مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

نهج الحكومة الإسلامية نهج أمير المؤمنين


الإمام الخامنئي دام ظلّه


تحدث الإمام القائد في بعض خطبه عن المثل الأعلى والنموذج الأرقى للحكومة الإسلامية ألا وهو المنهج الحكومة لأمير المؤمنين عليه السلام، وبالطبع فإنّ الإحاطة الكاملة بنهج الأمير عليه السلام متعذرة، فكان أن اختار (دام ظله) الوقوف عند جانب واحد وهو الجانب الشعبي.

لا يمكن الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام بيسر وسهولة، فعظمة هذا الإنسان تتجلّى في جوانب عديدة من حياته بحيث يعجز العلماء والمفكرون والعباقرة والفنّانون والمفكرون والشعراء والأدباء عن الحديث بشأنه والخوض في مناقبه وفضائله كما يستحقه من الوصف والثناء.
أمير المؤمنين عليه السلام هو ذلك الإنسان الذي أخفى محبّوه فضائله وستروا مناقبه بعد شهادته – خوفاً من بطش أعدائه وفتك مناوئيه – وكتم خصومه الألدّاء فضائله ومناقبه حسداً له وحقداً عليه. وبالرغم من إخفاء هؤلاء وكتمام أولئك ملأت فضائله الخافقين وبلغت أسماع العالمين.

وعلى هذا الأساس لا يتيسّر الحديث عن مزايا حكومة أمير المؤمنين (عليه السلام) وشخصيته، ولا يسعنا حتّى الحديث عن جانب واحد من جوانب حكومته وهو الجانب الشعبي، لكنّنا سنلقي لمحة خاطفة على هذا الجانب من حياة هذا العبد الصالح والإنسان العظيم والإمام الكريم، كي تتضح لنا – أكثر فأكثر – حقيقة كون الحكومة الإسلامية حكومة شعبية.

فقد وصل أمير المؤمنين إلى الحكم عبر إرادة الشعب ورغبته بل إلحاحه الشديد (فضلاً عن تنصيبه خليفة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبل الله تعالى في يوم (الغدير طبعاً) وأثناء فترة تولّيه المسؤولية كانت جميع أقواله وأفعاله تستهدف تحقيق الخير للناس.
وإنّني أورد هنا بعض الجمل الواردة في (نهج البلاغة) وهي ليست سوى نماذج قليلة من بين مئات النماذج والأمثلة الموجودة في هذا الشأن. ونرى الإمام علياً عليه السلام يوصي – في جميع هذه الأقوال – بمراعاة حال الشعب. وهذا الجانب هو – كما ذكرنا آنفاً – أحد جوانب (شعبية) حكومة أمير المؤمنين، إذ كثيراً ما كان الإمام يؤكّد ضرورة رعاية حال عامّة الناس، ورفض (الطبقات الممتازة) في المجتمع الإسلامي، بل وإلغاء هذه الطبقات.
يقول الإمام أمير المؤمنين بهذا الشأن في عهده لمالك الأشتر: "وليكن أحبّ الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضى الرعية".

