جولة في مراحل الفقه
آية الله محمد إبراهيم جناتي
يعتبر آية الله محمد إبراهيم جناتي من كبار مدرسي الحوزة العلمية في قم المقدّسة، بدأ بتحصيل العلوم الدينية في مدينة شاهرود ثمّ انتقل إلى النجف حيث درس عند كبار علمائها من أمثال السيد الشاهرودي والسيد الحكيم والسيد عبد الهادي الشيرازي وغيرهم على مدى 25 سنة من إقامته هناك.
كتب هذا البحث لمجلّة (كيهان انديشه) على حلقات باللغة الفارسية وترجمة لنا فضيلة الشيخ أحمد وهبي.
وقد وصل الكلام في هذه الحلقة إلى مرحلة اتساع مسائل الفقه.
4- مرحلة اتساع مسائل الفقه:
هذه المرحلة بدأت من زمان المجتهد الكبير شيخ الطائفة محمد بن حسن الطوسي (قدس سره) (385 – 460 ه) واستمرّت مدّة تزيد على مائة سنة إلى زمان الفقيه المجدّد المرحوم إبن إدريس، مؤلف كتاب "السرائر" المولود في سنة (555 أو 558 ه) والمتوفي يوم (الجمعة 18 شوال 598).
في هذه المرحلة، اتسع الفقه الإسلامي بشكل عظيم، ودخلت فيه فروع جديدة. لأنّ قواعد الفقه الاجتهادية كانت قد تأسّست في هذا الوقت، وكانت الفروع الفقهية ترجع إلى الأصول الخارجية بالاستفادة من تجارب المراحل السابقة، لذلك ظهرت فروع جديدة وأبواب حديثة بين هذه المسائل.
الفقهاء في هذه المرحلة لم يرضوا ببيان الأصول والكليات في الأبحاث الفقهية والأحكام الدينية من الروايات فقط، بل اهتموا أيضاً بذكر الفروع والتفاصيل التي تستفاد من الأدلة، لذلك دخلت في الفقه مسائل جديدة لم تكن مورداً للبحث قبل ذلك الوقت ووضعت أدلّتها في معرض الدراسة.
في مقدمة علماء هذه المرحلة وحامل لواء هذه الطريقة الفقهية الشيخ الطوسي (قدس سره) الذي ألّف كتباً كثيرة في الأبحاث الفقهية، وراعى في جميعها الخصوصية المذكورة بشكل لم يسبق له نظير.
من كتبه "المبسوط" الذي يذكر فيه بشكل مفصّل ومبسوط أصول جميع مسائله واستنباطاته من الأحاديث، ثمّ ينطلق لذكر فروع المسائل، ثمّ ينطلق لذكر فروع المسائل، يفتح لها أبواباً، يقسم المسائل إلى عدّة أقسام، ويأتي بالمسائل المتناسقة في مكانٍ واحد ويحقّق في فروع كلّ مسألة بشكل وافٍ ويشير إلى أدلّة كلّ مسألة وينقحها بشكل نسبي.
ومن كتبه "الخلاف" الذي كتبه على طريقة كتبه الأخرى، ولكنّه يمتاز بأنّه دقّق فيه في الفروع والمسائل التي اختلف فيها بين الشيعة، الحنفية، الشافعية، المالكية والحنبلية وبين النظرية الصحيحة طبقاً لمذهب الشيعة مع ذكر الدليل.
قد يكون من أفضل المستندات التاريخية التي تبين كيفية الزمان السابق للشيخ الطوسي الذي لم يكن يحقّق فيه في الفروع، والشيخ هو الذي بدأ بهذا العمل. الكلام الذي سطّره في مقدمة كتاب "المبسوط".
