آية الله محمد إبراهيم جناتي/ ترجمة الشيخ أحمد وهبي
تبدأ هذه المرحلة من زمان شيخ الفقهاء وإمام المدققين الشيخ الأنصاري الدزفولي (قدس سره) (1214- 1281هـ) وتختتم بزمان المعلم الكبير العالم الملا محمد كاظم الخراساني (1255- 1329هـ).
هذه المرحلة من مراحل الفقه شهدت حركة فقهية دقيقة ومهمة، ووصلت الأبحاث الفقهية إلى قمة اتساعها، الفقيه في هذه المرحلة كان يتمتع بأعلى مرتبة من دقة النظر في البحث، وتطور الفقه من ناحية الدقة في الاستدلال بشكل ملحوظ.
رئيس هذه المرحلة ومنشىء هذه الطريقة هو المرحوم الشيخ الأنصاري، الذي بث في الأبحاث الفقهية روحاً جديدة وقدَّم آراء دقيقة وكاملة، وكان بهذا الأسلوب أمير قافلة المحققين الآخرين، كتابه الفقهي "المكاسب" شاهد حي على طرز تفكيره الفياض بالآراء العميقة والمباحث القيمة، ففي كتابه "المكاسب" وكتبه الأخرى استعمل أسلوباً جديداً في الاستدلال على الأحكام الدينية والمسائل الشرعية وخاصاً بها، ولا يتفق مع طريقة أي من أسلافه.
* خصوصيات كتاب "المكاسب":
الشيخ الأنصاري في كتاب "المكاسب" لم يستخدم في البداية أسلوب إقناع القارئ بالنظر بمحتوى الأدلة، بل عمل على الاستدلال العميق والدقيق في مجال كل مسألة، وجعل جميع نواحي الأدلة مورد البحث بدقة عالية وجهد في الجمع بينها بآرائه الصائبة كي لا يتعرض مثل الفقهاء الآخرين عند نقد وتحيل الأدلة للنقض والإشكال، فهو يعنون المسألة ثم يجزأها ويحللها علمياً، ويثبت لها حكماً، ثم يبد بمناقشتها بذكر مقدمات، ويوردها في الذهن ببيان جميل وقلم سيّال، بحيث يظنها المتعلم خالية من أي شبهة أو إشكال، بعد لك يضع المقدمات المذكورة موضع الإشكال ويبطلها جميعاً مع ذكر الدليل. عند ذلك يأتي للمسألة بأدلة أخرى ويثبت حكماً رخر، ويؤيد نظريته الجديدة بذكر أقوال الفقهاء الآخرين، وبعد ذلك كله يجعل مقدمات استدلاله في معرض المناقشة الدقيقة. ويأتي لها بدلائل محكمة لا تقبل النقض، وفي النهاية يبين حكم المسألة بشكل حاسم بالاستشهاد بأدلة من الكتاب والسنة وبتأييد من أقوال الفقهاء وعلماء اللغة.
أسلوب الشيخ الأنصاري المبتكر هذا في المسائل الفقهية أثار عجب معاصريه، وبقوا مدة من بعده عاجزين عن زيادة شيء عليه، واعترف كثير من المتأخرين عنه بنبوغه وتفوقه العلمي بين المتقدمين والمتأخرين. ومن هنا كان كتاب المكاسب مورد اهتمام منذ زمن تأليفه حتى الآن، لقد قام الفقهاء الكبار بتعليمه وتعلمه، وآراؤه الدقيقة مشهودة في جميع مباحثهم، وصارت معرفة جوانب مباحث الشيخ الدقيقة معياراً قيماً لامتحان قدرة الاجتهاد لدى طلاب العلم، من هذه الجهة توجه طلبة العلم في جميع الحوزات العلمية لدراسته وتعليمه وتعمله، حتى قال كثير من الفقهاء أن "كل من عرف آراء الشيخ الدقيقة في كتاب المكاسب فهو مجتهد".
وبما أن كتاب المكاسب يشتمل على معان دقيقة ومحتوى عميق فقد انطلق عدد كبير من الفقهاء لشرحه وتوضيحه وتبيين مسائله ولم يترددوا في هذا السبيل عن أي سعي.
* رجال عصر الشيخ الأنصاري:
هذه الحركة والقفزة الفقهية التي انطلقت من فكر الشيخ الصافي ستستمر برشد زائد، وفي هذا المجال ظهر نوابغ علماء، مثل:
1- الإمام المجدد كاظم الخراساني (1329هـ).
2- آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري، مؤسس الحوزة العلمية في قم (1355).
3- آية الله العظمى المجدد الميرزا محمد حسن الشيرازي (1312).
4- آية الله العظمى السيد محمد كاظم اليزدي (1337هـ).
5- آية الله العظمى الميرزا محمد تقي الشيرازي (1338هـ).
وفقهاء آخرون هم محور التحقيق ودقة النظر في المباني الفقهية والأصول والاستنباط.
* مرحلة التلخيص:
هذه المرحلة بدأت من زمن المرحوم آية الله العظمى الملا محمد كاظم الخراساني (قدس سره) (1255- 1329هـ)، وما زالت مستمرة حتى الآن، هذه المرحلة شهدت أسلوباً جديداً وطريقة بديعة وازدهاراً كبيراً من جهة التلخيص في الأبحاث الفقهية، وقد لخص الفقهاء الكتب الفقهية واستخرجوا مطالبها الخالصة، وزينوها بتحقيقاتهم المثيرة للإعجاب، وقدموها للمجتمع.
