الإمام الخامنئي دام ظله
في معرض حديثه عن حياة الإمام الصادق عليه السلام وقيادته للأمة، تعرض الإمام القائد (دام ظله) في الحلقات السابقة إلى مراحل الإمامة التي سبقت ووصل كلامه إلى مرحلة الإمام الباقر حيث أشار حفظه الله إلى الخطوات الرحبة التي قطعها الباقر عليه السلام في طريق تحقيق أهداف مدرسة أهل البيت عليه السلام حتّى شعر الجهاز الحاكم بالخطر، فماذا حدث بعد ذلك؟
وتحمّل الإمام الصادق عليه السلام مسؤولية مواصلة المسيرة في ظروف معقّدة وصعبة للغاية.
فالانتفاضات تنشب في طول البلاد وعرضها، والولاة منهمكون بجمع الأموال والثروات الطائلة، والطاعون والقحط يضرب مناطق واسعة منها خراسان والعراق، والجهاز الحاكم يبطش دون رحمة، ويخلق حالة من الذلّ والخنوع بين الناس. والمنشغلون بالعلوم الإسلامية من فقه وحديث وتفسير لم يكن خطرهم غالباً يقلّ عن خطر الساسة والحكّام، وهم الذين يُفترض بهم أن يكونوا ملاذَ الناس وملجأهم، كثير من هؤلاء كانوا يدبّجون الفتاوى ليرضوا السلطان والولاة. وكثيرٌ منهم كانوا يشغلون أنفسهم ويشغلون الناسَ بتوافهِ الأمور، والنزعات الكلامية الفارغة التي لا تمتّ بصلة إلى الإسلام وإلى معاناة الجماهير.
وفي هذه الظروف المظلمة كانت ثمّة أولويات تواجه الإمام الصادق عليه السلام من حيث هو إمام، وتتلخص في طرح الفكر الإسلامي الصحيح، أي تبيين الإسلام كما جاء في القرآن وسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع مكافحة كلّ الانحرافات والتشويهات الجاهلة والمغرضة، وكذلك التخطيط لإقامة نظام العدالة الإسلامية، وصيانة هذا النظام في حالة إقامته.
كلا المهمتين: المهمّة الفكرية والمهمّة السياسية، تشكّلان خطراً كبيراً على النظام الحاكم. ليست المهمّة السياسية وحدها تثير سخط السلطة، فالمهمة الفكرية أيضاً تلغي تلك الأفكار والمفاهيم المنحرفة التي قدّمها السلطان ووعّاظه باسم الدين إلى المجتمع. من هنا فإن العملية الفكرية لها الأولوية، لأنّها تقضي على الزيف الديني الذي يستند إليه الجهاز الحاكم في مواصلة ظلمه. من جهة أخرى فإنّ الأوضاع السائدة مستعدّة لتقبّل الفكر الشيعي الثوري، والحرب والفقر والاستبداد عوامل تغذّي روح الثورة، أضف إلى ذلك عامل الأجواء التي وفّرها نشاط الإمام الباقر عليه السلام في المناطق القريبة والنائية.
إنّ الاستراتيجية العامّة للإمام هي النهوض بثورة توحيديّة علوية، ومتطلباتها هي:
أولاً: إيجاد مجموعة تحمل فكر الإمامة وتهضمه، وتتطلّع بشوق إلى تطبيقه.
وثانياً: إيجاد مجموعة منظّمة مجاهدة مضحية.
وهذه المتطلبات تستلزم بدورها نشر الدعوة في جميع أرجاء العالم، وإعداد الأرضية النفسية لتقبّل الفكر الإسلامي الثائر في جميع الأقطار، وتستلزم أيضاً دعوة أخرى لإعداد أفراد مضحّين متفانين يشكّلون التنظيم السرّي للدعوة.
وهذا هو سرّ صعوبة الدعوة على طريق الإمامة الحقّة. فالدعوة الرسالية التي تستهدف القضاء على الطاغوت، وعلى التفرعن والتجبّر والعدوان والظلم في المجتمع، وتلتزم بالمعايير الإسلامية، لا بدّ أن تستند إلى إرادة الجماهير وقوّتها وإيمانها ونضجها. خلافاً لتلك الدعوات التي ترفع شعار محاربة الطغاة، وهي تمارس في الوقت نفسه أعمال الطغاة والظَلَمة في حركتها، دون أن تتقيّد بمبادئ أخلاقية واجتماعية. فمثل هذه الدعوات لا تواجه صعوبات الدعوات الرسالية الهادفة، وهذا هو سرّ عدم تحقّق أهداف حركة الإمامة على المدى العاجل، وهو أيضاً سرّ الانتصار السريع للحركات الموازية لحركة الإمامة (مثل حركة العباسيين).