هذا الكلام كما يعبر الشهيد آية الله الصدر (تغمده الله برحمته وأسكنه الفسيح من جنّته) أحد المستندات التاريخية المهمّة التي تحكي مراحل نشوء التفكير الفقهي، التي تركتها شريعة الإسلام وراءها ونمت خلالها، فربّت نوابغ مثل الشيخ الطوسي ليطرحوا فقه الشيعة بصورة واسعة وعميقة.
يفهم من كلام الشهيد الصدر أن البحث الفقهي الرائج في زمان الشيخ والذي كان في ضيق منه، كان يكفتفي عادةً بعرض الاستباطات المباشرة من ظواهر روايات الأئمة (عليهم السلام) التي يسميها الشيخ الطوسي أصول المسائل، هؤلاء كانوا مقيدين بنقل عين ألفاظ الحديث، ومن هذه الجهة كانوا يقدّمون بحثاً سريعاً ومستعجلاً، ولم يكن هناك مجال للإبداع والعمق الفكري، كان كتاب المبسوط سعياً موفقاً وكبيراً ساق أساليب البحث الفقهي من مجال نقل أصول المسائل إلى مجال واسع يستطيع الفقيه أن ينطلق نحو التفريع والتفصيل والمقارنة بين الأحكام وتطبيق القواعد الكلية، وأن يعترف في ظلّ استنباطاته المباشرة من الروايات إلى أحكام المسائل المختلفة.
على كلّ حال خطا التفكير الفقهي خطوة من مرحلة الاكتفاء بأصول المسائل والتركيز على نقل متن الأحاديث إلى مرحلة التفريع، أي إرجاع الفروع إلى الأصول، وتطبيق القواعد الكلية على المصاديق، وقد تمّ إنجاز هذا الأمر المهم على يد الشيخ المجدّد محمد بن حسن الطوسي (قدس سره).
من المناسب هنا الإشارة إلى أمر وهو أنّ تطوّر وتكامل البحث الفقهي على يد الشيخ الطوسي (قدس سره) لم يكن مسألة فجائية وبدون تمهيد وتحضير الأرضية، بل تمّ بذر بذوره في المرحلة الثانية بواسطة الأئمة المعصومين عليهم السلام، وقبل ذلك كلّه تمّ تمهيد الأرضية في مرحلة التشريع بشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأنّه شوهد في كتب الأحاديث والروايات أخبار سأل فيها الرواة الإمام الصادق عليه السلام أسئلة في مجال العناصر المشتركة للاجتهاد والاستنباط وأخذوا أجوبتها، هذه المجريات تدلّ على أنّ جذور الاجتهاد والتفريع كانت موجودة عندهم، سنبين ونفصّل هذه المسألة في بحث مستقل تحت عنوان "مراحل الاجتهاد".
وبأيّ وجه كان، إنّ ما تمّ القيام به في زمان ابن أبي عقيل، وابن الجنيد تطوّر بواسطة الشيخ المفيد والسيد المرتضى (قدس سرهما) واستمرّ بتطوّره بعدهما، حتّى حطّت المرحلة الرابعة رحالها على يد الشيخ الطوسي القوية في كتاب المبسوط.
كتاب المبسوط – كما يقول الشهيد الصدر – هو تبلور واتساع وتكامل البحث الفقهي والتفكير الأصولي، الذي كان ابتداؤه وتوسعته وتطوّره وتفصيله وتفريعه في زمان ابن أبي عقيل وابن الجنيد والسيد المرتضى (علم الهدى).
* الركود النسبي للبحث الفقهي في هذه المرحلة:
هذه التوسعة المهمة التي حدثت بواسطة الشيخ الطوسي في الأبحاث الفقهية، توقفت عن التكامل بعد وفاته مدّة قرن، وهذه كانت مرحلة ركود الأبحاث الفقهية.
