الأمويون أنفسهم- من حيث لا يدرون- للمرأة القيام بهذا الدور وبهذه الرسالة ومهَّدوا بذلك طريق فضحهم ولعنهم حينما تنقلوا فيها من بلد إلى بلد، ومن مجلس إلى مجلس، وكان لخطب النساء في مقدمتهم خطب العقيلة زينب عليه السلام وفاطمة بنت الحسين عليه السلام وغيرهما إلى جانب خطب الإمام زين العابدين عليه السلام الأثر البالغ في تجييش مشاعر المسلمين، وفي إحداث هزة عنيفة في النفوس جعلت الناس تستيقظ من سباتها العميق وتلتفت بشكل واعٍ ومتفهم إلى كل ما يجري حولها وتنتفض على الظلم وتقيم الثورات التي أدت إلى تقويض الحكم الأموي أمثال؛ ثورة التوابين، وثورة زيد بن علي، وثورة المختار الثقفي، وثورة المدينة..".
6- الوقوف بوجه الظالمين:
لقد كان للمرأة المواقف العظيمة والجرئية أمام الطغاة والظالمين تنم عن قوة الإيمان وصلابة الموقف وعدم الخشية إلاَّ من الله تعالى، فوقفت لتقول كلمة الحق أمام الباطل وأمام السلطان الجائر ولتعلّم الأجيال دروساً في مواجهة الظالمين ودروساً في الشجاعة والجرأة.
فيحدثنا التاريخ أن العقيلة زينب عليه السلام وقفت أمام عبيد الله بن زياد في مجلسه في الكوفة عندما قال لها متشمتاً: "الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم"، فقالت عليه السلام: "الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وطهّرنا من الرجس وتطهيراً، إنَّما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا" فقال لها: "كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك"؟ قالت عليه السلام: "ما رأيت إلا جميلاً"(7).
وفي مجلس يزيد بن معاوية في الشام خاطبته قائلة: "... ولئن جرَّت عيَّ الدواهي مخاطبتك إني لأستصغر قدرك واستعظم تقريعك واستكثر توبيخك.. ثمَّ تقول له.. فكد كيدك واسعَ سعيك وناصب جهد، فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا..."(8).
7- تعميق البعد العاطفي والمأساوي لواقعة كربلاء:
لقد نجحت المرأة في عاشوراء من خلال إقامتها لمجالس العزاء والبكاء على الشهداء وبشكل خاص على سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام في ربط الأمة بهذه الواقعة على مدى العصور ومن ثمَّ تخليدها في وجدان وعقل وقلب الأمة والاقتداء بنماذجها وأبطالها لا سيما الإمام الحسين عليه السلام، وجاء الحث على إحياء عاشوراء من قبل الأحاديث الشريفة وإقامة مجالس العزاء ليعمق ارتباط امة فكرياً وروحياً بها ويبقيها حيَّة في النفوس، وما كان لعاشوراء أن تستمر إلى يومنا وتزداد حضوراً وتوهجاً وحرارة لو لم تكن مجالس العزاء والبكاء التي أرست قواعدها المرأة في كربلاء.
إلى جانب كل هذه الأدوار الرسالية العظيمة التي أدَّتها المرأة في عاشوراء تبرز مواقف الصبر الذي كان مكلاً للثورة الحسينية، مواقف يعجز عنها البيان ويكل عن ذكرها اللسان.، يكفينا ما ذكرته الروايات من ورود العقيلة زينب عليه السلام إلى مصرع أخيها الإمام الحسين عليه السلام تنظر إلى جسده جثة بلا رأس، وتضع يديها تحت جسده الشريف، ترمق السماء بطرفها وتقول: "إلهي تقبَّل منَّا هذا القربان". وغير ذلك من المواقف التي لا يتسع المجال لذكرها ولا نملك إلا العجز عن الإحاطة بها طامعين بفضل الله وعفوه وشفاعة نبيه وآله صلى الله عليه وآله وسلم.
1- تاريخ الطبري، ج6، ص229.
2- نفس المهموم، الشيخ عباس القمي، ص259.
3- مقتل الحسين عليه السلام، المقرم، ص301.
4- المصدر نفسه، ص325.
5- زينب الكبرى، النقري، ص62 و63.
6- مقتل الحسين عليه السلام، المقرم، ص307.
7- اللهوف على قتلى الطفوف، ابن طاووس، ص9.
8- المصدر نفسه، ص21.