الظروف المساعدة والأرضية المناسبة التي وفّرها نشاط الإمام السابق – الباقر عليه السلام – أدّت إلى أن يظهر الإمام الصادق عليه السلام – في جوّ العذاب الطويل الذي عانى منه الشيعة. بمظهر الفجر الصادق الذي ينتظره اتباع أهل البيت في سالف أيامهم. والإمام الباقر عليه السلام ذكر بالإشارة والتصريح بما يركز هذا المفهوم.
عن جابر بن يزيد الجعفي: "سئل الإمام الباقر عليه السلام عن القائم فضرب يده على أبي عبد الله عليه السلام وقال: هذا والله ولدي قائم آل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم ".
والقائم هنا طبعاً غير قائم آل محمد في آخر الزمان، وهو المهدي عليه السلام الذي تواترت الروايات لدى كلّ المسلمين أنّه يظهر في آخر الزمان، وأنّه الخليفة الثاني عشر من خلفاء رسول الله. القائم هنا بمعناه اللغوي ينطبق على كلّ من ينهض بوجه الظلم والاستبداد، وهو اصطلاح معروف في مدرسة أهل البيت، ولا يعني ذلك أن يكون القائم بالسيف بالضرورة. بل إنّه يقوم بهجوم ثقيل خطير، سواء في أسلوب النشاط الفكري أو التنظيمي أو بأيّة صورة أخرى تستهدف مقارعة الظالمين ومهاجمتهم. فالإمام الباقر عليه السلام يركّز هنا على مفهوم نهوض الإمام الصادق عليه السلام بمسوؤلية كبيرة تجاه السلطة القائمة، ولا يركّز على النتيجة.. بل في رواية أخرى يتحدّث بلغة تكان تكون يائسة من إمكان انتصار حركة الإمامة على الوضع السياسي القائم.
ومن الروايات التي يركّز فيها الإمام الباقر عليه السلام على الدور الذي سينهض به الإمام الصادق عليه السلام ما رواه أبو الصباح الكناني قال: "نظر أبو جعفر إلى ابنه أبي عبد الله فقال: ترى هذا؟ هذا من الذين قال الله تعالى: (ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين).
ولعلّ تصريحات الإمام هذه هي التي أشاعت فكرة قيام الإمام الصادق وخلافته بين الشيعة، وجعلت أصحاب الباقر والصادق عليه السلام يترقبون ساعة الصفر بين آونة وأخرى.
في رجال الشيخ الكشي رواية يمكن أن نفهم منها هذه الحالة السائدة بين أتباع أهل البيت آنذاك:
روى ابن مسكان عو زرارة، أنّه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن رجل من أصحابنا مختفٍ من غرامة، فقال: أصلحك الله، إنّ رجلاً من أصحابنا كان مختفياً من غرامة، فإن كان هذا الأمر قريباً صبر حتّى يخرج مع القائم، وإن كان فيه تأخير صالح غرامة؟ فقال لهُ أبو عبد الله عليه السلام : يكون، فقال زرارة: يكون إلى سنتين؟ فقالوا أبو عبدالله عليه السلام : يكون إن شاء الله، فخرج زرارة فوطّن نفسه على أن يكون إلى سنتين فلم يكن.
وعبارة "هذا الأمر" في عرف أتباع أهل البيت كناية عن المستقبل الموعود لهم، أي استلام زمام الحكم أو القيام بما يقرّبهم من ذلك كالثورة المسلّحة مثلاً. والقائم هو الذي يقود تلك العملية.
وفي رواية أخرى يذكر هشام بن سالم، وهو أيضاً من وجود الشيعة المعروفة، أنّ زرارة قال له: لا ترى على أعوادها غير جعفر، قال: فلمّا توفي أبو عبد الله عليه السلام أتيته فقلت له: تذكّر الحديث الذي حدّثتني به؟ وذكرته له، وكنت أخاف أن يجحدنيه، فاقل: إنّي والله ما كنت قلت ذلك إلاّ برأيي.