في طول هذه المائة سنة كان العلماء والفقهاء يتبعون طريقة الشيخ بالدقّة في التفريعات وتطبيق القواعد والاستنباط واستخراج الأحكام من المصادر والمراجع، وكانوا لا يأتون حتّى بكلمة على خلاف رأي الشيخ على اللسان أو القلم. في حال أنّه كان ينتظر أن تكون طريقة الشيخ عاملاً في تطوّر الفقه، وأن يفتح أسلوبه الإبداعي آفاقاً جديدة باتجاه الابتكار والتجديد للفقهاء الآتين.
هذا الوقوف والركود له عوامل مختلفة، من جملتها. كما يقول الأستاذ الشهيد الصدر- أنّ الشيخ الطوسي كان يتمتّع بمكانة ومقام خاص عند تلاميذه، وكان تلاميذه يرون أنّه أعلى من أن يجعلوا من نظرياته معرضاً للانتقاد، وكانوا يعطون لآراء الشيخ قداسة بحيث أنّ أحداً لم يكن يسمح لنفسه بالنقد والاعتراض.
ينقل الشيخ حسن بن زين الدين في كتاب "المعالم" عن أبيه أنّ "أكثر الفقهاء بعد الشيخ كانوا يقلدون الشيخ في فتاواه لأنّهم كانوا يحسنون الظن به" وعن "الحمصي" الذي حكى عن تلك المرحلة روي أن "الشيعة في هذه المرحلة لم يكن لديهم مفتٍ، وكانوا جميعاً يروون وينقلون أفكار الآخرين" يعني ذلك أنّ عمل الشيخ العظيم بدل أن يحدث في المجتمع العلمي رد فعل عميقٍ ويكون مؤثراً في دراسة المسائل والمشكلات ويرشد الآخرين إلى تطور التفكير الفقهي، وقع في حالة من الأحاسيس والعواطف، وقدّمت فيه الناحية القدسية على بعده العلمي والثقافي، إلى حد أنّ أحد الأصحاب كان يتكلّم عن منام أنّ أمير المؤمنين عليه السلام شهد في عالم الرؤيا على صحة جميع أقوال الشيخ في كتاب "النهاية" وهذا دليل عمق النفوذ الفكري للشيخ في ضمير فقهاء تلك المرحلة، ومن الأسانيد الحاكية عن الأحوال الحاكمة على المجتمع العلمي في تلك المرحلة، قول محمد بن إدريس في مقدّمة كتاب "السرائر" إنّه لما رأى أن علماء العصر تخلّوا عن تعلّم الشريعة المحمدية والأحكام الإسلامية ويندفعون إلى مخالفة ما لا يعلمون، ويتركون ما يعلمون، وأنّه لما رأى الشيخ العجوز في هذه المرحلة قد غرق في الغفلة وسلم زمام أمره للجهل وأضاع الأمانات، وتساهل في تعلم العلوم اللازمة والضرورية وكأنّه ولد اليوم... وأنّه لما رأى العلم مبتذلاً وأن ميدان العلم خالٍ من البحث والرد، انطلق بجهد شاق للحفاظ على ما بقي.
ابن إدريس كان فقيهاً مجدداً قام في هذه المرحلة بدور بنّاء في الوقوف مقابل ركود الفقه، وبثّ روحاً جديدة في جسم الفقه الإسلامي، وفي زمانه انتهى الركود الذي عرض على الفقه، وبظهوره اختلفت أساليب البحث وتوجّه الاستدلال في المسائل الفقهية للأسلوب الاستدلالي، وفتحت أبواب جديدة في الفقه لم تكن من قبل كذلك أبداً، وقد حدث هذا التحوّل الأساسي في الأسلوب الفقهي وكيفية الاستنباط بواسطة هذا العالم فقط، وهو الذي أسّس بناء الاستدلال في أبحاثه الفقهية. إنّ كتاب "السرائر" كلّه شاهد على أنّ التفكير العلمي والفكر الفقهي في مذهبه وصل إلى درجة أنّه حمل شعار مواجهة آراء ونظريات الشيخ الطوسي ونقدها، وهكذا كان وابتدأت المرحلة الخامسة من مراحل الفقه.