الإمام الخامنئي (دام ظله)
في الحلقة الماضية تحدث الإمام القائد (دام ظله) عن معالم حياة الإمام الصادق عليه السلام حيث كان المعلم الأول حول مسألة تبيين الإمامة والدعوة إليها، وفي هذه الحلقة يتحدث عن النشاط الفكري له عليه السلام.
هذا النشاط يمكن ملاحظته أيضاً في حياة الإمام الصادق عليه السلام بشكل متميز عما نراه في حياة بقية أئمة آل البيت عليه السلام، حتى سمي فقه الشيعة باسم "الفقه الجعفري"، حتى الذين يغضون الطرف عن النشاط السياسي للإمام الصادق عليه السلام يجمعون على أن الإمام كان يدير أوسع أو واحدة من أوسع الحوزات الفقهية في زمانه. والذي بقي مستوراً عن أعين أغلب الباحثين في حياة الإمام، هو المفهوم السياسي ومفهوم المواجهة لهذا اللون من نشاطات الإمام، وهذا ما سنتعرض له الآن.
لا بد أن نذكر أولاً، أن منصب الخلافة في الإسلام له خصائص متميزة تجعل الحاكم متميزاً عن الحكام في أنظمة الحكم الأخرى. فالخلافة ليست جهازاً سياسياً فحسب، بل هي جهاز سياسي - ديني. وإطلاق لقب الخليفة على الحاكم الإسلامي يؤيد هذه الحقيقة، فهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في كل ما كان يمارسه الرسول من مهام دينية ومهام قيادية سياسية في المجتمع.
والخليفة في الإسلام يتحمل المسؤوليات السياسية والمسؤوليات الدينية معاً. هذه الحقيقة الثابتة دفعت الخلفاء الذين جاؤوا بعد الخلفاء الأولين والذين كانوا ذوي حظ قليل في علوم الدين، أو لم يكن لهم منه حظ أصلاً، دفعتهم إلى سدّ هذا النقص عن طريق رجال دين مسخّرين لهم. فاستخدموا فقهاء ومفسّرين ومحدُّثين في بلاطهم، ليكون جهازهم الحاكم جامعاً أيضاً للجانبين الديني والسياسي.
والفائدة الأخرى من وجود وعاظ السلاطين في الجهاز الحاكم، هي أن الحاكم الظالم المستبد كان قادراً متى ما أراد أن يغير ويبدل أحكام الدين وفقاً للمصالح، وكان هؤلاء المأجورون يقومون بهذه العملية إرضاءً لأولياء نعمتهم، تحت غطاء من الاستبناط والاجتهاد ينطلي على عامة الناس.
الكتّاب والمؤرخون المتقدمون ذكروا لنا نماذج فظيعة من اختلاق الحديث ومن التفسير بالرأي كانت يد القوة السياسية فيها واضحة، وسنشير إلى جانب منها في أقسام حديثنا التالية. هذا العمل الذي اتخذ غالباً في البداية (حتى أواخر القرن الهجري الأول) شكل وضع رواية أو حديث، راح تدريجياً يأخذ طابع الفتوى. ولذلك نرى في أواخر عصر بني أمية وأوائل عصر بني العباس ظهور فقهاء كثيرين استفادوا من أساليب رجراجة في أصول الاستنباط، ليصدروا الأحكام وفق أذواقهم التي كانت في الواقع أذواق الجهاز الحاكم.
هذه العملية نفسها أنجزت أيضاً في حقل تفسير القرآن. فالتفسير بالرأي اتجه غالباً إلى إعطاء مفاهيم عن الإسلام لا تقوم على أساس سوى ذوق المفسّر ورأيه المستمد من ذوق الجهاز الحاكم وإرادته.
من هنا انقسمت العلوم الإسلامية: الفقه والحديث والتفسير منذ أقدم العصور الإسلامية إلى تيارين عامين:
التيار الأول: تيار يرتبط بجهاز الحكومة الظالمة الغاصبة، ويتميز بتقديم الحقيقة في موارد متعددة قرباناً على مذبح "المصالح" التي هي ف الواقع مصالح الجهاز الحاكم، ويتميز أيضاً بتحريف أحكام الله لقاء دراهم معدودات.
والتيار الثاني: التيار الأصيل الأمين الذي لا يرى مصلحة أرفع وأسمى من تبيين الأحكام الإلهية الصحيحة، وكان يصطدم - شاء أم أبى - في كل خطوة من خطواته بالجهاز الحاكم ووعاظ السلاطين، ولذلك اتجه منذ البدء اتجاهاً شعبياً في إطار من الحيطة والحذر.
انطلاقاً من هذا الفهم نعرف بوضوح أن اختلاف "الفقه الجعفري" مع الفقهاء الرسميين في زمن الإمام الصادق لم يكن اختلافاً فكرياً عقائدياً فحسب، بل كان اختلافاً يستمد وجوده من محتواه الهجومي المعرض أيضاً.
أهم أبعاد هذا المحتوى إثبات خواء الجهاز الحاكم، وفراغه من كل الشؤون الفكرية للأمة، بعبارة أخرى، عدم صلاحيته للتصدّي لمنصب "الخلافة". والبعد الآخر الرسمي هذه التحريفات القائمة على أساس فكر "مصلحي" في بيان الأحكام الفقهية ومداهنة الفقهاء للجهاز الحاكم، والإمام الصادق عليه السلام بنشاطه العلمي وتصديه لبيان أحكام الفقه والمعارف الإسلامية، وتفسير القرآن بطريقة تختلف عن طريقة وعاظ السلاطين قد اتخذ عملياً موقف المعارضة تجاه الجهاز الحاكم، الإمام عليه السلام بنشاطه هذا قد يلغي كل الجهاز الديني والفقهي الرسمي الذي يشكل أحد أضلاع حكومة الخلفاء، ويفرّغ الجهاز الحاكم من محتواه الديني.
