ها قد أقبل شهر رمضان المبارك، شهر الله الأعظم، والقلب ملتاع ما بين نارين: نار الشوق والفرح والاستبشار ونار الخوف والحذر والاضطراب.
أما الاستبشار فلما في هذا الشهر الكريم من الخير واليمن والبركة كما أخبر به الصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته المعروفة حين قال: أيها الناس إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله وجعلتم فيه من أهل كرامة الله.
الله، الله، يا رسول الله، ما أحسن هذا الحديث وأعذبه على القلب! حتى أن إبليس لو سمعه لاشرأبت عنقه طمعاً في الرحمة والمغفرة.
وأما الاضطراب، والقلق، والغصة بعد الغصة فلسرعة انقضاء أيامه وتصرُّم لياليه مع قصور الحال، وقلة الاستعداد، فبينا نحن في استقباله مستبشرين فإذا به يشرف على التوديع، فيا لها من حسرة أن يزول عنا من دون التزود من نفحاته الإلهية فالشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم.
* الصوم:
وهو أول ما يطالعنا من النفحات الرمضانية، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾.
فالصوم عبادة لها طعم ولا أحلى، ولها مذاق ولا أطيب، وثمرته الحسنى تقوى الله عز وجل والإخلاص له، قال تعالى ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ وفي الخطبة الغراء للسيدة الزهراء عليها السلام أن الصلاة معراج للمؤمن، والزكاة تنمية للرزق، أما الصوم فتثبيت للإخلاص.
ولعل وجه اختصاص الصوم بتثبيت الإخلاص أن المنافق لا يؤدي هذه العبادة عادة، فهي عبادة ذاتية نفسية باطنية تحتاج إلى صبر وتحمل طيلة النهار وهو ما لا يتصف به المنافق وخاصة مع إمكان التواري عن الناس في بعض الفترات، فالصوم عبادة خاصة بالمؤمن تأخذ بيده إلى الإخلاص والتقوى وأي تقوى!
إنها تقوى القلب عن النظر إلى كل ما عدا الله، وعن التعلق بكل ما سوى الله عز وجل ليصبح لائقاً بالنظر إلى وجهه الكريم والحضور في دار ضيافته وكرامته، أليس هو القائل عز وجل: الصوم لي وأنا أجزي به.
إنه الاستجابة الحية للمناجاة التي طالما ناجى المؤمن بها طيلة أيام شعبان مردداً مع أمير المؤمنين عليه السلام:
إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلقة بعز قدسك.
إلهي واجعلني ممن ناديته أجابك ولاحظته فصعق لجلالك فناجيته سراً وعمل لك جهراً.
* عام الحزن:
وتمضي العشرة الأولى من لاشهر المبارك فتعود الذاكرة بنا إلى مصاب جلل أصاب الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم في عام واحد وفي شهر واحد، حتى سُمي ذلك العام بعام الحزن، ففي العاشر من شهر رمضان افتقد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أول من صدقت به من النساء، ومن واسته بنفسها ومالها وأفنت ثمرة عمرها في خدمة رسالته الإلهية، إنها السيدة الكاملة أم المؤمنين خديجة الكبرى رضوان الله تعالى عليها، وفي الثالث عشر منه افتقاد صلى الله عليه وآله وسلم الكفيل السند والمحامي المدافع عمه أبا طالب، رضوان الله تعالى عليه الذي لم تتجرأ قريش أن توصل الأذى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حال حياته.
فحري بالمؤمن أن يواسي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المصاب.
* ريحانة المصطفى
وينتصف الشهر المبارك، فتعود الفرحة لتغمر القلوب والبهجة تملأ الأرجاء، ولد سبط الرسول، ولد ريحانة المصطفى، ولد الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام. وأي عزيز هو على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لقد تلقاه وأذن له وأقام، وسمَّاه وشمه وضمه، وكان يقول: اللهم إن هذا ابني وأنا أحبه فأحبه وأحب من يجبه.. فليلتفت الصائم لبركة هذا اليوم، فالغفلة عن التعرض لنفحاته نقصان حظ.