من مجموع ما تقدّم نفهم أنّ الإمام الصادق عليه السلام كان في نظر الشيعة مظهر آمال الإمامة والتشيّع. وكان سلسلة الإمامة قد ادّخرته ليجسّد مساعي الإمام السجّاد والإمام الباقر عليه السلام. كأنّه هو الذي يحبّ أن يعيد بناء الحكومة العلويّة والنظام التوحيدي، يجب أن ينهض نهضة إسلامية أخرى. الإمامان السابقان طويا المراحل الصعبة الشاقّة لهذا الطريق اللاهب، وعليه أن يقطع المرحلة الأخيرة، والظروف – كما ذكرنا – قد تهيّأت، والإمام استثمر هذه الظروف لينهض برسالته الجسيمة.
منذ بداية استلام المسؤولية حتّى الوفاة، قضى 33 عاماً في جهاد متواصل، وخلال هذه الأعوام كانت الظروف في مدّ وجزر، مرّة تتجه لمصلحة مدرسة أهل البيت، ومرّة أخرى تعاكسها، مرّة تبعث على التفاؤل وعلى أنّ النصر قريب، ومرّة أخرى تشتدّ الضغوط وتختنق الأنفاس، فيخيّل إلى أصحاب الإمام أنّ كلّ الآمال قد تبدّدت. والإمام الصادق عليه السلام في كلّ هذه الأحوال ماسك بدفّة القيادة بعزم وتصميم، يجتاز بالسفينة عبر هذه الأمواج المتلاطمة الممزوجة بالأمل واليأس، لا يفكّر إلاّ بما يجب قطعه في المستقبل من أشواط، باعثاً الجد والنشاط والإيمان في اتباعه للوصول إلى ساحة النجاة.
ويلزمنا هنا أن نشير إلى ظاهرة مؤسفة تواجه كلّ الباحثين في حياة الإمام الصادق عليه السلام، وهي الغموض الذي يكتنف السنين الأولى لبدايات إمامة الصادق عليه السلام التي اقترنت بأواخر أيام بني أميّة. كانت حياة صاخبة متلاطمة مليئة بالحوادث الجسام، يمكن أن نفهم بعض ملامحها من خلال مئات الروايات. غير أنّ المؤرّخين والمحدّثين لم يعرضوا لنا هذه الفترة بشكل مرتّب منسجم مترابط، ولا بدّ للباحث أن يعتمد على القرائن، وأن يلاحظ التيارات العامّة في ذلك الزمان ويقرن كلّ رواية بما حصل عليه من معلومات مسبقة، ليفهم محتوى الرواية وتفاصيلها.
ولعلّ أحد أسباب هذا الإبهام يكمن في سريّة حركة الإمام وأتباعه.. وكان لا بدّ أن تبقى هذه السرية قائمة لأنّها لم تحقّق آمالها بعد، وأمّا ما توفّر لدينا معلومات وافية عن تفاصيل الاتصالات السرية في حركة العباسيين، فلأن حركتهم انتصرت. ولا شكّ في أنّ حركة أهل البيت لو قدّر لها أن تنتصر وتستلم زمام الأمور لاطّلعنا اليوم على أسرار تنظيمها الواسع.
وثمّة سبب آخر يمكن أن يكون عاملاً في هذا الغموض، هو أنّ المؤرخين كانوا يدوّنون عادة ما يرضي السلطان، ولذلك نرى في كتبهم تفاصيل حياة الخلفاء ولهوهم ولعبهم وسهراتهم ومجالس طربهم، بينما لا نرى شيئاً يؤبه له بشأن الثائرين والمظلومين والمسحوقين، لأنّ مثل هذه المعلومات تحتاج من الباحث أن يتحرّى ويبحث ويخاطر، بينما حياة الخلفاء مادة جاهزة، وغنيمة باردة تكسب الرضا وتستدر العطاء.
والمؤرّخون الخاضعون للخلافة العباسية استمرّوا يكتبون على هذا المنوال مدّة خمسمائة سنة بعد حياة الإمام الصادق عليه السلام، ومن هنا لا يمكن أن نتوقّع العثور على شيء معتدّ به من المعلومات عن حياة الإمام الصادق عليه السلام أو أيّ إمام من أئمة الشيعة في مثل هذه المصادر.
الطريق الوحيد الذي يستطيع أن يهدينا إلى الخط العام لحياة الإمام الصادق عليه السلام هو اكتشاف المعالم الهامّة لحياة الإمام من خلال الأصول العامّة لفكر الإمام وأخلاقه. ثمّ نبحث في القرائن والأدلّة المتناثرة التاريخية والقرائن الأخرى غير التاريخية لنتوصل إلى التفاصيل.