من رجل هذه المرحلة الكبار ومتصدري هذا الأسلوب الشيخ الخراساني الذي سعى لتحقيق المباني الفقهية على أسس متينة عبارات مختصرة وجميلة. وجمع في كتبه بين النظرة العميقة في الاستدلال والتوسعة في التحقيق والإيجاز في العبارة، فأعطى بهذا النحو حياة جديدة للفقه.
ألف الشيخ كتاب "اللمعات المنيرة في شرح تكملة البصيرة"، الذي طرح فيه كل أحكام الشريعة بأفضل وأجمل تقسيم وتنظيم، ولكن مع الأسف لم يمهله الأجل لينهي كتابه وقد حرر منه إلى مسألة "مكان المصلي" فقط.
ومن كتبه حاشية على فصلي البيع وخيارات كتاب مطالب الشيخ الأنصاري الذي عرض فيه أمهات المسائل الفقهية ببيان مختصر وذقة نظر وعمق.
إن حياة هذا الشيخ الكبير تعد بهذا الأسلوب نقطة تحول مهمة في الأبحاث الفقهية والأصولية وإلى جانب كل ذلك طرح أيضاً آراءً ونظريات جديدة في الفقه والأصول، لم تزل حتى الآن محط نظر الفقهاء ولم تقل أهميتها أبداً على مدى السنين.
هذا الشيخ الكبير كان يتمتع بقدرة خاصة في مجلس التدريس، وكان يجري أصول الفقه على فروعها المختلفة بمهارة كبيرة ويطبق القواعد الكلية على المصاديق، كان يجول على مقعد التدريس كالأسد المهاب وربى بجهده الذي لا يطرأ عليه التعب أكثر من ألف مجتهد في الفقه والأصول.
من علماء مرحلة التلخيص آية الله العظمى السيد محمد كاظم اليزدي قدس سره المتوفى (1337ه)، الذي عمل على التنقيح والتحقيق في المباني الفقهية ببيان واضح وقول لطيف، وألَّف كتاباً في شرح المكاسب، وبيَّن فيه آراءه الدقيقة ونظرياته العميقة في قالب من العبارات المختصرة، التي ما زال الفقهاء حتى الآن ينظرون إليها بعين الإعجاب.
ومن علماء هذه المرحلة آية الله العظمى ضياء الدين العراقي المتوفى سنة (1361ه) الذي قام بدوره بتحقيق وتلخيص المباني الفقهية بهذه الطريقة، وكان موفقاً بهذا الميدان، ألف كتاب "شرح تبصرة المتكلمين" وبيَّن تحقيقاته واستدلالاته العميقة بعبارات مضغوطة كالمرحوم الخراساني والمحقق اليزدي.
ومن علماء هذه المرحلة آية الله العظمى الشيخ محمد حسين الأصفهاني (1296- 1361ه) الذي بنى المباني الفقهية على أساس محكم وثابت،وبين تحقيقاته العميقة والواسعة بجمل قصيرة، من جملة الكتب ألف كتاب "الإجازة" و"الحاشية على المكاسب" المشتمل على تحقيق ودقة نظر وقوة استدلال وتلخيص، وابتعد عن فضول الكلام بشكل زائد عن الحد.
من أتباع هذا الأسلوب المرجع الكبير آية الله العظمى السيد محسن الحكيم (1306- 1390ه) مؤلف كتاب "مستمسك العروة الوثقى" المستمسك كتاب فقهي قيم من جهة الترتيب والتنظيم والدقة وقدرة الاستدلال وتلخيص المسائل الفقهية لا نظير له في هذه المرحلة، وهو أول كتاب قدم للمجتمع العلمي بهذا الشكل الكامل، وقد نال المرحوم الحكيم بتأليف هذا الكتاب مقام الريادة لقافلة محققي هذه المرحلة، ن كل تحقيق حول كتاب "العروة الوثقى" مرجعه الأساسي كتاب المستمسك لأن هذا الكتاب مهَّد الطريق للآخرين.
من هذه الجهة نال هذا الكتاب إعجاب علماء هذه المرحلة وصارت مطالبه مورد عناية المحققين والمدرسين وقد طبع حتى الآن خمس مرات بسبب الإقبال الكبير عليه.
وما زالت قافلة الفقاهة تسلك الطريق في سبيل التطور والتكامل، وتزدهر على يد العلماء والفقهاء الكفوءة وتنتهي إلى أفق مشرق ومنير، وقد ترك الفقهاء العلماء مجموعات فقهية كبيرة وتأليفات جمة بأساليب وطرق مختلفة، وهي زينة المكتبات والمراكز العلمية المهمة، وهكذا كانت منابعنا الفقهية الحاضرة في المرحلة الأخيرة أكثر فائدة من جميع المنابع الإسلامية القديمة ببركة وجهد وجهاد وسعي فقهاء الإسلام الدائم والمضني على طول التاريخ.
تقبل الله تعالى مساعيهم جميعاً، وأعطاهم عن الإسلام والمسلمين أفضل الثواب إنه سميع مجيب.