مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

معالم حياة الإمام الصادق عليه السلام



الإمام الخامنئي (دام ظله)


يشكل تبيين مسألة الإمامة والدعوة إليها أبرز، منذ السنوات الأولى التي أعقبت رحيل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، كانت مسألة إثبات إمامة أهل البيت عليه السلام تشكل طليعة الدعوة في كل أعصار الإمامة، هذه المسألة نشاهدها أيضاً في ثورة الحسين بن علي عليه السلام ، ونشاهدها بعد ذك أيضاً في ثورات أبناء أئمة أهل البيت، مثل زيد بن علي ودعوة الإمام الصادق عليه السلام لم تخرج عن هذا النطاق أيضاً.

ولإثبات هذه الحقيقة التاريخية، أماما روايات متضافرة تنقل ذلك بوضوح وصراحة عن الإمام الصادق عليه السلام وكما سنوضح فيما بعد، أن الإمام حين يعلن دعوته هذه كان يرى نفسه في مرحلة من الجهاد تستدعي أن يرفض بشكل مباشر صريح حكام زمانه، وأن يعلن نفسه بأنه صاحب الحق الواقعي، وصاحب الولاية والإمامة.

المسألة الأخرى، التي لا بد من التركيز عليها في هذا المجال، أن الإمام ما كان يكتفي فيبعض الموارد بإثبات إمامته وحسب، بل يذكر إلى جانب اسمه أسماء أئمة الحق من أسلافه أيضاً، أي إنه يطرح في الحقيقة سلسلة أئمة أهل البيت بشكل متصل غير قابل للتجزئة والانفصال.
هذا الموقف يشير إلى ارتباط جهاد أئمة أهل البيت عليهم السلام وتواصله من الأزمنة السابقة إلى عصر الإمام الصادق عليه السلام، وأن الإمام الصادق عليه السلام يقرر إمامته باعتبارها النتيجة الحتمية المترتبة على إمامة أسلافه، وبذلك يبين جذور هذه الدعوة وعمقها في تاريخ الرسالة الإسلامية، وارتباطها بصاحب الدعوة الرسول الأكرم عليه أفضل الصلاة والسلام، ولنعرض بعض نماذج دعوة الإمام.
أروع رواية في هذا الباب عن "عمرو بن أبي المقدام" وفيها تصوير لواقعة عجيبة.

في يوم التاسع من ذي الحجة اجتمع الحجاج في عرفة لأداء منسك الوقوف، وقد توافدوا على هذا الصعيد من كل فج عميق... من أقصى خراسان حتى سواحل الأطلنطي... والموقف حساس وخطير، والدعوة فيه تستطيع أن تجد لها صدى في أقاصي العالم الإسلامي. انضمّ الإمام عليه السلام إلى هذه الجموع الغفيرة المحتشدة، ليوصل إليها كلمته، يقول الراوي: رأيت الإمام قد وقف بين الجموع ورفع صوته عالياً ليبلغ أسماع الحاضرين ولينتقل إلى آذان العالمين وهو ينادي:
"يا أيها الناس، إن رسول الله كان الإمام ثم كان علي بن أبي طالب، ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بنعلي ثم..." فينادي ثلاث مرات لمن بين يديه، وعن يمينه وعن يساره ومن خلفه، اثني عشر صوتاً.
ورواية أخرى عن "أبي الصباح الكناني" أن الإمام الصادق عليه السلام يصف نفسه وأئمة الشيعة بأن لهم "الأنفال" و"صفو المال".