ليس بأيدينا سند ثابت يبين التفات الجهاز الأموي إل هذا المحتوى المعارض لما قام به الإمام الصادق عليه السلام من نشاط علمي فقهي. ولكن أغلب الظن أن الجهاز الحاكم العباسي وخاصة في زمن المنصور الذي كان يتمتع بحنكة وذكاء وتجربة اكتسبها من صراعه السياسي الطويل مع الحكم الأموي قبل وصوله إلى السلطة كان يعي المسائل الدقيقة في نشاطات البيت العلوي، وكان الجهاز الحاكم العباسي يفهم الدور الفاعل الذي يستطيع أن يؤديه هذا النشاط العلمي بشكل غير مباشر.
والتهديدات والضغوط والمضايقات التي كانت تحيط بنشاطات الإمام الصادق عليه السلام التعليمية والفقهية من قبل المنصور المنقولة إلينا في روايات تاريخية كثيرة ناتجة من هذا الالتفات إلى حساسية المسألة. وهكذا اهتمام المنصور بجمع الفقهاء المشهورين في الحجاز والعراق في مقرّ حكومته، كما تدل على ذلك النصوص التاريخية العديدة. فإنه ناشيء عن هذا الالتفات أيضاً.
في حديث الإمام عليه السلام وتعاليمه لأصحابه ومقربيه كان يستند إلى "خواء الخلفاء وجهلهم" ليستدل على أنهم في نظر الإسلام لا يحق لهم أن يحكموا. ونحن نشهد هذه الصيغة من الهجوم على الجهاز الحاكم بوضوح وصراحة في دروسه الفقهية.
يروى عنه قوله عليه السلام: "نحن قوم فرض الله طاعتنا وأنتم تأتمون بمن لا يعذر الناس بجهالته".
أي أن الناس انحرفوا بسبب جهل حكامهم وولاة أمرهم، وسلكوا سبيلاً غير سبيل الله، وهؤلاء غير معذورين لدى الله، لأن إطاعة هؤلاء الحكام كانت عملاً انحرافياً، فلا يبرّر ما يستتبعها من وقوع في الانحرافات.
في تعليمات الأئمة عليه السلام قبل الإمام الصادق عليه السلام وبعده نرى أيضاً تركيزاً على ضرورة اقتران القيادة السياسية بالقيادة الفكرية والأيديولوجية. ففي رواية عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام عن جده الإمام محمد الباقر عليه السلام قال: "إنما مثل السلاح فينا مثل التابوت في بني إسرائيل، أينما دار التابوت دار الملك (تأمل بدقة المعنى الرمزي في التعبير) وأينما دار السلاح فينا دار العلم.. وفي رواية أخرى: حيثما دار السلاح فينا فثمَّ الأمر (الحكم)".
ويسأل الراوي الإمام: فيكون السلاح مزايلاً (مفارقاً) للعلم؟
قال الإمام: لا. أي إن قيادة المجتمع المسلم يجب أن تكون في من بيده السلاح والعلم معاً.
الإمام عليه السلام إذاً يرى أن علم الدين وفهم القرآن بشكل صحيح شرط من شروط الإمامة، ومن جهة أخرى فهو بنشاطه العلمي، وجمع عدد غفير من مشتاقي علوم الدين حوله، وتعليه الدين بشكل يختلف تماماً عن الطريقة المعتادة لدى العلماء والمحدثين والمفسرين المرتبطين بجهاز الخلافة، يثبت عملياً أصالة المحتوى الديني لمدرسته، وزيف الظاهر الديني الذي يتقمصه جهاز الخلافة ومن لف لفه من علماء بلاطه، وعن هذا الطريق المهاجم المتواصل العميق الهادئ يضفي على جهاده بعداً جديداً.
وكما ذكرنا من قبل، فإن الحكام العباسيين الأوائل الذين قضوا سنين طوالاً قبل تسلمهم السلطة في نفس أجواء الجهاد العلوي وإلى جانب أنصار العلويين، كانوا على علم بكثير من الخطط والمنعطفات، وكانوا متفهمين لدور الهجوم والمواجهة الذي يؤديه هذا النشاط في الفقه والحديث والتفسير أكثر من أسلافهم الأمويين. وقد يكون هذا السبب هو الذي دفع المنصور العباسي في مواجهاته مع الإمام الصادق عليه السلام أن يمنع الإمام زمناً من الجلوس في حلقات التدريس وعن تردّد الناس عليه. حتى أن المفضل بن عمر يقول: "إن المنصور قد كان همّ بقتل أبي عبد الله عليه السلام غير مرة، فكان إذا بعث إليه ودعاه ليقتله فإذا نظر إليه هابه ولم يقتله، غير أنه منع الناس عنه ومنعه من القعود للناس، واستقصى عليه أشد الاستقصاء، حتى أنه كان يقع لأحدهم مسألة في دينه في نكاح أو طلاق أو غير ذلك فلا يكون علم ذلك عندهم، ولا يصلون إليه فيعتزل الرجل وأهله فشق ذلك على شيعته وصعب عليهم...".