الإمام الخامنئي (دام ظله)
في الحلقة الماضية تحدث الإمام القائد (دام ظله) عن معالم حياة الإمام الصادق عليه السلام حيث كان المعلم الأول حول مسألة تبيين الإمامة والدعوة إليها، ثم تحدث عن النشاط الفكري له عليه السلام وفي هذه الحلقة يتحدث القائد (دام ظله) عن التنظيم في الحياة السياسية للإمام عليه السلام.
مرّ معنا أن الإمام الصادق عليه السلام قاد في أواخر العصر الأموي شبكة إعلامية واسعة استهدفت الدعوة إلى إمامة آل علي عليه السلام وتبيين مسألة الإمامة بشكلها الصحيح، وهذه الشبكة نهضت بدور مثمر وملحوظ في أقاصي بقاع العالم الإسلامي، وخاصة في العراق وخراسان لنشر مفاهيم الإمامة.
ونشير هنا إلى جانب صغير من هذه المسألة مسألة التنظيمات السرية في الحياة السياسية للإمام الصادق عليه السلام وباقي الأئمة من أهم المسائل وأكثرها حساسية، وهي في الوقت نفسه من أغمض فصول حياتهم وأشدّها إبهاماً، وكما ذكرنا، لا يمكن أن نتوقع وجود وثائق صرحية في هذا المجال، حيث لا يمكن أن نتوقع من الإمام أو أحد هذه التنظيمات السياسية - الفكرية.
فهذا مما لا يمكن الكشف عنه. الشي المعقول هو أن الإمام ينفي بشدة وجود مثل هذا التنظيم السري، وهكذا أصحابه، ويعتبرون ذلك تهمة وسوء ظن فيما لو تعرضوا لاستجواب جهاز السلطة هذه هي خاصية العمل السياسي، والباحث في حياة الأئمة عليهم السلام أيضاً من حقه أن لا يقتنع بوجود مثل هذا التنظيم دون دليل مقنع. إذاً فلا بدّ أن نبحث عن القرائن والشواهد والحوادث التي تبدو بسيطة لا تلفت نظر المطالع العافي، لنبحث عن دلالاتها في هذا المجال. بهذا اللون من التدقيق في حياة الأئمة عليه السلام خلال قرنين ونصف القرن من حياتهم يستطيع الباحث أن يطمئن إلى وجود مثل هذه التنظيمات التي تعمل تحت قيادة الأئمة عليهم السلام.
ما المقصود بالتنظيم؟ ليس المقصود به طبعاً حزباً منظماً بالمفهوم المعروف اليوم، ولا يعني وجود كوادر منظمة ذات قيادات إقليمية مرتبطة ارتباطاً هرمياً، فلم يكن شيء من هذا موجوداً ولا يمكن أن يوجد، المقصود بالتنظيم وجود جماعة بشرية ذات هدف مشترك تقوم بنشاطات تتجه نحو ذلك الهدف، وترتبط بمركز واحد وقلب نابض واحد ودماغ مفكر واحد، وتسود بين أفرادها روابط عاطفية مشتركة.
هذه الجماعة كانت في زمن الإمام علي عليه السلام (أي خلال السنوات الخمس والعشرين بين وفاة الرسول الأكرم وبيعته للخلافة) كان يجمعها الإيمان بأحقية الإمام علي عليه السلام في الخلافة، وكانت تعلن وفاءها الفكري والسياسي للإمام، غير أنها كانت تحذو حذو الإمام علي عليه السلام في عدم إثارة ما يزلزل المجتمع الإسلامي الوليد، كما كانت تنهض بما كان ينهض به الإمام علي عليه السلام في تلك السنوات من مهام رسالية تستهدف صيانة الإسلام ونشره، ومحاولة الحدّ من الانحرافات. واتخذت لولائها هذا اسم "شيعة علي"، ومن وجوههم المشهورة: سلمان وعمار وأبو ذر وأبُبي بن كعب والمقداد وحذيفة وغيرهم من الصحابة الأجلاء.
ولدينا شواهد تاريخية تثبت أن هؤلاء كانوا يشيعون بين الناس فكرهم بشأن إمامة علي عليه السلام بشكل حكيم. وعملهم هذا كان مقدمة لالتفاف الناس حول الإمام وإقامة الحكم العلوي.