عن أبي الصباح قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: "يا أبا الصباح، نحن قوم فرض الله طاعتنا، لنا الأنفال ولنا صفو المال، ونحن الراسخون في العلم، ونحن المحسودون الذين قال الله في كتابه".
و "صفو المال" هو من الأموال ذات القيمة الرفيعة في غنائم الحرب، وكان لا يقسم كما تقسم الغنائم بين المجاهدين، كي لا يستأثر به أحد دون آخر، ويكون كرامة كاذبة لأحد من الناس، بل إنه يبقى لدى الحاكم الإسلامي يتصرف به لما يحقق مصلحة عامة المسلمين. وكان الحكام الظلمة يستأثرون بهذا المال ويجعلونه مختصاً بهم غصباً. والإمام يصرح بأن "صفو المال" يجب أن يكون لهم، وهكذا الأنفال. وهذا يعني أنه يعلن نفسه بصراحة حاكماً شرعياً للمسلمين مسؤولاً عن اسثتمار هذه الأموال وفق ما يراه تحقيقاً لمصلحة الأمة.

وفي حديث آخر يذكر الإمام الصادق عليه السلام أسماء أسلافه من الأئمة عليهم السلام واحداً واحداً، ويشهد بإمامتهم وبوجوب طاعتهم، وحين يعلمون جيداً أن ميراث العلم والحكم بعد الإمام الباقر عليه السلام وصل إلى الإمام الصادق. وبذلك يعلن الإمام عليه السلام حقه في قيادة الأمة بأسلوب يجعله مرتبطاً بجدّه علي بن أبي طالب عليه السلام. وفي أبواب كتاب الحجة من "الكافي" وكذلك في الجزء 47 من "بحار الأنوار" أحاديث كثيرة من هذا القبيل، تتحدث بصراحة أو بكناية عن إعلان الإمامة والدعوة إليها.

ثمة حقائق أخرى تبين محتوى دعوة أئمة أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم إلى الإمامة، تعرضها المناقشات والمجادلات بينهم وبين خصومهم السياسيين (الأمويين والعباسيين). هذه المنازعات كانت تدور أحياناً بلغة الاستدلال الكلامي والديني، وأحياناً بلغة الأدب الرفيه المتثمل بالشعر. وكان كل الحجاج يقوم على أساس إثبات حق الإمامة السياسية و الحكم لأئمة أهل البيت عليه السلام، ومقارعة المتربعين ظلماً وغصباً على كرسي الإمام الصادق عليه السلام - لمعاصرته حركة بني العباس وانتصار هذه الحركة - كان مفعماً بهذا اللون من الحجاج.

كان شعراء بني العباس يحاولون أثبات حق الحكم لبني العباس استناداً إلى الأدلة نفسها التي يقدمها عادة الطامعون إلى السلطة والمتشبثون بكرسي الحكم. ويقف شعراء الشيعة مقارعين لحججهم مستدلين على زيف الحكم العباسي من منطق إسلامي، يقوم على أساس رفض الظلم والإجرام والخيانة بحق الأمة الإسلامية.

وللحجاج الشعري بين العباسيين والعلويين أهمية في هذا المجال، لما كان ينهض به الشعر آنئذٍ من دور كبير في التعبير عن العواطف والأفكار، ولما كان يؤديه في القاعدة الشعبية من تأثير. يذكر صاحب كتاب "العباسيون الأوائل" دور الأدب في القرنين الأول والثاني فيقول:
"... كان الأدب يؤثر في النفوس ويكسف عواطف الناس وميولهم إلى هذه الفئة أو تلك، وكان الشعراء والخطباء بمثابة جريدة العصر، يعبر كل منهم على رأي سياسي ويدافع عن حزب معين، مبرزاً الدليل تلو الدليل على صحة دعواه، مفنداً آراء الخصوم بكلام مؤثر وأسلوب بليغ".
شعراء البلاط العباسي كانوا يجتهدون في إثبات حق العباسيين ف الخلافة، باعتبار ارتباطهم بالنبي عن طريق العمومة، مستدلي على ذلك بأن الإرث لا ينتقل إلى أبناء البنت مع وجود الأعمام. فالخلافة بعد النبي من حق العباس عم النبي ومن بعده أبناؤه من بني العباس. قال مروان بن أبي حفصة:
 

أنّى يكون وليس ذاك بكائن‏

لبني البنات وراثة الأعمام‏


وقال إبان بن عبد الحميد اللاحقي:
 

