أدب الأنبياء
سكنة حجازي
الجزء الثالث
روح الله وكلمته، النبي عيسى عليه السلام، الذي ذكرنا بعضاً من صفاته وأدبه في العدد السابق، نتابع في هذا العدد ما وصفه الله تعالى به من مقامات، وهي اثنتان وعشرون خصلة من مقامات الولاية الاكتسابية والاختصاصية فهو؛ عبد الله ونبي، ورسول إلى بني إسرائيل، وواحد من أولي العزم صاحب شرع وكتاب (وهو الإنجيل). سماه الله تعالى بالمسيح عيسى. وكان كلمة الله وروحاً منه وإماماً ومن شهداء الأعمال، ومبشراً برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكان وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين ومن المصطفين. وكان من المجتبين ومن الصالحين، وكان مباركاً أينما كان وزكياً. وكان آية للناس ورحمة من الله وبراً بوالدته، ومسلّماً عليه. وكان ممن علمه الله الكتاب والحكمة. كل ذلك ورد في الآيات التالية:
﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِين﴾َ (آل عمران: 45). ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيل﴾(آل عمران: 48). ﴿ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 49).﴿ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِين﴾ (آل عمران: 33).
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ (النساء: 59) ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً﴾ (النساء: 171).
﴿وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِين﴾َ (الأنعام: 85).
﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَاد﴾ (آل عمران، الآيات: 19، 21، 30 - 33).
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾ (الأحزاب: 7).
﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ (الصف: 6).
كان النبي عيسى عليه السلام متأدباً مع ربه أدباً بارعاً، ونذكر هنا حالتين بارزتين تتضمنان بارع الأدب ومجامعه من مسألة العبودية الخالصة لله تعالى.
أما الحالة الأولى، فموقفه حين طلب الحواريون منه مسألة شاقة عليه وهي: ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين﴾(المائدة: 112).
فعلى الرغم من أن الطلب يحمل معنى الاستفهام على قدرة الله تعالى وليس التشكيك إلا أنها لا توافق أدب العبودية حتى ولو كانت سؤال مصلحة.
﴿قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ (113). عندها قال: ﴿ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (المائدة: 114).
لقد حرص عليه السلام على إظهار التعظيم والتشريف لله تبارك وتعالى فقال (اللهم ربنا) وذلك نتيجة صعوبة الموقف الذي وضعه به الحواريون.
وقد أصلح عليه السلام بأدبه الموهوب من جانب الله تعالى ما اقترحوه من السؤال بما يسلح أن يقدم إلى حضرة العزة والكبرياء بآية اقتراحية لا نظير لها بين آيات الأنبياء عليهم السلام. والتي كانت ظاهراً لإتمام الحجة أو لحاجة الأمة إليها، ولكنها ليست كذلك فسماها عليه السلام "بالعيد" عيداً له ولأمته.
ولم يكرر مقولة الحواريين بل اختصر فوائد نزول هذه المائدة ب (آية منك) علامة منك.
ثم أخر ما قدموه هم من الأكل وألبسه لباساً آخر يتناسب مع أدب الحضور فقال: (وارزقنا وأنت خير الرازقين) تأييداً للسؤال وثناءً له تعالى من وجه آخر.
وأما الحالة الثانية: فهي خطاب الله تبارك وتعالى المباشر له:
﴿أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوب﴾ (المائدة: 116).
أدبه هنا يتناسب مع الموضوع المذكور:
فأولاً: بدأ بالتنزيه له تعالى عما لا يليق بقدس ساحته فقال: (سبحانك) كما نزه نفسه تعالى في مجرى كلامه القرآني.
وثانياً: وضع نفسه موضع البعيد من ذلك الادعاء فكنى به كناية وتستراً إذ لا يمكنه قول ذلك: (ما يكون لي أن أقول ما ليس بحق) أتبعه بإظهار علمه تعالى وإحاطته بالأقوال والأفعال فالله علام الغيوب. (إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك...).
ثم بيّن أن دعوته إنما هي الأمر بعبادة الله الواحد وهي أمر منه جل شأنه فهو رب المخلوقين فكيف ينقض دعوته بما يخالفها ويفسدها: (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم) فاستعمل (إلا) لإفادة الحصر لما قاله، فلا دور لي سوى التبليغ والرقابة والشهود حال وجودي معهم، وأنت الشاهد قبل أن تتوفاني وبعدها، فأنت على كل شيء شهيد.
ويتوج أدبه بإيكال الأمر إليه تعالى في تعذيبهم أو العفو عنهم فهم عباده، وهذا شأن السيد والرب، إن شاء عذبهم فإنهم يستحقون العذاب، وإن شاء غفر لهم (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فأنك أنت العزيز الحكيم) عزيز حكيم قادر، وتعلم ما هو الأصلح.
وهو في كل محطة يمزج كلامه بأحسن الثناء وأبلغ البيان وأصدق لسان: (أنت علام الغيوب) و (أنت الرقيب) و (أنت على كل شيء شهيد) و (أنت العزيز الحكيم).
جعلنا الله تعالى ممن يتأسون ويتأدبون بأدب أنبيائه العظام عليهم السلام وممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.