بعد أن استلم الإمام علي عليه السلام مقاليد الأمور سنة 35 هجرية، كان حول الإمام علي صنفان من الناس، صنف عرف الإمام ومكانته، وفهم معنى الإمامة وآمن بها، وهم شيعته الذين تربوا على يد الإمام بشكل مباشر أو غير مباشر، وعامة الناس الذين عاشوا أجواء تربية الإمام ونهجه ولكنهم لم يكونوا مرتبطين فكرياً وروحياً بالجماعة التي ربها الإمام تربية خاصة.
ولذلك نجد بين أتباع الإمام صنفين من الأًفراد بينهما تفاوت كبير. صنف يضم عمار ومالكاً الأشتر وحجر بن عدي وسهل بن حنيف وقيس بن سعد وأمثالهم، وصنف من مثل أبي موسى الأشعري وزياد بن أبيه ونظرائهم.
بعد حادثة صلح الإمام الحسن عليه السلام كانت الخطوة الهامة التي اتخذها الإمام نشر فكر مدرسة أهل البيت، ولم شتات الموالين لهذا الفكر، إذ أتيحت الفرصة لحركة أوسع بسبب اضطهاد السلطة الأموية، وهكذا كان دائماً، فالاضطهاد يؤدي إلى انسجام القوى المضطهدة وتلاحمها وتجذرها بدل تبعثرها وتشتتها، واتجهت استراتيجية الإمام الحسن عليه السلام إلى تجميع القوى الأصيلة الموالية، وحفظها من بطش الجهاز الأموي، ونشر الفكر الإسلامي الأصيل في دائرة محدودة، ولكن بشكل عميق وكسب الأفراد إلى صفوف الموالين، وانتظار الفرصة المؤاتية للثورة على النظام وتفجير أركانه، وإحلال الحكم العلوي مكانه... وهذه الاستراتيجية في العمل هي التي جعلت الإمام الحسين عليه السلام أمام خيار واحد وهو الصلح.
ومن هنا نرى أن جمعاً من الشيعة برئاسة المسيب بن نجية وسليمان بن صرد الخزاعي يقدمون على الإمام الحسن عليه السلام بعد حادثة الصلح في المدينة، حيث اتخذها الإمام قاعدة لعمله الفكري والسياسي بعد عودته من الكوفة، ويقترحون عليه إعادة قواهم وتنظيماتهم العسكرية والاستيلاء على الكوفة والاشتباك مع جيش الشام، والإمام يستدعي هذين الاثنين من بين الجمع، يختلي بهما ويحدثهما بحديث لا نعرف فحواه، يخرجان بعده بقناعة تامة بعدم جدوى هذه الخطة، وحين يعود الاثنان إلى من جاء معهما يفهمانهم باقتضاب أن الثورة المسلحة مرفوضة، ولا بدّ من العودة إلى الكوفة لاستئناف نشاط جديد فيها.
هذه حادثة مهمة لها دلالات كبيرة حدت ببعض المؤرخين المعاصرين إلى اعتبار ذلك المجلس الحجر الأساس في إقامة التنظيم الشيعي.
والواقع أن الخطوة الأولى لإقامة التنظيم الشيعي لو كانت حقاً قد اتخذت في ذلك اللقاء بين الإمام الحسن عليه السلام والرجلين القادمين من العراق، فإن مثل هذه الخطوة قد أوصى بها الإمام علي عليه السلام من قبل حين أوصى المقربين من أصحابه بقوله: "لو قد فقدتموني لرأيتم بعدي أشياء يتمنى أحدكم الموت مما يرى من الجور والعدوان والأثرة والاستخفاف بحق الله والخوف على نفسه، فإذا كان ذلك: - فاعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا...
وعليكم بالصبر والصلاة.
والتقية.
واعلموا أن الله عز وجل يبغض من عباده (التلوّن) لا تزولوا عن (الحق وأهله) فإن من استبدل بنا هلك، وفاتته الدنيا وخرج منها آثماً".
