السيد علي فحص
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (البقرة: 185).
وفي الحديث القدسي: (الصوم لي وأنا أجزي به).
إن خير وأهم مرجع نرجع إليه لإدراك وفهم حقيقة الصيام والأهداف من تشريعه وتاريخه عند الشعوب والأمم السابقة وطرفاً من أحكامه وضروراته هو القرآن الكريم كتاب الهدى والبينات ربيع القلوب المنزَّل في ربيعه شهر رمضان المبارك، ولهذا كانت هذه القراءة للصيام عند العلامة المفسر الكبير العلامة الطباطبائي حيث يرى أن في افتتاح الخطاب القرآني عند الحديث عن الصيام حكمة من قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا) فيعتبر أن الإتيان بالخاطب بهذه اللغة هو تذكير للمؤمنين يوصف فيهم هذا الإيمان ويوجب عليهم عند الالتفات إليه أن يقبلوا ويلتزموا بكل التشريعات والأحكام الإلهية وإن كانت على خلاف أهوائهم وعاداتهم.
ثم يعتبر العلامة قدس سره أن التعبير ب (كتب عليكم) هو كناية ع الفرض والعزيمة والقضاء الحتم وعلى ليس على المسلمين فقط بل لعيهم وعلى الأمم والشعوب التي سبقت الإسلام كأمة موسى وأمة عيسى عليه السلام وإن كان هذا الفرض من حيث الأصل مشتركاً وقد يختلف من حيث التفاصيل والوقت والخصوصيات والأوصاف، والتوراة والإنجيل مدحاً الصوم وعظما أمره وإن صام اتباعهما بأشكال مختلفة من قبيل الصوم عن اللحم والصوم عن اللبن والصوم عن الأكل والشرب، وقد ذكر القرآن الكريم قصة صوم زكريا عن الكلام وكذلك صوم مريم عليه السلام بل أن الصوم عبارة مأثورة عن المصريين القدماء واليونانيين القدماء والوثنيين الهنود وغيرهم بل كونها عبادة قريبة مما تهتدي إليه الفطرة البشرية.
ثم يبين العلامة قدس سره أن الهدف م الصيام هو تحصيل التقوى لأن اللم السابقة وأهل الأوثان بالتحديد كانوا يصومون لترضى عنهم آلهتهم أو لإطفاء ثائرة غضبها إذا أجرموا أو عصوا أو أرادوا إنجاح حاجة ما فيصبح الصوم معاملة يعطى بها الرب حاجته ليعطي لهم حاجتهم كعبد ويقضيها لهم.
والرب تبارك وتعالى امنع جانباً من أن يتصور في حقه فقر أو حاجة أو تأثر أو أذى أو أذىً فالعبادة والصوم منها يرجع للعبد دون الرب تعالى وتقدس.
فالتقوى هي مرجوة الحصول من الصيام وهذا لا ريب فيه، فالإنسان يشعر بفطرته أن من أراد الاتصال بعالم الطهارة والرفعة والارتقاء إلى درجة الكمال والروحانية، فأول ما يلزمه التنزه عن الاسترسال في استيفاء لذائذ الجسم وينقبض عن الجماع في شهوات البدن وبتقدس عن الإخلاد إلى الأرض فهذه التقوى إنما تحصل بالصوم والكف عن الشهوات وعموم الناس من أهل الدنيا وأهل الآخرة هم بحاجة ماسة إلى أن يتقوا ما تعم به البلوى من المشتهيات المباحة كالأكل والشرب وغيرها حتى يحصل لهم التدرب على اتقاء المحرمات واجتنابها وتتربى على ذلك إرادته في الكف عن المعاصي والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فإن من أجاب داعي الله في المشتهيات المباحة وسمع وأطاع فهو في محارم الله ومعاصيه أطوع.
ثم أن فريضة الصوم صيغ خطاب التكليف بها بالتنكير للدلالة على تحقير التكليف من حيث الكلفة والمشقة تشجيعاً للمكلف حتى لا يستعظم هذه الفريضة الهامة التي يفترض أن يأتي بها المكلف عن رضا ورغبة بلا كره ولا استثقال وإن كانت عبارة ملزمة لكنها خير والتطوع بها خير.
ثم يشير العلامة الطباطبائي (قدس سره) إلى أن الشهر الوحيد الذي ذكر في القرآن الكريم هو شهر رمضان المبارك أنه أنزل فيه القرآن الكريم دفعة على قلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، و يخلص العلامة إلى نتيجة مفادها أن القرآن المنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم تدريجياً متكئ على حقيقة متعالية عن أن تدركها أبصار العقول العامة أو تتناولها أيدي الأفكار المتلوثة بألواث الهوسات وقذارات المادة وأن تلك الحقيقة أنزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنزالاً فعلمه إليه بذلك حقيقة ما عناه بكتابه الكريم.
ثم إن هذا الكتاب الكريم أنزل (هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) فالهدى لأهل التقليد الذين لا يسعهم تمييز الأمور المعنوية بالبينة والبرهان ولا فرق الحق من الباطل بالحجة إلا بمبين لهم وهادٍ يهديهم القرآن هدى لهم ونعم الهدى وأما الخاصة المتكلمون من ناحيتي العلم والعمل المستعدون للاقتباس من أنوار الهداية الإلهية والركون إلى فرقان الحق، فالقرآن بينات وشواهد من الهدى والفرقان في حقهم فهو يهديهم إليه ويميز لهم الحق.
ثم يبين العلامة قدس سره أصل الصيام الغرض منه للمتلبس بالصوم إظهار كبريائه تعالى بما نزل عليهم القرآن وأعلى ربوبيته وعبوديتهم وشكر له بما هداهم إلى الحق وفق لهم بكتابه بين الحق والباطل، ولما كان الصوم إنما يتصف بكونه شكراً لنعمه إذا كان مشتملاً على حقيقة معنى الصوم وهذا الإخلاص لله سبحانه وتعالى في التنزه عن ألواث الطبيعة والكف عن أعظم مشتهيات النفس بخلاف اتصافه بالتكبير لله فإن صورة الصوم والكف سواء اشتمل على إخلاص النية أو لم يشتمل يدل على تكبيره تعالى وتعظيمه فرق بين التكبير والشكر، فقرن الشكر بكلمة الترجي دون التكبير فقال ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ كما قال في أول الآيات لعلكم تتقون﴾.
وهذا يعطي ما يستفاد من كلام العلامة حول فريضة الصيام من خلال الآيات.
وفقنا الله لصيامه وقيامه إنه ولي الإجابة وهو على كل شيء قدير.