فأبناء عباس هم يرثونه‏

كما العم لابن العم في الإرث قد حجب‏


منطلقين من عاطفة لاشعور بالظلم للرد على هذه الأدلة، بالمنطق نفسه، وأحياناً بمنطق آخر للاستدلال على حق أئمة أهل البيت في الإمامة. من ذلك استدلالهم بحديث غدير خم كقول السيد الحميري:
 

من كنت مولاه فلهذا له‏

مولى فلم يرضوا ولم يقنعوا


ويردّ محمد بن يحيى بن أبي مرة التغلبي على استدلال الشاعر العباسي بشأن وراثة الأعمام فيقول:
 

لم لا يكون وإن ذاك لكائن‏

لبني البنات وراثة الأعمام‏

للبنت نصف كامل من ماله‏

والعم متروك بغير سهام‏

ما للطليق وللتراق وإنما

صلّى الطليق مخافة الصمصام‏


ويرى دعبل أن كل ما حل بأهل البيت عليهم السلام من مصائب إنما هو لأنهم ورثوا البني، فتكالب على هذا الإرث الطامعون، وأضروا بمن له الحق في الإمامة:
 

أضرّ بهم إرث النبي فأصبحوا

تساهم فيهم خيفة ومنون‏

دعتهم ذائب من أمية وانتحت‏

عليهم دراكاً أزمة وسنون

وعاثت بنو العباس في الدين عيثة

تحكم فيها ظالم وخؤون‏

وسمّوا رشيداً ليس فيهم لرشده‏

وها ذاك مأمون وذاك أمين‏

فأقبلت بالرشد منهم رعاية

ولا للولي بالأمانة دين


‏وليس من العسير على الباحث في العصر العباس الأول أن يجد مئات النماذج من المحاورات والمناظرات السياسية بلغة الشعر في هذا المجال.
وكان شعراء الشيعة وخصومهم يقيمون الحجج على دعواهم. وليس من المهم أن نعرف في هذه المواجهة مقدار صحة هذه الحجج واستقامتها، ولكن من المهم أن نعرف المحور الذي يدور حوله النزاع وهو وراثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحكم وفي قيادة المسلمين.
ليس النزاع بين الجانبين العلوي والعباسي في وراثة الخصال الأخلاقية والمعنوية والفكرية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ليس الخلاف في أحقية هذا أو ذاك في وراثة هذه الخصال، وإن هذه الخصال لا تشكل حقاً يتنازع عليه فريقان. النزاع حول "حق" يدعيه الجانبان. وقد رأينا أن الشعراء في زمن الإمام الصادق عليه السلام يدافعون عن حق الإمام في قيادة الأمة المسلمة وفي حكم المجتمع الإسلامي، ويخوضون حرباً ضدّ من ليست لهم صلاحية حكومة المسلمين، ولذلك شواهد كثيرة في شعر القرن الثاني الهجري.
وقبل أن نختتم هذا القسم من المناسب أن نشير إلى لغة حجاج أخرى، هي لغة الرسائل. هذه الرسائل الاحتجاجية كانت تتضمن من جهة أهداف الفرقاء بشكل واضح دون لبس، وكانت تجد لها من جهة أخرى صدىً شعبياً بعد انتشار مضمونها، وتأثيراً قوياً على الأنصار والخصوم. نذكر من ذلك رسالة محمد بن عبد الله بن الحسن إلى المنصور العباسي. هذا العلوي الثائر يذكر بصراحة ووضوح أنه يطلب نزع الخلافة من خصومه لتكون في أبناء علي عليه السلام، يقول:
"إن أبانا علياً كان الوصي كان الإمام فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء؟".

ويبدو أن هذا الاستدلال أورده العلوي رداً على استدلال العباسيين في وراثتهم الخلافة، لأن بني العباس لم تكن لهم حجة سوى هذا الإرث المزعوم، فأراد أن يسدّ عليهم الطريق ويردّ عليهم بنفس منطقهم.


 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع