تحتفل المجلات والمطبوعات عادة بذكر ميلادها السنوية، فتهلل في هذه الذكرى فرحاً وتقيم حفلات الاستقبال لتطفئ شموع السنين التي مضت بحلوها ومرها وتضيء شمعة السنة الجديدة المكتنفة بالهموم والأثقال والمفعمة بالطموحات والآمال. إلا أن مجلة "بقية الله" وإن دخلت شهرها الثالث بعد السنة الثامنة، أحبت أن تتخذ من الخامس عشر من شعبان عيدها الثامن، وكيف لا وهو ميلاد بقية الله الأعظم ونور الله الأكبر الحجة ابن الحسن العسكري أرواحنا لتراب مقدمه الفداء، الذي تشرفت المجلة، ويا له من فخر - أن تحمل اسمه المبارك على مدى السنين الماضية.
وقد تساءل الكثيرون من قرائنا الأعزاء عن معنى "بقية الله" وكيف يصح إطلاقه على الإمام سلام الله عليه، ثم لماذا اتخذت هذه المجلة الحبيبة هذا الاسم؟ وعلى الرغم مما ورد في الإجابة عن هذه الأسئلة وأمثالها بإجمال في أكثر من عدد فإن الوقوف عندها بشيء من التفصيل فيه زيادة فائدة.
لقد وردت هذه الكلمة المباركة على لسان النبي شعيب عليه السلام في سورة هود عند قوله تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ. وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ . بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ﴾ (هود: 84 - 86).
وفي المعنى العام للآيات الكريمة أن النبي شعيباً عليه السلام يدعو قومه إلى ترك ظلم الناس، وعدم التعدي على حقوقهم، سواء كان ذلك من خلال إنقاص المكيال والميزان أو البخس أو الإفساد، ومن يترك هذا الظلم وهو من المؤمنين فما أبقاه الله له من الرزق الحلال النافع خير له.
وعلى هذا يكون معنى "بقية الله" هو ما يبقيه الله تعالى من الرزق الحلال النافع للمؤمن التارك لظلم الناس والتعدي على حقوقهم. والرزق هنا قد يأتي بمعنى الرزق المعنوي كالعبادة وذكر الله عز وجل، كما في قوله تعالى: (.. والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مرادا) بل قد يصدق على كل موجود نافع باقٍ من قبل الله عز وجل للبشرية يسبب لها الهداية والصلاح والسعادة الأبدية كأنبياء الله ورسله المكرمين وأئمة الحق والقادة إليه على مر التاريخ، وعلى هذا يكون المقصود من "بقية الله" في مورد الآية الكريمة النبي شعيباً نفسه. لكن وكما هو معروف عند أرباب التفسير أن آيات القرآن بالرغم من نزولها في موارد خاصة إلا أنها تحمل مفاهيم جامعة وكلية بحيث يمكن أن تكون أكثر مصداقاً في العصور والقرون التالية، ومن هنا نجد روايات عديدة تعتبر أن الأئمة عليهم السلام كلهم "بقية الله"، نعم أكثر ما ورد هذا التعبير بخصوص صاحب العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف.
ففي الزيارة الجامعة التي يزار بها كل الأئمة عليه السلام نقرأ: "السلام على الأئمة الدعاة والقادة الهداة والسادة الولاة والذادة الحماة وأهل الذكر وأولي الأمر وبقية الله وخيرته...
وفي إكمال الدين وإتمام النعمة أن هشام بن عبد الملك حمل الإمام الباقر عليه السلام في بعض المرات وجمعاً من أصحابه على البريد ليردوا إلى المدينة وأمر أن لا يخرج لهم أحد بالأسواق، فلما انتهوا إلى مدين أغلق باب المدينة دونهم فشكى أصحاب الإمام الجوع والعطش، فصعد جبلاً يشرف عليهم ونادى بأعلى صوته: يا أهل المدينة الظالم أهلها أنا بقية الله يقول الله "بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ". وكان فيهم شيخ كبير فقال لهم: يا قوم هذه والله دعوة شعيب النبي، والله لئن لم تخرجوا إلى هذا الرجل بالأسواق لتؤخذن من فوقكم ومن تحت أرجلكم (الرواية طولة أخذنا منها موضع الحاجة).
وفي أصول الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام: سأله رجل عن القائم عليه السلام يُسلَّم عليه بإمرة المؤمنين قال عليه السلام: لا ذاك اسم سمَّى الله به أمير المؤمنين لم يُسمَّ به أحد قبله ولا يتسمَّى به بعده إلا كافر. قلت: جعلت فداك كيف يُسلَّم: قال: يقولون السلام عليك يا بقية الله، ثم قرأ: ﴿بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ﴾.
وفي إكمال الدين أيضاً عن الباقر عليه السلام في حديث طويل يقول فيه: فإذا خرج أسند ظهره إلى الكعبة واجتمع إليه ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً، فأول ما ينطق به هذه الآية (بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين) ثم يقول: أنا بقية الله وحجته وخليفته عليكم، فلا يسلّم عليه مسلم إلا قال: السلام عليك يا بقية الله في أرضه.
والأحاديث في ذلك كثيرة، وزبدة ما يستفاد منها أن معنى "بقية الله" هو ما أبقاه الله للناس لينتفعوا به ويكون سبباً في وصولهم إلى سعادتهم وكمالهم، والمصداق الحقيقي لذلك هو صاحب العصر والزمان عجل الله فرجه الشريف الذي هو حجة الله في أرضه ونوره الذي يهتدي به المهتدون والفرج الذي ينتظره المؤمنون بل كل البشر ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.
هذا من جهة الاسم أما من جهة المجلة فيمكن القول أنه منذ الانطلاقة الأولى لم يكن لها سوى هم واحد أن تكون نقطة ضوء في طريق التمهيد لصاحب العصر والتعجيل في ظهوره المبارك، لقد كان العمل على الدوام من أجل رضا الإمام سلام الله عليه الذي هو رضا الله تبارك وتعالى، وأن يزداد حضوراً في حياة شيعته ومحبيه ومواليه؛ في الفكر والعقيدة، في القلب والعاطفة، وفي العمل والممارسة لا أن يبقى منسياً أبداً ولا يذكر إلا عند تلقين شهادة الموت.
أما سياستنا فكانت ارتياد سفينة الإمام الخميني قدس سره لشق عباب التيه والضياع واختراق أمواج الزيغ والأهواء للاستواء على جودي الحق والولاية. لقد كان الإمام مثالاً كاملاً للأولياء العارفين ومصدقاً حقاً للعلماء الذين هم ورثة الأنبياء وأدى ما عليه من مسؤولية هداية الناس إلى الله بتمام أبعاد الهداية.
لقد علمنا الإمام أن ولي الأمر هو حجة الله، وله الولاية العامة باعتبارها امتداداً لولاية صاحب العصر عليه السلام، وأن عليه السعي لإقامة الحكومة الإسلامية العادلة، وقد استرخص في سبيل ذلك كل التضحيات.
وعلمنا الإمام أن الجهاد والشهادة عز أبدي، فالموت على فراش المرض موت محض والمضي في سبيل الله شهادة ورفعة وشرف الإنسان وللإنسانية، والآن وبعد فتح باب الجهاد والشهادة وبعدما ذاقت الأمة طعم العزة والكرامة في طريق ذات الشوكة لهي أكثر جهوزية واستعداداً للظهور المقدس لصاحب العصر عليه السلام.
وعلمنا الإمام أن رسالة الإسلام هي تربية الإنسان، سواء كان طفلاً أم شاباً، أم شيخاً، وسواء كان رجلاً أم امرأة، فأساس العالم يقوم على تربية الإنسان، ولما كانت التربية الغربية تسلخ عن الإنسان إنسانيته وجب مواجهتها بكل حيلة.
لقد هدانا الإمام رضي الله عنه إلى الإسلام المحمدي الأصيل وعرفنا حقيقة الارتباط بالمعصوم عليه السلام حتى إذا حان الفراق واستأذن للرحيل الذي لا بد منه دلنا على الشمس التي تسطع بالضياء فكان الخامنئي خير خلف لخير سلف.
لقد كان بقية الله عجل الله فرجه الشريف قلب هذه المجلة وقالبها، تترقبه مع كل نفس وفي كل كلمة، وتتوجه إليه في كل حركة وسكون، وسيبقى إن شاء الله كذلك، ولذلك كان اسمها "بقية الله".
واليوم ومع حلول عيدها الثامن تكبر المسؤولية وتعظم الآمال بانطلاقة جديدة نحو آفاق جديدة بتعاون جميع المخلصين، لكن الأنظار تبقى شاخصة نحو صاحب الطلعة البهية... نحو بقية الله..
والسلام