هذا النص الذي يرسم بوضوح الوضع المأساوي في العصر الأموي، يوجه المؤمنين إلى التلاحم والتعاضد والتنسيق والانسجام يعتبر أروح وثيقة من وثائق الجهاز التنظيمي في حركة آل البيت عليهم السلام وهذا المشروع التنظيمي يتبلور في شكله العملي في اللقاء بين الإمام الحسن عليه السلام واثنين من الشيعة الخلّص. ومما لا شك فيه أن أتباع أهل البيت لم يكونوا جميعاً مطلعين على هذا المشروع الدقيق. ولعل هذا يبرّر ما كان يصدر من بعض صحابة الإمام الحسن عليه السلام من اعتراض وانتقاد وكان المعترضون يواجهون قول الإمام الذي مضمونه: ".. من يدري، لعله اختبار لكم ونفع زائل لأعدائكم".
وفي هذه الإجابة إشارة خفية إلى سياسة الإمام وتدبيره.
خلال الأعوام العشرين من حكومة معاوية بكل ما أحاط فيها البيت العلوي من إعلام مكثف مضاد، بلغ درجة لعن الإمام أمري المؤمنين عليه السلام على منابر المسلمين، وبكل ما شهدتها من انسحاب الإمامين الحسن والحسين عليه السلام من ساحة النشاط العلني المشهود، لا نرى سبباً في انتشار فكر أهل البيت واتساع القاعدة الشيعية في الحجاز والعراق سوى وجود هذا التنظيم.
ولنلق نظرة على الساحة الفكرية في هذه المناطق بعد عشرين عاماً من صلح الإمام الحسن عليه السلام.
في الكوفة نرى رجال الشيعة من أبرز الوجوه وأشهرها. وفي مكة والمدينة بل وفي المناطق النائية نرى أتباع أهل البيت مثل حلقات مترابطة يعرف بعضها ما يلمّ بالبعض الآخر.
حين يستشهد بعد أعوام أحد رجال الشيعة وهو "حجر بن عدي" ترتفع أصوات الاعتراض في مناطق عديدة من البلاد الإسلامية، على رغم الإرهاب المفروض على كل مكان، ويبلغ الحزن والأسى بشخصية معروفة في خراسان أن يموت كمداً بعد إعلان الاعتراض الغاضب.
وبعد موت معاوية ترد على الإمام الحسين عليه السلام آلاف الرسائل تدعوه أن يأتي إلى الكوفة لقيادة الثورة. وبعد استشهاد الإمام يلتحق عشرات الآلاف بمجموعة "التوابين" أو ينخرطون ي جيش المختار وإبراهيم من مالك ضد الحكم الأموي.
ومن حق الباحث في التاريخ الإسلامي أن يسأل عن العوامل الكامنة وراء شيوع هذا الفكر والتحرك الموالي لآل البيت عليهم السلام هل يمكن أن يتم دون وجود نشاط مكثف محسوب منظم متحد في الخطة والهدف؟
الجواب: لا طبعاً، فالإعلام الهائل، الذي وجهته السلطة الأموية عن طريق مئات القضاة والولاة والخطباء، لا يمكن إحباطه وإفشاله دون إعلام مضاد مخطط مرسوم، ينهض به تنظيم منسجم موحد غير مكشوف. وقبيل وفاة معاوية تزايد نشاط هذا الجهاز العلوي المنظم وتصاعدت سرعة عمله. حتى أن والي المدينة يكتب إلى معاوية ما مضمونه: "أما بعد"، فإن عمر بن عثمان (عَيْنُ والي المدينة على الحسين عليه السلام أخبرنا بأن رجالاً من العراق وبعض شخصيات الحجاز يترددون على الحسين لن علي وتدور بينهم أحاديث حول رفع راية التمرّد والعصيان.. فاكتبوا لنا ماذا ترون".
بعد واقعة كربلاء وشهادة الإمام الحسين عليه السلام تضاعف النشاط التنظيمي لشيعة العراق على أثر الصدمة النفسية التي أصيبوا بها في مقتل الإمام الحسين عليه السلام، حيث بوغتوا بهذه الجريمة التي سلبتهم قدرة الالتحاق بركب الحسين وأهل بيته في كربلاء، وكان هذا التحرك مؤطراً بالألم والحسرة والأسف.
يقول الطبري: فلم يزل القوم في جمع آلة الحرب والاستعداد للقتال ودعاء الناس في السرّ من الشيعة ويغرها إلى اطلب بدم الحسين، فكان يجبيهم القوم بعد القوم والثغر بعد الثغر، فلم يزالوا كذلك حتى مات يزيد بن معاوية.