ونحن نرى: إنّ العالم يعاني اليوم من هذا الداء الوبيل، وتوجد في معظم البلدان طبقات ممتازة تتحكّم في مصير الشعب وتمسك – في الحقيقة – بزمام أمور الناس، وتوجّه السياسات المتّبعة في خدمة مصالحها وتتخذ القرارات بما يتلاءم ورغباتها. ويندرج في هذا الإطار ما نراه في الدول التي انفرزت فيها طبقة الأغنياء وأصحاب المصانع وذوو الثروات الطائلة والخيالية، كما هو الحال في الدول الغربية وأميركا، حيث تُتخذ كلّ التدابير لمصلحتهم.
وفي تلك الدول، لا يُسَنّ قانون ولا تُطرح فكرة ولا يتّبع أسلوب إلاّ ويكون متفقاً ومصالح تلك الطبقات، وإذا بدا وكأنّ الناس يحصلون على خير ما وراء تلك الأمور فإنّهم إنّما يقتاتون على فتات موائد الأغنياء والرأسماليين.
وفي بلدنا نفسه، كان الوضع في ظل النظام (الشاهنشاهي) البائد بهذا الشكل. فالأثرياء كانوا هم المقصودين، والمطلوب ودّهم، والممسكين بزمام الأمور، وكان الناس يسمّونهم (هزار فاميل) أي (الألف عائلة الأثرى).
بينما نرى أنّ الطبقة الممتازة – ردحاً من الزمن إبان تاريخ الإسلام – كانت عبارة عن الشعراء والعلماء، وشرائح اجتماعية متباينة، وكان يتوجّب على عامّة الناس أن تسمع لهم وتطيعهم، وتعمل وفق رغباتهم ولمصلحتهم، وهنا صار الناس وجهاً لوجه في مقابل الطبقة الممتازة.
في ذلك الحين، يحذّر الإمام أمير المؤمنين عليه السلام مالكاً الأشتر من ترجيح رضى الخواص على رضى عامّة الرعية، مؤكداً: "فإن سُخط العامّة يجحف بِرضى الخاصّة".

ولذلك ففي أيّ بلدى نرى أنّه كلما ازدادت نقمة عامة الناس على النظام الحاكم قلت فرص بقاء ذلك النظام في سدة الحكم.
وقد جرّبنا ذلك في بلدنا، إذ كان شعبنا ساخطاً أشدّ السخط على النظام الحاكم، وكان الحكم (الشاهنشاهي) يسعى لخطب ود الطبقات الممتازة وكسب رضاها، فكان الأثرياء والتجار والكبار والمنتجون البارزون، وأصحاب الأراضي الواسعة، والكثير من حملة الأقلام المأجورة، والشعراء والفنانين العملاء للنظام، من المقاتلين على فئات موائده؛ كانوا راضين عن ذلك النظام. أمّا عامة الناس فلم يكونوا راضين عنه، ولذلك رأيتم ماذا حصل.

ويضيف الإمام عليه السلام في رسالته إلى الأشتر رضوان الله عليه:
"وإنّ سخط الخاصّة يُغتفر مع رضى العامّة".
أي حينما تكون عامة الشعب راضية عنك فإن لم ترضَ عنك الطبقات الممتازة في البلاد فدعها لا ترضى، وإذا رضي عنك أفراد الطبقات المتوسطة والوضيعة من المجتمع فليغضب. بعد ذلك؛ ملاّكو الأراضي الواسعة والمصانع الكبرى وذوو الثروات الطائلة، ودع أولئك الذين يعتبرون أنفسهم من جنس أرقى، من جنس الشرائح الاجتماعية الأخرى يغضبون على جهاز الحكم.
لاحظوا أي خط واضح يرسمه لنا أمير المؤمنين عليه السلام وهذا هو ذات الخط البين والمنهج القويم الذي تنتهجه الحكومة الإسلامية، إذ لا تفضل على رضى العامّة رضى بعض الناس، والطبقات الممتازة والخواص، فالمهم أن تكون غالبية الشعب راضية عن جهاز الحكومة، فهم المستبسلون في ساحات الحرب، وهم المشاركون في صلوات الجمعة، والمساهمون مساهمةً فعالة في إسناد خلفية جبهات القتال، وهم الحاضرون في شتى ميادين الثورة، كانوا هكذا وما يزالون، والحكومة متعهدة وملتزمة بإدارة أمور هؤلاء ورعايتهم.
وثمّة أناس ساخطون حتماً على هذا الوضع، ولننظر من هم أفراد هذه الشريحة في الجمهورية الإسلامية، ومن الغاضبون من قيام هذه الجمهورية، ومن الذين لم يسعهم تحمّلها، فلم يلبثوا أن حزموا أمتعتهم وغادروا البلاد على عجل، فالذين تمكّنوا من الرحيل، والذين لم يفلحوا بمغادرة البلد ظلّوا فيه كارهين، يتمتمون بكلمات السخط والنقمة.

