السيد جعفر مرتضى
روي عن أبي سعيد الخدري: أنّ أحد الصحابة المعروفين جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:
يا رسول الله، إنّي مررت بوادي كذا وكذا، فإذا رجل متخشّع، حسن الهيئة، يصلّي:
فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذهب إليه فاقتله.
قال: فذهب، فلمّا رآه على تلك الحالة كره أن يقتله، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: فقال النبي لرجل آخر من أصحابه: إذهب، فاقتله.
فذهب إليه فرآه على تلك الحال التي رآه عليها الرجل الأول، قال: فكره أن يقتله، فرجع، فقال: يا رسول الله، إنّي رأيته يصلّي متخشعاً فكرهت أن أقتله.
قال: يا علي، إذهب فاقتله.
قال: فذهب علي، فلم يره.
فرجع إلى رسول الله، فأخبره أنّه لم يره.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يتجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثمّ لا يعودون فيه حتّى يعود السهم في فوقه، فاقتلوهم؛ هم شر البرية.
وذكر نص آخر رجوع الرجلين عن قتله، ثمّ قال: "فقال علي: أفلا أقتله أنا يا رسول الله؟
قال: بلى، أنت تقتله إن وجدته فانطلق علي فلم يجده".
* إشارات الحديث ودلالاته:
ولهذا الحديث العديد من الدلالات والإشارات، نذكر بعضاً منها هنا، على سبيل الاختصار، وهي التالية:
1- إنّ هذه الرواية قد ذكرت: أنّ هذا الرجل يتخشّع، حسن الهيئة، يصلّي، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتل هذا الرجل بالذات فلم يمنعه ما كان يتظاهر به من إصدار الأمر بقتله حين كان مستحقاً لذلك، الأمر الذي يدلّ على أنّ العبرة ليست بالمظهر، وإنّما بالجوهر، وفي هذا السياق بالذات جاء الحديث الشريف في مورد آخر لينهى الناس عن أن ينظر إلى كثرة صلاة الرجل وصومه وطنطنته بالليل، بل عليهم أن ينظروا إلى صدقه في الحديث، وأدائه للأمانة.
2- إنّه حين أمر أولئك الثلاثة بقتل هذا الرجل، لم يعطِ تفسيراً ولا تبريراً لإصدار هذا الأمر، رغم أنّهم قالوا له: إنّهم رأوه يصلّي، ويتخشّع، وأنّه حسن الهيئة.
الأمر الذي يعني: أنّ التعامل مع مقام النبوّة والإمامة المعصومة لا بدّ أن يكون من موقع الطاعة، والانقياد والتسليم.
تماماً كما كان الحال بالنسبة لإبراهيم عليه السلام حينما أمره الله بذبح ولده، وحيث لم يكن منهما عليهما السلام سوى التسليم والانقياد لأمر الله تعالى، والرضا بقضائه، دون أيّ تردّد، أو شك في حيرة، أو تساؤل، مهما كانت طبيعته ونوعه، ومداه.
وبذلك يكون الله سبحانه قد جسّد لنا في إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ميزة التزامهما جانب الصبر والثبات في مواجهة الغيب المرتبط بالله سبحانه، من موقع الإيمان واليقين بهذا الغيب، كما أراده الله سبحانه لكلّ مؤمن يتّقي الله سبحانه (هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون).
3- تحدّثت الرواية المتقدمة: أنّ الرجلين الأولين لم ينفذا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتل الرجل، ولم يكن لديهما أي مبرّر لذلك سوى أنّهما وجداه يصلّي، مع ملاحظة:
أ-أنّه لم تستجدّ أيّة حالة جديدة تستدعي أن يراجعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ب-بالنسبة لحالة صلاته وخشوعه، فقد كان النبي على علم بها من قبل هذين الرجلين بالذات وقد أصدر أمره لهما بقتله بناءً على نفسه هذه الصفات والحالات التي أخبراه هما بها.
ج- إنّ عدم تنفيذ أمر رسول الله، الذي يعلم الجميع أنّه لا ينطق عن الهوى. إنّما يعني أنّ ذينك الرجلين كانا في شكّ من كاشفية قوله صلى الله عليه وآله وسلم عن الواقع والحقيقة، أي أنّهما قد رأيا أنّ أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن مستكملاً لشروط الإنفاذ.
4- إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم – كما صرّحت به الرواية – قد قال لعلي عليه السلام: "بلى أنت تقتله إن وجدته".
وهذا يعني: أنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يعرف علياً عليه السلام حقّ المعرفة، يعرف ميزاته وخصائصه، وبماذا يفكّر، وكيف وبأيّ روحية يتعامل مع القضايا، ولأجل ذلك نجده صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبر عن أمر غيبي رآه صلّى الله عليه وآله وسلّم بعين اليقين متوافراً في علي عليه الصلاة والسلام من خلال معرفته بيقين علي عليه السلام بصحة وبواقعية كلّ ما يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبأنّه لا ينطق عن الهوى، من موقع إيمانه الراسخ والعميق بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم.