* بدر الكبرى:
وتتوالى الذكريات وتتعاظم النعم وتكثر الآلاء، نستذكر ذلك العز والعنفوان في السابع عشر من هذا الشهر العظيم، نستذكر الإرادة الحديدية والتوكل على الله بحقيقة التوكل وكمال الصدق حتى أنزل تعالى النصر المؤزر وتغلبت تلك الثلة القليلة بعدتها وعتادها، الكثيرة بإيمانها ومعنوياتها على قريش العظيمة وأذاقتها ذل الهوان ومر الهزيمة.
ولله الحمد لم يعد الأمر مجرد ذكرى، فهذه شباب المقاومة الإسلامية وليوثها الأبطال يجددون بجهادهم وتضحياتهم بدراً الكبرى في كل يوم والله تعالى يمدهم بالنصر تلو النصر لما رأى من إخلاصهم له وصدق توكلهم عليه سبحانه.
* الفاجعة الكبرى:
وتدور الأيام (وتلك الأيام نداولها بين الناس) ويفجع المؤمنون والعالم الإسلامي بأعظم فاجعة بعد فقد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعزيزته الزهراء عليه السلام ويتقدم اللعين ابن ملجم المرادي في التاسع عشر من هذا الشهر ليهوي بالسيف على أم رأس الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، الذي صاح صيحته الخالدة: فزت ورب الكعبة.
ولكن أي فوز؟ نعم إنه الفوز بالشهادة، لقد أبكت هذه المصيبة العظيمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل حدوثها بعشرات السنين في آخر خطبته المعروفة في استقبال شهر رمضان، حيث تخضبت لحيته الكريمة بدموعه المباركة، ولما سأله أمير المؤمنين عن ذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: أبكي لما يستحل من دمك في هذا الشهر.
والمؤمن الموالي يحزن لحزنهم عليهم السلام فكيف في مثل هذه المصيبة الفادحة فينبغي استشعار الحزن والتبرؤ من أعدائهم ولعن قاتليهم فذلك شرط أساسي لإدراك ليلة القدر، أليسوا هم باب الله الذي منه يؤتى؟!
* ليالي القدر!
سبحانك يا رب، ما أعظم كرمك وأجزل عطاياك إذ لم تكتف بالبركات العميمة لهذا الشهر العظيم حتى خصصته بليلة القدر، وأنزلت فيها القرآن العظيم، وجعلتها خيراً من ألف شهر، وفتحت باب الرحمة واسعاً بما ليس بعده من سعة ثم دعوت عبادك المؤمنين واستضفتهم فيها.
فأين القانطون؟ وأين البائسون؟ وأين المسرفون على أنفسهم؟ اسمعوا إلى قوله تعالى؛ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) بكل تأكيد لا ييأس بعد هذه الآية وفي هذه الليلة المباركة إلا كل كافر سيء الظن بالله عز وجل، نعوذ بالله من ذلك.
* يوم القدر:
ثم تأتي الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك، أفضل أيام السنة على الإطلاق، فشهر رمضان هو أفضل شهور السنة، والعشرة الأخيرة أفضل أيامه، والجمعة هو أفضل أيام الأسبوع فتكون الجمعة الأخيرة من شهر رمضان أفضل أيام السنة، ولذلك فقد اعتبره الإمام قدس سره يوماً من أيام القدر الإلهية، واختاره يوماً عالمياً للقدس، القضية الإسلامية المركزية في هذا العصر، فلا ينبغي الغفلة عن بركات هذا اليوم، فإحياؤه إحياء للإسلام وترك ذلك إعانة للكفر والظلم والنفاق.
* الوداع
وفي ختام الشهر لا يسعنا إلا أن نودعه بالحسرات والأسى ونردد مع الإمام زين العابدين عليه السلام:
السلام عليك يا شهر الله الأكبر ويا عيد أوليائه.
السلام علي يا أكرم مصحوب من الأوقات ويا خير شهر في الأيام والساعات.
السلام عليك من قرين جل قدره موجوداً وأفجع فقده مفقوداً ومرجو ألم فراقه.
السلام عليك من مجاور رقت فيه القلوب وقلت فيه الذنوب.
السلام عليك من شهر لا تنافسه الأيام، السلام عليك من شهر هو من كل أمر سلام
السلام عليك من مطلوب قبل وقته، ومحزون عليه قبل فوته...
السلام عليك ما كان أحرصنا بالأمس عليك، وأشد شوقنا غداً إليك.