بينما نرى أن اثنين وعشرين مليوناً من القرويين وملايين آخرين من الشرائح الاجتماعية الأخرى كالعمّال وأبناء الطبقة المتوسطة من سكان المدن وذوي الحرف والمهن الحرّة والشرائح الثورية، كلهم راضون عن مسار الأمور، شاكرون لنعمة الله بأن منّ عليهم بزوال أسوأ الأنظمة في العالم عن الوجود، واستبداله بنظام إلهي وإسلامي، وبنظام يقف على قمّته فقيه وإنسان ورع متّق وعارف بالله وزاهد مفضال، كانوا وما يزالون يشكرون الله على ذلك، ويتحمّلون الصعاب والمعاناة والأزمات لأنّهم يرتضون هذا النظام ويحبّونه.
بيد أنّه ثمّة أشخاص مستعدون لكلّ شيء ما عدا حاكمية دين الله، وحاكمية عباده وأوليائه، وما عدا حاكمية المؤمنين، وهم يمقتون مصطلح (حزب الله) ويبغضون ملامح أبناء (حزب الله) ولا يطيقون رؤية وجوه الأشخاص الذين يحيون بالدين وللدين، ويعملون في سبيل الدين، ويجاهدون في سبيل الله.
وهذه الشرذمة من الأشخاص نزحت من البلاد، وصارت مشردة هنا وهناك في الدولة الأوروبية وأميركا وطبعاً فإنّهم – في الغالب – نادمون على ذلك.
بيدَ أنّ مبعث فخر النظام هو تمكّنه من كسب رضا عامّة الشعب، وهذا هو نهج الجمهورية الإسلامية، وهو النهج الذي علّمناه إياه أمير المؤمنين، يقول عليه السلام : "وإنّما عماد الدين، وجماع المسلمين، والعدّة للأعداء العامّة من الأمة".
هذا هو الدرس الذي يعلمنا إياه الإمام، وهذا هو معنى الحكومة الشعبية.

وفي رسالة أخرى خاطب فيها (محمد بن أبي بكر)، يقول عليه السلام :
"فاخفض لهم جناحك، وألِن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، وآس بينهم في اللحظة والنظرة".
حقاّ ما أروع هذه الدروس التي يعلّمنا إياها (أمير المؤمنين) إنّه يوصي الحاكم بأن يساوي بين الناس حتّى في نظرات عينيه وهو يتكلّم معهم، إنّه يوصي بالمساواة ويؤكّد على ذلك، ومن الواجب محو التمييز بين الناس، وينبغي أن يتعاون الشعب والمسؤولون على اقتلاع التمييز من جذوره، ولا يدعوه يضرب بجذوره ويتفشّى بينهم، فالإمام يكافح التمييز ويأمر بمحوه حتّى في اللحظة والنظرة فكيف بالأمر في احتياجات الناس فجهاز الدولة يجب أن يراعي المساواة والعدالة في توزيعه الإمكانات على الناس.
والناس مختلفون من حيث الملكية والثروة، فبعضهم يملك أموالاً أكثر مما لدى بعضهم الآخر، وقد اتضح في البحوث الاقتصادية في الإسلام أنّ المجتمع الإسلامي يتحمّل هذه الظاهرة ما دام التمييز منعدماً، وما لم يكن ثمة ظلم واحتكار أو طغيان من بعض الناس على بعضهم الآخر، وما دامت الثروة متجمعة من خلال الكسب الحلال، وما لم تكن مكتَسبة من الحرام والسرقة والغصب.