5- إنّ هذه الحادثة تعطينا: أنّ هذا النحو من الإختبار العملي من شأنه أن يجسّد النموذج الإسلامي الأصيل لكي يعرف الناس الفضل لذي الفضل، وسابقة ذي السابقة، ويصبح ذلك مقياساً ومعياراً يسقط من خلاله الكثير ممّا يثار من شبهات وترّهات، فيما يرتبط بفضل علي عليه السلام، أو في فضل ومزايا غير علي عليه السلام بالقياس إليه صلوات الله وسلامه عليه.
ولا يبقى مجال للكثير من الدعاوى المريضة، التي قد يسهل إطلاقها، ولا يستطيع من لا خبرة له ولا معرفة عنده أن يواجهها بالوسائل التي تكشف الزيف، وتظهر ما فيها من افتراءات، أو ما تحمله من مبالغات.
6- إنّ قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "فاقتلوهم هم شر البرية" قد جاء على شكل ضابطة عامّة قد نزعت – من خلالها – الحصانة. عن كلّ أولئك الذين يبطنون الكفر والجحود والطغيان، ويتسترون خلف المظاهر الخادعة، فراراً من العقوبة لهم على ما اقترفوه من جرائم ومآثم.
وإنّ إظهارهم للتوحيد، وممارستهم للشعائر الدينية، لا يمنع من إنزال العقاب الصارم الذي يستحقونه بهم.
7- إنّنا نسجّل هنا: أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قد اعتبر هذا النوع من الناس الذين عرفوا فيما بعد باسم الخوارج هم "شر البرية" ولعلّ ذلك لأجل أن خطر هؤلاء على الدين أعظم من خطر غيرهم، لأنّهم إنّما يحاربون الدين باسم الدين، الأمر الذي يمكنهم من خداع أبنائه، ويجعلهم أدوات طيّعة في خدمة أغراضهم ومآربهم، وتقع من ثمّ الكارثة الكبرى حيث يتولّى أبناء الإسلام هدم الإسلام متقرّبين بذلك إلى الله، راجين مثوبته، وتوفيقه ومعونته، حتّى لو كان ثمن ذلك هو تشويه تعاليمه، واستئصال وإبادة أهله وعلمائه، وتلك هي المصيبة الأدهى والأمرّ، والأخطر والأضر.
8- ونذكّر القارئ الكريم هنا بما ظهر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث رأيناه يخبر عن أمور غيبية، فيما يرتبط بالإشارة إلى أنّ علياً لن يجد ذلك الرجل، وأنّه لو وجده لقتله، ثمّ فيما يتعلّق بظهور أولئك الذين يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، مع بيان بعض حالاتهم، وما يكون منهم، مع بيان التكليف الإلهي الموجّه للأمة تجاههم.
9- وآخر ما نشير إليه في هذا المجال هو أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أمر بقتل ذلك الرجل، في حين أنّه لم يظهر منه ما استحقّ به القتل، بل الظاهر منه يشير إلى ضدّ ذلك، لأنّه كان متخشّعاً، حسن الهيئة، يصلّي، وقد يثير ذلك عند البعض، بعض التساؤلات من هذه الجهة.
وجوابنا على ذك: أنّ القضية تشبه في سياقها، وفي عناصرها ما جرى للعبد الصالح مع موسى عليه السلام، حينما قتل العبد الصالح ذلك الغلام، الذي عرف منه أنّه يضطهد أبويه إلى درجة أنّه كان ثمّة خشية من أن يرهقهما طغياناً وكفراً.
ومن الطبيعي أن يكون هذا الأمر الصادر من الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بقتل ذلك الرجل ممّا يدخل في هذا السياق، حيث يكون صلى الله عليه وآله وسلم قد اطّلع على واقع هذا الرجل الذي استحقّ معه أن يواجه هذه العقوبة العادلة على بعض ما صدر منه من جرائم، وما ارتكبه من مآثم وعظائم.
ونقتصر هنا على هذا المقدار من القول.
عصمنا الله جميعاً من الزلل، في الفكر، وفي القول، وفي العمل، إنّه ولي قدير، وبالإجابة حري وجدير.
*****
* يعسوب الدين أو يعسوب المؤمنين:
لأنّ اليعسوب أمير النحل وهو أقواهم يقف على باب القفير كلّما مرّت به نحلة شمّ فاهها فإن وجد منها رائحة منكرة علم أنّها رعت حشيشة خبيثة فيقطعها نصفين ويلقيها على الباب ليتأدّب بها غيرها وكذا أمير المؤمنين يقف على باب الجنّة فيشمّ أفواه الناس فمن وجد منه رائحة بغيضة ألقاه في النار.