وحقاً ما تقوله مؤلفة جهاد الشيعة إذ تعلق على قول الطبري بالقول:
وظهرت جماعة الشيعة بعد مقتل الإمام الحسين عليه السلام كجماعة منظمة، تربطها روابط سياسية وآراء دينية، لها اجتماعاتها، وزعماؤها، ثم لها قواتها العسكرية، وكانت جماعة من "التوابين" أول مظهر لذلك كله.
ويبدو، من دراسة أحداث التاريخ ورأي المؤرخين في تلك البرهة الزمنية، أن الشيعة كانوا يتولون مسؤولية القيادة والتخطيط، أما القاعدة العريضة الساخطة على بني أمية، فكانت أوسع من المجموعة الشيعية المنظمة، وكانت هذه القاعدة تنضم إلى كل حركة ذات صبغة شيعية.
من هنا فإن المتحركين ضد بني أمية، وإن رفعوا شعارات شيعية، لا ينبغي أن نتصورهم جميعاً بأنهم في عداد الشيعة، أي في عداد الجهازم التنظيمي لأئمة أهل البيت عليهم السلام.
انطلاقاً مما سبق أودّ التأكيد أن اسم الشيعة بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام أطلق فقط على المجموعة التي كانت لها علاقة وثيقة بالإماتم الحق، تماماً كما كان الحال في زمن أمير المؤمنين عليه السلام.
هذه المجموعة هي التي عمدت بعد صلح الإمام الحسين عليه السلام إلى تأسيس التنظيم الشيعي بأمر الإمام، وهي التي نشطت في كسب الأفراد إلى التنظيم ودفع أفراد أكثر، لم يرتفعوا في الفكر والنضج العملي إلى مستوى الانخراط في التنظيم، نحور التيار العام للحركة الشيعية.
والرواية التي أوردناها عن الإمام الصادق عليه السلام في بداية هذا الحديث، التي تذكر أن عدد المؤمنين بعد حادثة عاشوراء لم يتجاوز الثلاثة أو الخمسة، إنما تقصد أفراد هذه المجموعة الخاصة.. أي هؤلاء الذين كان لهم الدور الرائد الواعي في مسيرة حركة التكامل الثورية العلوية.
وعلى أثر النشاط المتستر الهادئ الذي قام به الإمام السجاد عليه السلام توسعت قاعدة هذه المجموعة، وإلى هذا يشير الإمام الصادق عليه السلام في الرواية المذكورة: "ثم لحق الناس وكثروا". وسنرى أن عصر الإمام تحرك هذا الجمع تحركاً أثار الرعب والفزع في قلوب الحكام الظالمين، ودفع هؤلاء الحكام إلى ردود فعل قاسية.
وبعبارة موجزة، فإن اسم الشيعة في القرنين الأول والثاني الهجريين وفي زمن الأئمة عليهم السلام ما كان يطلق على الذين يحبون آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو المؤمنين بحقهم وبصدق دعوتهم فقط، من دون اشتراك في مسيرتهم الحركية. بل إن الشيعة كانوا يتميزون بشرط أساسي وحتمي، وهم عبارة عن الارتباط الفكري والعملي بالإمام، والاشتراك في النشاط الفكري والسياسي، بل والعسكري الذي يقوده لإعادة الحق إلى نصابه، وإقامة النظام العلوي الإسلامي. هذا الارتباط هو نفسه الذي يطلق عليه في قاموس التشيع اسم "الولاية".
جماعة الشيعة كانت تطلق في الواقع على أعضاء حزب الإمامة. هذا الحزب الذي كان يتحرك بقيادة الإمام عليه السلام، وكان يتخذ من الاستتار والتقية خندقاً له مثل كل الأحزاب والتنظيمات المضطهدة التي تعيش في جو الإرهاب، هذه خلاصة النظرة الواقعية لحياة الأئمة عليه السلام، وخاصة الإمام الصادق عليه السلام، وكما ذكرنا من قبل لا يمكن أن يكون لمثل هذه المسألة دلائل صريحة، إذ لا يمكن أن نتوقع من بيت سري أن يجمل لافتة تقول: "هذا بيت سري"! وكذلك لا يمكن أن نطمئن إلى النتيجة دون قرائن حاسمة.
من هنا ينبغي أن نتتبع القرائن والشواهد والإشارات.