في هذه الحال يمكن تحمّل ظاهرة التباين في مستوى الملكية ومقدار الثروة، أمّا ما تقسمه الحكومة على الناس وما تعطيه الدولة الإسلامية للشعب فينبغي تقسيمه بالسويّة والعدل، وعلى الجمهورية الإسلامية أن تسرع في انتهاج هذا الأسلوب.
وأنتقل هنا إلى نقل بعض الصور الرائعة من شعبية أمير المؤمنين)ع) وعدالته وتفقده للرعية، نساءً ورجالاً وأطفالاً، مما كان يجعلهم يجرؤون على الحديث بشكل طبيعي مع الإمام.
يوماً، كان الإمام علي عليه السلام يتجول في أزقةّ (الكوفة). وأظنّ أن ذلك كان في أوائل دخوله هذه المدينة واتخاذها عاصمة لحكومته. فرأى امرأةً تحمل قِربة على رأسها وتتمتم مع نفسها ببعض الكلمات. وحين أنصت الإمام لها عرف أنّها تشكو (علي بن أبي طالب)، فاقترب منها وطلب إليها أن تعطيه القربة ليحملها نيابةً عنها، فأعطته إياها. ولم تكن تعرفه فحمل الإمام القربة على عاتقه ومشى أمامها ليوصلها إلى منزلها..

انظر – عزيزي القارئ – كيف يحمل الرجل الأول والمسؤول الأعلى في الدولة وصاحب المنصب الأرفع في المجتمع الإسلامي – الذي كان حاكماً لدولة كبرى تضمّ العديد من البلدان الحالية ومنها (إيران العراق ومصر والشام والجزيرة العربية) وغيرها – كيف يحمل قربة امرأة عادية..
على أية حال، مشى الإمام علي عليه السلام مع المرأة حتّى أوصلها إلى منزلها، فشكرته كثيراً، وأعربت عن سرورها لما قام به تجاهها، فسألها عن سبب انزعاجها وحزنها، وَكانت تشكو (علي بن أبي طالب) وتبدي تذمّرها منه فأجابته أنّها زوجة أحد جنوده، وكان زوجها قد استشهد مع الإمام في إحدى الحروب التي خاضها أيام خلافته، وأنّ أولاده ظلّوا يتامى ليس لهم من يرعاهم، واضطرّت هي أن تتحمّل عناء المسؤولية وتولّت رعايتهم، وظلّت تُنحي بالائمة على (علي بن أبي طالب) وتبدي تذمّرها منه.
فطلب إليها أمير المؤمنين أن يساعدها أكثر فأخذ يلاعب الأطفال اليتامى الجائعين ويلاطفهم بينما أخذت هي تعدّ الطحين وتعجنه لتخبز، ولفرط ما لاطف الإمام الأطفال فإنّهم لم يتوقفوا عن البكاء وذرف الدموع من الجوع فحسب، وإنّما طفقوا يضحكون ويستبشرون.

وبعد أن صار الطحين عجيناً، طلب الإمام إلى المرأة أن تسمح لها بأن يسجر التنور، ويسعّر النار كي تخبز، وبعد أن تصاعدت ألسنة اللهب ولفحت وجه أمير المؤمنين أخذ يتمتم الإمام مع نفسه: (ذُق يا علي) ويقول ما معناه: (هذه نار الدنيا فحسب وإنّما نار الآخرة أشد ضراورة ولهيباً).
ويبدو أن جارة تلك المرأة قد شاهدت الإمام – ربما من على سطح دارها أو أنّها دخلت منزل المرأة فرأته على تلك الحالة – فصاحت تلك المرأة وأنكرت عليها ما ترى وقالت لها: "ويحكم أتعرفين من هذا الرجل؟!" أجابت المرأة: لا، إنّه إنسان شهم تطوّع لمساعدتي وأخذ بسجر التنّور، فقالت لها: "ويحكِ إنّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام" وما إن سمعت المرأة كلام جارتها حتّى أجهشت بالبكاء وطفقت تذرف الدموع الغزار وتقول: عذراً يا أمير المؤمنين فإنّي لم أعرفك، وقد تجرأت عليك وقلت ما قلت، فأجابها الإمام عليه السلام بما معناه: أنا الذي أعتذر منكِ، إذ كان عليّ أن أبادر لخدمتكِ قبل هذا الحين لكنّني لم أفعل.
هذه حادثة تعكس لنا صورة مصغّرة عن شعبية حكومة أمير المؤمنين.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع